قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } . قال أكثر أهل التفسير : كانت قرية يقال لها : داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون ، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة ، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها ، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها ، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح ، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا فماتوا جميعاً .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " . فرجع عمر من سرغ .
قال الكلبي ومقاتل والضحاك : إنما فروا من الجهاد ، وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم ، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء ، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى الملك ذلك قال : اللهم رب يعقوب ، وإله موسى وهارون ، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلما خرجوا قال لهم الله تعالى : موتوا ، عقوبة لهم ، فماتوا جميعاً وماتت دوابهم ، كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم ، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها . واختلفوا في مبلغ عددهم ، قال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف ، وقال وهب : أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف ، وقال أبو روق : عشرة آلاف ، وقالى السدي : بضعة وثلاثون ألفاً ، وقال ابن جريج : أربعون ألفاً ، وقال عطاء ابن رباح : سبعون ألفاً ، وأولى الأقاويل : قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن الله تعالى قال ( وهم ألوف ) والألوف جمع الكثير وجمعه القليل " آلاف " ، " والألوف " لا يقال لما دون عشرة آلاف ، قالوا : فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم ، وعريت عظامهم ، فمر عليهم نبي يقال له ، حزقيل بن بودى ، ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام ، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون ، ثم كالب بن وقنا ، ثم حزقيل ، كان يقال له ابن العجوز ، لأن أمه كانت عجوزا ، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها . قال الحسن ، ومقاتل : هو ذو الكفل ، وسمي حزقيل ذا الكفل ، لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل ، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم ، فجعل يتفكر فيهم متعجبا ، فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية ؟ قال : نعم . فأحياهم الله وقيل : دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم . وقال مقاتل والكلبي : هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام ، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى ، فبكى وقال : يا رب كنت في قوم يحمدونك ، ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك ، فبقيت وحيداً لا قوم لي ، فأوحى الله تعالى إليه : أني جعلت حياتهم إليك ، قال حزقيل : احيوا بإذن الله ! فعاشوا . قال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوباً إلا عاد دنساً مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، قال قتادة : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ، ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا ، فذلك قوله تعالى : ( ألم تر ) أي ألم تعلم بإعلامي إياك ، وهو من رؤية القلب . قال أهل المعاني : هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم ؟ كما تقول : ألم تر إلى ما يصنع فلان ؟ وكل ما في القرآن ( ألم تر ) ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا وجهه ( ألم ترى إلى الذين خرجوا من ديارهم ) .
قوله تعالى : { وهم ألوف } . جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم : جمع آلف مثل قاعد وقعود ، والصحيح أن المراد منه العدد .
قوله تعالى : { حذر الموت } . أي خوف الموت .
قوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا } . أمر تحويل كقوله تعالى ( كونوا قردة خاسئين ) .
قوله تعالى : { ثم أحياهم } . بعد موتهم .
قوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } . قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا ، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين .
قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } . أما الكفار فلم يشكروا ، وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم ، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره ، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت ، ولكن لا يغني حذر عن قدر ، { فقال الله لهم موتوا } فماتوا { ثم } إن الله تعالى { أحياهم } إما بدعوة نبي أو بغير ذلك ، رحمة بهم ولطفا وحلما ، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى ، ولهذا قال : { إن الله لذو فضل } أي : عظيم { على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون } فلا تزيدهم النعمة شكرا ، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه ، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ . . . }
قال الآلوسي : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَر } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي - كالأحبار وأهل التواريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب ، بأن شبه من " لم ير " الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى ، قصداً إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب . ثم قال : والرؤية إما بمعنى الإِبصار مجازاً عن النظر ، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار ، لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده ، وإما بمعنى الإِدراك القلبي متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت - أي الرؤية - بإلى في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ . . } .
والمعنى : قد علمت أيها الرسول الكريم أو أيها الإنسان العاقل - حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التي ألفوها واستوطنوها ، وهم ألوف مؤلفة ، وكثرة كاثرة ، وما كان خروجهم إلا فراراً وخوفاً من الموت الذي سيلاقيهم - إن عاجلا أو آجلا - .
ومن لم يعلم حالهم فها نحن أولاء نعلمه بها ونحيطه بما جرى لهم عن طريق هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعاً على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعاً وجبناً ، وتحريضهم على القتال في سبيل الله فقد قال - تعالى - بعد ذلك : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . . . } وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدي إلا إلى الوقوع فيه .
وقوله : { وَهُمْ أُلُوفٌ } جملة حالية من الضمير في { خَرَجُواْ } و { أُلُوفٌ } جمع ألف . والتعبير بألوف يفيد أنهم كانوا كثيرى العدد ، ومن شأن الكثرة أنها تدعو إلى الشجاعة ولكنهم مع هذه الكثرة قد استولى عليهم الجبن فخرجوا من ديارهم هرباً من الموت .
وقيل إن معنى { وَهُمْ أُلُوفٌ } أنهم خرجوا مؤتلفي القلوب ، ولم يخرجوا عن افتراق كان منهم ، ولا عن تباغض حدث بينهم . وألوف على هذا القول جمع آلف مثل قاعد وقعود وشهود . قالوا : والوجه الأول أجدر بالاتباع لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم ، ولأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .
وقوله : { حَذَرَ الموت } أي خرجوا لحذر الموت وخشيته ، فقوله : { حَذَرَ } منصوب على أنه مفعول لأجله . الجملة الكريمة تشير إلى أن خروجهم كان الباعث عليه الحرص على مطلق حياة ولو كانت حياة ذل ومهانة ، وأنه لم يكن هناك سبب معقول يحملهم على هذا الخروج ، ولذا كانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله - تعالى - بالموت الذي هوبوا منه فقال :
{ فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } أي : فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم بعد ذلك .
فجملة { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } معطوفة على مقدر يستدعيه المقام أي ، فماتوا ثم أحياهم . وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده - تعالى - عن إرادته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } قلت : معناه فأماتهم وإنما جيء به على هذه الصورة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوا امتثالا من غير إباء ولا توقف كقوله - تعالى - { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ، ولم ينفع منه مفر ، فأولى أن يكون في سبيل الله .
وقال الجمل : " فإن قلت هذا يقتضي أن هؤلاء ماتوا مرتين وهو مناف للمعروف من أن موت الخلق مرة واحدة ؟ قلنا في الجواب : لا منافاة إذ الموت هنا عقوبة مع بقاء الأجل كما في قوله في قصة موسى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وثم موت بانتهاء الأجل ، وتلخيصه : أنه - سبحانه - أماتهم قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة - أي في الدنيا - بخلاف ميتة الأجل - فلا حياة بعدها في الدنيا - . . "
وبعد هذا البيان لمعنى الآية قد يقال : من هم أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ؟ وهل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة ؟
للإِجابة على السؤال الأول نقول : لم يرد حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه من هؤلاء القوم وفي أي زمن كانوا ، وإنما أورد بعض المفسرين عن بعض الصحابة والتابعين روايات فيها مقال ، وفيها تفصيلات نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها . ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون ، حتى إذا كانوا بموضع كذا أو كذا ماتوا . . ثم أحياهم الله بدعوة دعاها نبيهم .
ومنها أنهم - قوم من بني إسرائيل - فروا من الجهاد حين أمرهم الله به على لسان نبيهم " حزقيل " وخافوا من الموت في الجهاد فخرجوا من ديارهم فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد . . " .
قال القرطبي بعد أن ساق هذه الرواية : وقال ابن عطية : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله - تعالى - أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من جاء من بعدهم أن الإِماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر .
وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد . وهذا قول الطبري وهو ظاهر وصف الآية والذي نراه أن الرواية الثانية التي تقول : إنهم قوم من بني إسرائيل فروا من الجهاد حين أمرهم الله به . . معقولة المعنى ، ويؤيدها سياق الآيات ، لأن الآيات تحض الناس على القتال في سبيل الله ، وتسوق لهم قصة هؤلاء القوم لكي يعتبروا ويتعظوا ولا يتخلفوا عن الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة - كما قال الإِمام على بن أبي طالب - ولأن قوله - تعالى : { وَهُمْ أُلُوفٌ } يشعر بأنهم مع كثرة عددهم قد نكصوا على أعقابهم ، وفروا من وجوه أعدائهم وهذا شأن بني إسرائيل في كثير من أدوار تاريخهم وما قاله ابن عطية يشير إليها فهو يقول : وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين . . . بالجهاد . إلا أنه آثر وصفهم بأنهم قوم من البشر .
وللإِجابة على السؤال الثاني وهو - هل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة - نقول : مبلغ علمنا أن المفسرين مجمعون على أن الموت كان موتاً حقيقياً حسياً لهم ، وأن إعادتهم إلى الحياة بعد ذلك كانت إعادة حقيقية حسية .
وقد خالف الأستاذ الإِمام محمد عبده إجماع المفسرين هذا فرأى أن المراد بالموت في الآية الموت المعنوي بمعنى أن موت الأمم إنما هو في جبنها وذلتها وأن حياتها إنما تكون في عزتها وحريتها ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه .
" . . والمتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم ، فقد كانوا ألوفاً أي كثيرين ، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء ، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله ، قال أبو الطيب :
يرى الجبناء أن الجبن حزم . . . وتلك خديعة الطبع اللئيم
ثم قال : لقد خرجوا فارين { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } أي أماتهم بإمكان العدو منهم . . . فمعنى أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة ، بأن تفرق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكل من بقي من أفرادها بقي خاضعاً للغالبين ضائعاً فيهم ، لا وجود له في نفسه ، وإنما وجوده تابع لوجود غيره .
ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم ، ذلك أن من رحمة الله في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم ، ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة .
أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الخوف والجبن والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها ، فجمعوا كلمتهم ، ووثقوا رابطتهم ، حتى عادت لهم وحدتهم ، فاعتزوا وكثروا حتى خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال فهذا معنى حياة الأمم وموتها " .
فأنت ترى أن الأستاذ الإِمام يرى أن الموت والحياة في الآية معنويان ، بمعنى أن موت الأم في جبنها وذلتها ، وحياتها في استقلالها وحريتها .
ولعله - رحمه الله - قد اتجه هذا الاتجاه لأن الحض على القتال في سبيل الله واضح في هذه الآيات ، ولأنه يرى أن واقع العالم الإِسلامي يومئذ وما أصابه من ظلم واستبداد واستلاب للحرية يدعوه إلى أن يحرض المسلمين على القتال في سبيل حقهم المسلوب ، وأن يحذرهم من سوء عاقبة الجبن والخنوع .
ومع أننا لا نشك في الدوافع الطيبة والبواعث الكريمة التي جعلت الأستاذ الإِمام يتجه هذا الاتجاه ، إلا أننا لا نتردد في اختيار ما ذهب إليه المفسرون من أن الموت والحياة في الآية حسيان حقيقيان ، لأنه هو الظهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه يتجه اتجاهاً أعم من اتجاه الإِمام محمد عبده ، لأن المفسرين يرون أن الآية واضحة في إثبات قدرة الله وفي صحة البعث ، وفي الحض على القتال في سبيل الله .
قال بعض العلماء : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } الآية . " كان المشركون يستفتون اليهود في كثير من الأمور وكانت هذه القصة معلومة لليهود في أسفارهم وتواريخهم ، فنزل القرآن بالإِشارة إليها ليرتدع المشركون عما هم فيه من الضلال وإنكار البعث ، ويعلموا أن دلائل القدرة على البعث مشهورة ، وأن عند اليهود منها ما لو رجعوا إليهم فيه لعلموا أنه حق لا ريب فيه . وفي ذكر هذه القصة مع ذلك تشجيع للمؤمنين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وتمهيد لما بعد هذه الآية " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي : إن الله - تعالى - لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة ، وخلق لهم عقولا ليهتدوا بها إلى طريق الخير ، وسخر لهم الكثير مما في هذا الكون . فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه ، ولكن الذي حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون الله - تعالى - على ما منحهم من نعم .
وفي قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } إنصاف للقلة الشاكرة منهم ، ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم .
فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص :
( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؛ فقال لهم الله : موتوا . ثم أحياهم . إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) . .
لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات ، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . . من هم ؟ وفي أي أرض كانوا ؟ وفي أي زمان خرجوا ؟ . . . . فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين ، كما يجيء القصصالمحدد في القرآن . إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها . وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها . .
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة ، وأسبابهما الظاهرة ، وحقيقتهما المضمرة ؛ ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة . والاطمئنان إلى قدر الله فيهما . والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع ، فالمقدر كائن ، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف . .
يراد أن يقال : إن الحذر من الموت لا يجدي ؛ وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة ، ولا يمدان أجلا ، ولا يردان قضاء ؛ وإن الله هو واهب الحياة ، وهو آخذ الحياة ؛ وإنه متفضل في الحالتين : حين يهب ، وحين يسترد ؛ والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد . وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ؛ وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء :
( إن الله لذو فضل على الناس . ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) .
إن تجمع هؤلاء القوم ( وهم ألوف )وخروجهم من ديارهم ( حذر الموت ) . . لا يكون إلا في حالة هلع وجزع ، سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم ، أو من وباء حائم . . إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا :
( فقال لهم الله . . موتوا ) . .
كيف قال لهم ؟ كيف ماتوا ؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا ؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا ؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل ، لأنه ليس موضع العبرة . إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر ، لم تغير مصيرهم ، ولم تدفع عنهم الموت ، ولم ترد عنهم قضاء الله . وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله . .
كيف ؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة ؛ هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء ؟ . . ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل . فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل ، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير . . إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير منهم . في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم .
إن الهلع لا يرد قضاء ؛ وإن الفزع لا يحفظ حياة ؛ وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء . . إذن فلا نامت أعين الجبناء !
القول في تأويل قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " ألم تر " ، ألم تعلم ، يا محمد ؟ وهو من " رؤية القلب " لا " رؤية العين " ، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر ، و " رؤية القلب " : ما رآه ، وعلمه به . فمعنى ذلك : ألم تعلم يا محمد ، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ؟ ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وهم ألوف " . فقال بعضهم : في العدد ، بمعنى جماع " ألف " . ذكر من قال ذلك :
5596- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع= قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، كانوا أربعة آلاف ، خرجوا فرارا من الطاعون ، قالوا : " نأتي أرضا ليس فيها موت " ! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا ، قال لهم الله : " موتوا " . فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم ، فأحياهم ، فتلا هذه الآية : ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .
5597- حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم الله ، فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم .
5598- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان ، فشكوا ما أصابهم وقالوا : " يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه " ! فأوحى الله إلى حزقيل : إن قومك صاحوا من البلاء ، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا ، وأي راحة لهم في الموت ؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا ، فإن فيها أربعة آلاف قال وهب : وهم الذين قال الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فقم فيهم فنادهم ، وكانت عظامهم قد تفرقت ، فرقتها الطير والسباع . فناداهم حزقيل فقال : " يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي " ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا . ثم نادى ثانية حزقيل فقال : " أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم " ، فاكتست اللحم ، وبعد اللحم جلدا ، فكانت أجسادا . ثم نادى حزقيل الثالثة فقال : " أيتها الأرواح ، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك " ! فقاموا بإذن الله ، وكبروا تكبيرة واحدة .
5599- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، يقول : عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم ، فذلك قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
5600- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أشعث بن أسلم البصري قال : بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= فقال أحدهم لصاحبه ، أهو هو ؟ فلما انفتل عمر قال : أرأيت قول أحدكما لصاحبه : أهو هو ؟ فقالا إنا نجده في كتابنا : " قرنا من حديد ، يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيى الموتى بإذن الله " . فقال عمر : ما نجد في كتاب الله " حزقيل " ولا " أحيى الموتى بإذن الله " ، إلا عيسى . فقالا أما تجد في كتاب الله وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، فقال عمر : بلى ! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك : إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء ، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله ، فبنوا عليهم حائطا ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله ، فبعثهم الله له ، فأنزل الله في ذلك : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، الآية .
5601- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الحجاج بن أرطأة قال : كانوا أربعة آلاف .
5602- حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، إلى قوله : ( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، قال : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط ، وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها ، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون ، فلم يمت منهم كبير . فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا بقينا ! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ! فوقع في قابل فهربوا ، وهم بضعة وثلاثون ألفا ، حتى نزلوا ذلك المكان ، وهو واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا ! فماتوا ، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم ، مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه ، فأوحى الله إليه : يا حزقيل ، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم ؟ قال : وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقال : نعم ! فقيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تجتمعي ! " ، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض ، حتى كانت أجسادا من عظام ، ثم أوحى الله إليه أن ناد : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما " ، فاكتست لحما ودما ، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها . ثم قيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي " ، فقاموا .
5603- حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، قال : فزعم منصور بن المعتمر ، عن مجاهد : أنهم قالوا حين أحيوا : " سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت " ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .
5604- حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة ، عن عطاء الخراساني : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر .
5605- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، حظر عليهم حظائر ، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا ، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية .
5606- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع ، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز ، وإنما سمي " ابن العجوز " أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت ، فوهبه الله لها ، فلذلك قيل له " ابن العجوز " وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . .
5607- حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون ، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت ، وهم ألوف ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله : " موتوا " ، فماتوا جميعا . فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، ثم تركوهم فيها ، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور ، حتى صاروا عظاما نخرة ، فمر بهم حزقيل بن بوزى ، فوقف عليهم ، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم ، فقيل له : أتحب أن يحييهم الله ؟ فقال : نعم ! فقيل له : نادهم فقل : " أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت ، ليرجع كل عظم إلى صاحبه " . فناداهم بذلك ، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل : " أيها اللحم والعصب والجلد ، اكس العظام بإذن ربك " ، قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار ، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح . ثم دعا لهم بالحياة ، فتغشاه من السماء شيء كربه حتى غشي عليه منه ، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : " سبحان الله ، سبحان الله " قد أحياهم الله .
وقال آخرون : معنى قوله " وهم ألوف " وهم مؤتلفون . ذكر من قال ذلك :
5608- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قول الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " ، قال : قرية كانت نزل بها الطاعون ، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة ، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت ، والتي خرجت لم يصبهم شيء . ثم ارتفع ، ثم نزل العام القابل ، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث ، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم ، فقال الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، ليست الفرقة أخرجتهم ، كما يخرج للحرب والقتال ، قلوبهم مؤتلفة ، إنما خرجوا فرارا . فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة ، قال لهم الله : " موتوا " ، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة . فماتوا ، ثم أحياهم الله ، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ " ، فأماته الله مائة عام .
ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون .
5609- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال . خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم قبل آجالهم ، ثم أحياهم إلى آجالهم .
5610- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : فروا من الطاعون ، فقال لهم الله : ( مُوتُوا ) ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم .
5611- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس وبقي أناس ، فهلك الذين بقوا في القرية ، وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية ، فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي . فنجى الله الذين خرجوا ، وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [ وقد أنكروا قريتهم ، ومن تركوا ] . وكثروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم ؟
5612- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
5613- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " الآية ، مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم الله عقوبة ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم .
5614- حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن هلال بن يساف في قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا " الآية ، قال : هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم ، وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم ، ونجا من خرج منهم . فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء ، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء ، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد ، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم . فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد ، فمر بهم نبي فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك ! قال : أو أحب إليك أن أفعل ؟ قال نعم ! قال : فقل : كذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام ، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر ، فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به ، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون . ثم قيل لهم : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
5615- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن : أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال : هم قوم فروا من الطاعون ، فأماتهم الله عقوبة ومقتا ، ثم أحياهم لآجالهم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل قوله : " وهم ألوف " بالصواب ، قول من قال : " عنى بالألوف كثرة العدد " دون قول من قال : " عنى به الائتلاف " ، بمعنى ائتلاف قلوبهم ، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن فرارا : إما من الجهاد ، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية ، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين .
وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب ، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف ، دون من حده بأربعة آلاف ، وثلاثة آلاف ، وثمانية آلاف . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا ، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم : " ألوف " . وإنما يقال " هم آلاف " ، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف . وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف ، أو عشرة ألوف .
وإنما جمع قليله على " أفعال " ، ولم يجمع على " أفعل " مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله . وشأن العرب في كل حرف كان أوله ، ياء أو واوا أو ألفا ، اختيار جمع قليله على أفعال ، كما جمعوا " الوقت " " أوقاتا " و " اليوم " " أياما " ، و " اليسر " و " أيسارا " ، للواو والياء اللتين في أول ذلك . وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " ، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا ، ومنه قول الشاعر :
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ***ألفين أعجم من بني الفدام
وأما قوله : " حذر الموت " ، فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت ، فرارا منه . كما :
5616- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حذر الموت " ، فرارا من عدوهم ، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه . فأمرهم فرجعوا ، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله ، وهم الذين قالوا لنبيهم : ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قال أبو جعفر : وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ، على المواظبة على الجهاد في سبيله ، والصبر على قتال أعداء دينه . وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم ، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه ، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء ، إلى التحصن في الحصون ، والاختباء في المنازل والدور ، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته ، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته ، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون ، الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرارهم من أوطانهم ، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة ، وبالموئل النجاة من المنية ، حتى أتاهم أمر الله ، فتركهم جميعا خمودا صرعى ، وفي الأرض هلكى ، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء ، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء .
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لذو فضل ومن . على خلقه ، بتبصيره إياهم سبيل الهدى ، وتحذيره لهم طرق الردى ، وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم ، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم ، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم ، عبرة يعتبرون بهم ، وليعلموا أن الأمور كلها بيده ، فيستسلموا لقضائه ، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه .
ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ، ويمن عليه بمننه الجسيمة ، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ، ويتخذ إلها من دونه ، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ، ومن الحمد ما يثقله ، فقال تعالى ذكره : " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " ، يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم ، وفضلي الذي تفضلت به عليهم ، بعبادتهم غيري ، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .