الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (18)

قوله تعالى : { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب " يَضْرِب " وبه بدأ الزمخشريُّ . قال : " أي : كذلك يضرب الأمثالَ للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يَسْتَجيبوا " . والحُسْنى صفةٌ لمصدرِ " استجابوا " ، اي : استجابوا الاستجابةَ الحُسْنى . وقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ } كلامٌ مبتدأٌ في ذِكْر ما أعَدَّ لغيرِ المستجيبين " . قال الشيخ : " والتفسيرُ الأولُ أَوْلى " يعني به أنَّ " للذين " خبرٌ مقدَّم ، و " الحُسْنى " مبتدأ مؤخر كما سيأتي إيضاحُه .

قال : " لأن فيه ضَرْبَ الأمثالِ غيرُ مقيَّدٍ بمثل هذين ، واللهُ تعالى قد ضَرَبَ أمثالاً كثيرةً في هذين وفي غيرِهما ، ولأنَّ فيه ذِكْرَ ثواب المستجيبين ، بخلاف قولِ الزمخشريِّ ، فكما ذَكَر ما لغير المستجيبين من العقابِ ذَكَر ما للمستجيبين من الثَّواب ، ولأنَّ تقديرَه بالاستجابة الحُسْنَى مُشْعِرٌ بتقييدِ الاستجابة ، ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابةِ مطلقاً ، إنما مقابلُها نفيُ الاستجابةِ الحسنى ، واللهُ تعالى قد نفى الاستجابةِ مطلقاً ، ولأنَّه على قولِه يكون قولُه { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ } مُفْلَتاً أو كالمُفْلَتِ ؛ إذ يصير المعنى : كذلك يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للمؤمنين وللكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيبُ بحرفٍ رابطٍ " لو " بما قبلَها زال التفلُّت ، وأيضاً فيُوهِمُ الاشتراكَ في الضمير ، وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً " .

قلت : قوله " لأنَّ فيه ضرْبَ الأمثال غيرُ مقيَّدٍ " ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التقييدَ . وقوله : " ولأنَّ فيه ذِكْرُ ثوابِ المستجيبين " إلى آخره ، ما ذكره الزمخشري ايضاً يُؤْخذ مِنْ فحواه ثوابُهم . وقوله " واللهُ تعالى نفى الاستجابة مطلقاً " ممنوعٌ ؛ بل نفى تلك الاستجابةَ الأولى ، لا يُقال : فَثَبَتَتْ استجابةٌ غيرُ حسنى ؛ لأنَّ هذه الصفةَ لا مفهومَ لها ؛ إذ الواقعُ أنَّ الاستجابةَ لله لا تكون إلا حُسْنى . وقوله : " يصيرُ مُفْلَتاً " كيف يكون مُفْلَتاً مع قول الزمخشري : [ كلامٌ ] مبتدأٌ في ذِكْر ما أعدَّ لهم ؟ وقوله : " وأيضاً فيوهِمُ الاشتراك " كيف يُتَوَهَّمُ هذا بوجه من الوجوه ؟ وكيف يقول ذلك مع قوله " وإنْ كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً " فإذا عُلِم كيف يُتوَهَّم ؟

والوجه الثاني : أن يكونَ " للذين " خبراً مقدَّماً ، والمبتدأ " الحُسْنَى " ، و { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأٌ ، وخبرُه الجملةُ الامتناعيةُ بعده . ويجوز على الوجه الأول أن يكون { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأً ، وخبره الجملةُ الامتناعية بعده ، وإنما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا ، لانتفاعِهم دونَ غيرِهم .