قوله تعالى : { قال هي عصاي } قيل : وكانت لها شعبتان في أسفلها سنان ولها محجم . قال مقاتل : اسمها نبعة { أتوكأ عليها } أعتمد عليها إذا مشيت ، وإذا أعييت ، وعند الوثبة { وأهش بها على غنمي } أضرب بها الشجرة اليابسة ليسقط ورقها ، فترعاه الغنم وقرأ عكرمة : وأهس بالسين غير المعجمة أي : أزجر بها الغنم . والهس : زجر الغنم . { ولي فيها مآرب أخرى } حاجات ومنافع أخرى جمع مأربة بفتح الراء ، ولم يقل أخر لرؤوس الآي . وأراد بالمآرب : ما يستعمل فيه العصا في السفر ، فكان يحمل بها الزاد ويشد بها الحبل ، فيستقي الماء من البئر ، ويقتل بها الحيات ، ويحارب بها السباع ، ويستظل بها إذا قعد وغير ذلك . وروى عن ابن عباس أن موسى كان يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تماشيه وتحادثه وكان يضرب بها الأرض ، فيخرج ما يأكل يومه ويركزها ، فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب الماء ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصنت غصنا كالشجرة وأورقت وأثمرت ، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها ، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي ، وكانت تضيء بالليل بمنزلة السراج وإذا ظهر له عدو كانت تحارب وتناضل عنه .
{ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } ذكر فيها هاتين المنفعتين ، منفعة لجنس الآدمي ، وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه ، فيحصل فيها معونة . ومنفعة للبهائم ، وهو أنه كان يرعى الغنم ، فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه ، هش بها ، أي : ضرب الشجر ، ليتساقط ورقه ، فيرعاه الغنم .
هذا الخلق الحسن من موسى عليه السلام ، الذي من آثاره ، حسن رعاية الحيوان البهيم ، والإحسان إليه دل على عناية من الله له واصطفاء ، وتخصيص تقتضيه رحمة الله وحكمته .
{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ } أي : مقاصد { أُخْرَى } غير هذين الأمرين . ومن أدب موسى عليه السلام ، أن الله لما سأله عما في يمينه ، وكان السؤال محتملا عن السؤال عن عينها ، أو منفعتها أجابه بعينها ، ومنفعتها
{ قَالَ هِيَ عَصَايَ } أى : الشىء الذى بيمينى هو عصاى . . . ونسبها إلى نفسه لزيادة التحقق والتثبت من أنها خاصة به وكائنة بيده اليمنى .
ثم بين وظيفتها فقال : { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أى : أعتمد عليها لتساعدنى فى حال السير { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } أى : وأضرب بها الشجر اليابس ليسقط ، ورقة فترعاه أغنامى . يقال هش فلان الشجرة بالعصا - من باب رد - فهو يهشها هشا ، إذا ضربها بعصاه أو بما يشبهها ليتساقط ورقها . ومفعول أهش محذوف . أى : وأهش بها الشجر والورق .
{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } والمآرب : جمع مأربة - بتثليث الراء - بمعنى حاجة . تقول : لا أرَب لى في هذا الشىء ، أى : لا حاجة لى فيه .
أى : ولى فى هذه العصا حاجات أخرى ، ومنافع غير التى ذكرتها .
وقد كان يكفى موسى - عليه السلام - فى الجواب أن يقول : هى عصاى ، ولكنه أضاف إلى ذلك أتوكأ عليها وأهش بها على غنمى . . . لأن المقام يستدعى البسط والإطالة فى الكلام ، إذ هو مقام حديث العبد مع خالقه ، والحبيب مع حبيبه .
وأجمل فى قوله : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } إما حياء من الله - تعالى - لطول الكلام فى الجواب ، وإما رجاء أن يسأل عن هذه المآرب المجلمة ، فيجيب عنها بالتفصيل تلذذا فى الخطاب .
قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل ، لأنه لما قال : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } ذكر معانى أربعة وهى : إضافة العصا إليه ، وكان حقه أن يقول عصا ، والتوكؤ ، والهش ، والمآرب المطلقة .
فذكر موسى من منافع عصاه معظمها .
وفى الحديث : سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت : " ألهذا حج ؟ قال : " نعم ولك أجر " " .
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لقوله { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } وقد تكلف بعضهم لذكر شىء من تلك المآرب التى أبهمت ، فقيل : كانت تضىء له بالليل ، وتحرس له الغنم إذا نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظلله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة .
والظاهر أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانا ، ولما فر منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية .
إنها عصاه . ولكن أين هو من عصاه ? إنما يتذكر فيجيب :
( قال : هي عصاي ، أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ) . .
والسؤال لم يكن عن وظيفة العصا في يده . إنما كان عما في يمينه . ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل ، فهي واضحة ، إنما عن وظيفتها معه . فأجاب . .
ذلك أقصى ما يعرفه موسى عن تلك العصا : أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط فتأكلها الغنم - وقد كان يرعى الغنم لشعيب . وقيل : إنه ساق معه في عودته قطيعا منها كان من نصيبه . وأن يستخدمها في أغراض أخرى من هذا القبيل أجملها ولم يعددها لأن ما ذكره نموذج منها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشّ بِهَا عَلَىَ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى : قال موسى مجيبا لربه : " هِيَ عَصَايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " يقول : أضرب بها الشجر اليابس فيسقط ورقها وترعاه غنمي ، يقال منه : هشّ فلان الشجر يهشّ هشا : إذا اختبط ورق أغصانها فسقط ورقها كما قال الراجز :
أهُشّ بالْعْصَا عَلى أغْنامِي *** مِنْ ناعِمِ الأَرَاكِ والْبَشامِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أخبط بها الشجر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أخبط .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمي " قال : كان نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم يهشّ على غنمه ورق الشجر .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وأَهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " يقول : أضرب بها الشجر للغنم ، فيقع الورق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " هيَ عَصَايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وأهُشّ بِها عَلى غَنَمي " قال : يتوكأ عليها حين يمشي مع الغنم ، ويهشّ بها ، ويحرّك الشجر حتى يسقط الورق الحبَلة وغيرها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن عكرمة " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أضرب بها الشجر ، فيسقط من ورقها عليّ .
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : سمعت عكرِمة يقول " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أضرب بها الشجر ، فيتساقط الورق على غنمي .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " وأهُشّ بِا عَلى غَنَمِي " يقول : أضرب بها الشجر حتى يسقط منه ما تأكل غنمي .
وقوله : " وَليَ فيها مآرِبُ أُخْرَى " يقول : ولي في عصاي هذه حوائج أخرى ، وهي جمع مأربة ، وفيها للعرب لغات ثلاث : مأرُبة بضم الراء ، ومأرَبة بفتحها ، ومأرِبه بكسرها ، وهي مفعلة من قولهم : لا أرب لي في هذا الأمر : أي لا حاجة لي فيه . وقيل «أخرى » وهن مآرب جمع ، ولم يقل أُخر ، كما قيل : لَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى وقد بيّنت العلة في توجيه ذلك هنالك . وبنحو الذي قلنا في معنى المآرب ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا حفص بن جميع ، قال : حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : " وَلي فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حوائج أخرى قد علمتها .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله " وَلي فِيها مآرِبُ أُخْرَى " يقول : حاجة أخرى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " وَلِيَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات ومنافع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " يقول : حوائج أخرى أحمل عليها المزود والسقاء .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حوائج أخرى .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات منافع أخرى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " : أي منافع أخرى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حوائج أخرى سوى ذلك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات أخرى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} موسى عليه السلام {هي عصاي أتوكؤا عليها} يقول: أعتمد عليها إذا مشيت {وأهش بها على غنمي} يقول: أخبط بها الشجر فيتهاش الورق في الأرض، فتأكله غنمي إذا رعيتها... {ولي فيها} يعني: في العصا {مئارب أخرى}، يعني: حوائج أخرى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قول تعالى ذكره مخبرا عن موسى: قال موسى مجيبا لربه:"هِيَ عَصَايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي" يقول: أضرب بها الشجر اليابس فيسقط ورقها وترعاه غنمي، يقال منه: هشّ فلان الشجر يهشّ هشا: إذا اختبط ورق أغصانها فسقط ورقها... قال ابن زيد، في قوله: "هيَ عَصَايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وأهُشّ بِها عَلى غَنَمي "قال: يتوكأ عليها حين يمشي مع الغنم، ويهشّ بها، ويحرّك الشجر حتى يسقط الورق الحبَلة وغيرها...
وقوله: "وَليَ فيها مآرِبُ أُخْرَى" يقول: ولي في عصاي هذه حوائج أخرى، وهي جمع مأربة... وهي مفعلة من قولهم: لا أرب لي في هذا الأمر: أي لا حاجة لي فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال لمَّا باسطه الحقُّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب، فأجاب عما يُسْأَل وعمَّا لم يُسْأَل فقال: {وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
[{وَلِي فِيهَا مَئَارِبُ أخرى}] ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال: ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان. ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه، ويجوز أن يريد عزّ وجلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة، كأنه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل بشأنها؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال هي} أي ظاهراً وباطناً {عصاي} ثم وصل به مستأنساً بلذيذ المخاطبة قوله بياناً لمنافعها خوفاً من الأمر بإلقائها كالنعل: {أتوكأ} أي أعتمد وأرتفق وأتمكن {عليها} أي إذا أعييت أو أعرض لي ما يحوجني إلى ذلك من زلق أو هبوط أو صعود أو طفرة أو ظلام ونحو ذلك؛ ثم ثنى بعد مصلحة نفسه بأمر رعيته فقال: {وأهشُّ} أي أخبط الورق، قال ابن كثير: قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: والهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ولا يخبط فهذا الهش، قال: وكذا قال ميمون بن مهران، وقال أبو حيان: والأصل في هذه المادة الرخاوة.
ولما كان أكمل أهل ذلك الزمان، خاف التطويل على الملك فقطع على نفسه ما هو فيه من لذة المخاطبة كما قيل: اجلس على البساط وإياك والانبساط، وطمعاً في سماع كلامه سبحانه وتعالى، فقال مجملاً: {ولي فيها مآرب} أي حوائج ومنافع يفهمها الألبّاء. ولما كان المحدث عنه لا يعقل، وأخبر عنه بجمع كثرة، كان الأنسب معاملته معاملة الواحدة المؤنثة فقال: {أخرى} تاركاً للتفصيل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها عصاه. ولكن أين هو من عصاه؟ إنما يتذكر فيجيب: (قال: هي عصاي، أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).. والسؤال لم يكن عن وظيفة العصا في يده. إنما كان عما في يمينه. ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل، فهي واضحة، إنما عن وظيفتها معه. فأجاب.. ذلك أقصى ما يعرفه موسى عن تلك العصا: أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط فتأكلها الغنم -وقد كان يرعى الغنم لشعيب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه. وبُنيت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله {بِيَمِينِكَ}، ووقع الظرف حالاً من اسم الإشارة، أي ما تلك حال كونها بيمينك؟. ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جرياً على الظاهر، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأنّ شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلاّ والسائل يريد من سؤاله أمراً غير ظاهر، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع: « أيُّ يوم هذا؟» سكت النّاس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه. وفي رواية أنهم قالوا: « الله ورسوله أعلم، فقال: أليس يوم الجمعة؟...» إلى آخره...
ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأنّ المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وخلاصة القول، أن الاستفهام توجيه لذهن موسى عليه السلام إلى أن ينظر في حقيقتها لكي يدرك من بعد وجه الإعجاز إذا رأى حالها بعد ذلك في الحال التي تتحول إليها...
وكانت هذه العصا بعد ذلك أداة ظاهرة للمعجزات فبها ضرب البحر فافترق، وكان كل فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر فانبجست منه اثننا عشرة عينا.
قال موسى: {هي عصاي}، ثم يفتح لنفسه مجالا آخر للكلام: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد، فيحاول الاختصار: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)}. وكان موسى ينتظر سؤالا يقول: وما هذه المآرب؟ ليطيل أنسه بربه، وإذا كان الخطاب مع الله فلا ينهيه إلا زاهد في الله.