قوله تعالى : { للذين استجابوا } ، أجابوا ، { لربهم } ، فأطاعوه ، { الحسنى } الجنة ، { والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به } ، أي : لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداء من النار ، { أولئك لهم سوء الحساب } . قال إبراهيم النخعي : سوء الحساب : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له من شيء { ومأواهم } في الآخرة { جهنم وبئس المهاد } ، الفراش ، أي : بئس ما مهد لهم .
{ 18 } { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
لما بيّن تعالى الحق من الباطل ذكر أن الناس على قسمين : مستجيب لربه ، فذكر ثوابه ، وغير مستجيب فذكر عقابه فقال : { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ } أي : انقادت قلوبهم للعلم والإيمان وجوارحهم للأمر والنهي ، وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم ، فلهم { الْحُسْنَى } أي : الحالة الحسنة والثواب الحسن .
فلهم من الصفات أجلها ومن المناقب أفضلها ومن الثواب العاجل والآجل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ } بعد ما ضرب لهم الأمثال وبين لهم الحق ، لهم الحالة غير الحسنة ، ف { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } من ذهب وفضة وغيرها ، { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ } من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم وأنى لهم ذلك ؟ "
{ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ } وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه من عمل سيئ وما ضيعوه من حقوق الله وحقوق عباده قد كتب ذلك وسطر عليهم وقالوا : { يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } { و } بعد هذا الحساب السيئ { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } الجامعة لكل عذاب ، من الجوع الشديد ، والعطش الوجيع ، والنار الحامية والزقوم والزمهرير ، والضريع وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : المقر والمسكن مسكنهم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك عاقبة أهل الحق ، وعاقبة أهل الباطل فقال - تعالى - { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ . . }
أى : للمؤمنين الصادقين ، الذين أطاعوا ربهم في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه ، المثوبة الحسنى ، وهى الجنة .
فالحسنى يصح أن تكون صفة لموصوف محذوف ، ويصح أن تكون مبتدأ مؤخراً ، وخبره { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ } .
{ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } - سبحانه - ولم ينقادوا لأمره أو نهيه وهم الكفار { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } من أصناف الأموال ، ولهم أيضا { مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أى لهان عليهم - مع نفاسته وكثرته - أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب يوم القيامة .
فالضمير في قوله { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } يعود إلى ما في الأرض جميعا من أصناف الأموال وفى ذلك ما فيه من تهويل ما سيلقونه من عذاب أليم جزاء كفرهم وجحودهم .
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم فقال : { أولئك لَهُمْ سواء الحساب } أى : اولئك الذين لم يستجيبوا لربهم لهم الحساب السيئ الذي لا رحمة معه ، ولا تساهل فيه .
{ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أى : ومرجعهم الذي يرجعون إليه جهنم . { وَبِئْسَ المهاد } أى : وبئس المستقر الذي يستقرون فيه .
والمخصوص بالذم محذوف أى : مهادهم أو جهنم .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أوضح الأدلة وأحكمها على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وبينت حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين .
فمن استجاب لله فله الحسنى . والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به . وما هو بمفتد ، إنما هو الحساب الذي يسوء ، وإنما هي جهنم لهم مهاد . ويا لسوء المهاد ! :
( للذين استجابوا لربهم الحسنى ، والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ، أولئك لهم سوء الحساب ، ومأواهم جهنم . وبئس المهاد ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَىَ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنّ لَهُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ سُوَءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
يقول تعالى ذكره : أما الذين استجابوا لله فآمنوا به حين دعاهم إلى الإيمان به وأطاعوه فاتبعوا رسوله وصدّقوه فيما جاءهم به من عند الله ، فإن لهم الحسنى ، وهي الجنة . كذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِلّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهمُ الحُسْنَى وهي الجنة .
وقوله : وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أنّ لَهُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ يقول تعالى ذكره : وأما الذين لم يستجيبوا له حين دعاهم إلى توحيده والإقرار بربوبيته ، ولم يطيعوه فيما أمرهم به ، ولم يتبعوا رسوله فيصدّقوه فيما جاءهم به من عند ربهم ، فلو أنّ لهم ما فِي الأرض جميعا من شيء ومثله معه ملكا لهم ثم مثل ذلك وقُبِل ذلك منهم بدلاً من العذاب الذي أعدّه الله لهم في نار جهنم وعوضا لافتدوا به أنفسهم منه ، يقول الله : أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسابِ يقول : هؤلاء الذين لم يستجيبوا لله لهم سوء الحساب : يقول : لهم عند الله أن يأخذهم بذنوبهم كلها ، فلا يغفر لهم منها شيئا ، ولكن يعذّبهم على جميعها . كما :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا يونس بن محمد ، قال : حدثنا عون ، عن فَرقدٍ السّبَخِيّ ، قال : قال لنا شهر بن حَوُشب : سُوءُ الحِسابِ أن لا يتجاوز لهم عن شيء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : ثني الحجاج بن أبي عثمان ، قال : ثني فَرْقَدٍ السبَخِيّ ، قال : قال إبراهيم النخعيّ : يا فرقد أتدري ما سوء الحساب ؟ قلت : لا ، قال : هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يُغفر له منه شيء .
وقوله : ومَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ يقول : ومسكنهم الذي يسكنونه يوم القيامة جهنم . وَبِئْسَ المِهادُ يقول : وبئس الفِراش والوِطاء جهنم ، التي هي مأواهم يوم القيامة .
{ للذين استجابوا } للمؤمنين الذين استجابوا . { لربهم الحسنى } الاستجابة الحسنى . { والذين لم يستجيبوا له } وهم الكفرة واللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما . وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي المثوية أو الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره . { لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به } وهو على الأول كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين . { أولئك لهم سوء الحساب } وهو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء . { ومأواهم } مرجعهم . { جهنم وبئس المهاد } المستقر والمخصوص بالذم محذوف .
{ الذين استجابوا } : هم المؤمنون الذين دعاهم الله عز وجل على لسان رسوله فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه ، و { الحسنى } : هي الجنة وكل ما يختص به المؤمنون من نعم الله عز وجل ، { والذين لم يستجيبوا } هم : الكفرة ، و { سوء الحساب } هو : التقصي على المحاسب وأن لا يقع في حسابه من التجاوز شيء - قاله شهر بن حوشب وإبراهيم النخعي ، وقاله فرقد السبخي{[6959]} وغيره - و «المأوى » : حيث يأوي الإنسان ويسكن و { المهاد } : ما يفترش ويلبس بالجلوس والرقاد .
استئناف بياني لجملة { كذلك يضرب الله الأمثال } ، أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره .
فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين . ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى ، وأما المشركون فأعرضوا ولم يعقلوا الأمثال ، قال تعالى : { وما يعقلها إلا العالمون } [ سورة العنكبوت : 43 ] ، فكان جزاؤهم عذاباً عظيماً وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم . فمعنى { استجابوا لربهم } استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره .
وقوله : { الحسنى } مبتدأ و { للذين استجابوا } خبره . وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله : { للذين استجابوا } { والذين لم يستجيبوا } إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين .
وتقديم المسند في قوله : { للذين استجابوا لربهم الحسنى } لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشأن الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه ، وفي ذلك تنويه بها أيضاً .
وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم . وتقدم نظير قوله : { لو أن لهم ما في الأرض جميعاً } في سورة العقود ( 36 ) .
وأتي باسم الإشارة في أولئك لهم سوء الحساب } للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة .
و { سوء الحساب } ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحساب . وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل .