{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه : وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل : انشقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع على مفارقته ، وتسليم الحجر والشجر عليه ، وكلام البهائم والشهادة برسالته ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى ، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله .
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن سنان ، أخبرنا هشيم ، أنا سيار ، أنا يزيد الفقير ، أنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون " .
قوله تعالى : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي من بعد الرسل { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ } ثبت على إيمانه بفضل الله { وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } بخذلانه { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أعاده تأكيدا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا .
سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ؟ فقال : طريق مظلم لا تسلكه ، فأعاد السؤال فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فأعاد السؤال ، فقال : سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه .
ثم قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس ، ودعائهم الخلق إلى الله ، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام ، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام ، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره ، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي : بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به ، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } الموجبة للاجتماع على الإيمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة ، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا ، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب ، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة ، فإذا وجدت اضمحل كل سبب ، وزال كل موجب ، فلهذا قال { ولكن الله يفعل ما يريد } فإرادته غالبة ومشيئته نافذة ، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته ، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال ، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية .
فائدة : كما يجب على المكلف معرفته بربه ، فيجب عليه معرفته برسله ، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم ، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة ، منها : أنهم رجال لا نساء ، من أهل القرى لا من أهل البوادي ، وأنهم مصطفون مختارون ، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار ، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية ، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف ، وأن الله تعالى خصهم بوحيه ، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ، ودلائل هذه الجمل كثيرة ، من تدبر القرآن تبين له الحق .
قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا . . . . }
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 253 )
الإشارة بتلك في قوله : { تِلْكَ الرسل } إلى جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في السورة والذين أرسلهم الله - تعالى - لهداية البشر ، وأمرنا - سبحانه - بالإِيمان بهم .
أي أولئك الرسل الذين أرسلناهم لهداية الناس { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } أي جعلنا لبعضهم مناقب وخصائص ومزايا لم تتوافر للبعض الآخر .
و { تِلْكَ } مبتدأ و { الرسل } عطف بيان لتلك . وجملة { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } هي الخبر . وكانت الإِشارة باللفظ الدال على البعيد ، لبيان سمو مكانة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنهم هم المصطفون الأخيار .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر التفضيل فقال : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أي منهم من فضله الله بتكليمه إياه كموسى - عليه السلام - فقد وردت آيات صريحة في ذلك ، منها قوله - تعالى - : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } وقوله - تعالى - : { قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } وقوله - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ثم قال - سبحانه - : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أي : ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل مراتب سامية ومنازل عالية .
قيل كإبراهيم الذي اتخذه الله خليلا ، وإدريس الذي رفعه الله مكاناً علياً ، وداود الذي آتاه الله النبوة والملك .
والذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله - تعالى - { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة والمعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة والرسالة العامة الناسخة لكل الرسالات قبلها .
وقد صرح صاحب الكشاف بذلك فقال : قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أي ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة . الظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقبة إلى ألف آية أو أكثر . لو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس . ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعلا فيكون أفخم من التصريح ، وسئل الخطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي أو يفخم أمره .
ثم قال - تعالى - : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } .
{ وَآتَيْنَا } : هي المعجزات الظاهرة البينة ، وروح القدس : هو جبريل - عليه السلام - والروح هنا بمعنى الملك الخاص . القدس أصل معناه الطهارة ، وهو يطلق على الطهارة المعنوية وعلى الخلوص والنزاهة . فإضافة روح إلى القدس من إضافة المصوف إلى الصفة . قيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إضافة للتشريف أي روح من ملائكة الله .
والمعنى : وأعطينا عيسى بن مريم الآيات الباهرات ، والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه في بيتهم ، وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه بل تولى الله - تعالى - الدفاع عنه بجنده الذين من بينهم جبريل - عليه السلام - .
قال الزمخشري : " فإن قلت لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات . لما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل . هذا دليل بين على أن من زيد تفضيلا بالآيات منها فقد فضل على غيره . ولما كا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هو المشهود له إحراز قصبات الفضل غير مدافع " .
وقال الإِمام القرطبي ما ملخصه : هذه الآية نثبت التفاضل بين الأنبياء وهناك أحاديث تقول : " لا تخيروني على موسى " و " لا تخيروا بين الأنبياء " و " لا تفضلوا بين الأنبياء " أي لا تقولوا فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان فكيف الجمع ؟ فالجواب أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وقبل أن يعلم أنه سيد ولم آدم ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل أو أن قوله هذا من باب الهضم والتواضع . أو المراد النهي عن الخوض في ذلك لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال والجدال قد يؤدي إلى أن يذكر بضعهم بما لا ينبغي أن يذكر به ، وقد يؤدي إلى قلة احترامهم . ثم قال . وأحسن من هذا القول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، وإنما تتفاضل بأمور أخرى زائدة عليها ، ولذلك فهم رسل ، وأولو عزم ، ومنهم من كلمة الله . . فالقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل ، وأعطى من الوسائل .
وبذلك نكون قد جمعنا بين الآية والأحاديث من غير النسخ .
ثم قال - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } .
أي : ولو شاء الله - تعالى - ألا يقتتل الذين جاؤا بعد كل رسول من الرسول وبعد أن جاءهم الرسل بالبينات الدالة على الحق ، لو شاء الله ذلك لفعل ، ولكن الله - تعالى - لم يشأ ذلك ، لأنه خلق الناس مختلفين في تقبلهم للحق ، فترتب على هذا الاختلاف أن آمن بالحق الذي جاءت به الرسل من فتح له قلبه ، واته إليه اختياره ، وأن كفر به من آثر الضلالة على الهداية واستحب العمى على الهدى ، وترتب عليه - أيضاً أن تقاتل الناس وتحاربوا .
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب الشرط أي لو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا .
وقدم - سبحانه - المسبب وهو الاقتتال على السبب وهو الاختلاف كما يشهد له قوله : { ولكن اختلفوا . . . } للتنبيه على سوء مغبة الاختلاف ، وللتحذير من الوقوع فيه ، لأن وقوعهم فيه سيؤدي إلى أن يقتل بعضهم بعضاً ، وللإِشارة إلى أنه - سبحانه - قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه ، لأنه - تعالى - هو الخالق للأسباب والمسببات .
وفي قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } إشارة إلأى ما جبلت عليه بعض النفوس من العناد الذي يؤدي إلى التنازع والاختلاف والتقاتل حتى بعد ظهور الحق ، وانكشاف وجه الصواب ، لأن هذه النفوس قد آثرت الهوى على الرشاد ، واتخذت طريق الغي طريقا لها . وفي قوله : { ولكن اختلفوا . . . } إشارة إلى أنه - سبحانه - لم يشأ أن يزيل القتال الذي حدث بين المقاتلين ، لأن هذا القتال قد نشأ بينهم بسبب اختلافهم ، وسوء اختيارهم ، وعدم استجابتهم للهدايات والتوجيهات والبينات التي جاءتهم بها الرسل - عليهم السلام - .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيد } أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم لأي سبب من الأسباب لما اقتتلوا ، ولكنه - سبحانه - يفعل ما يريد حسب ما تقتضيه حكمته ، وترتضيه مشيئته ، فهو الكبير المتعال الذي كل شيء عنده بمقدار فالآية الكريمة تبين أن الرسل - عليهم السلام - يتفاضلون فيما بينهم ، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن الاختلاف والتنازع لأنهما يؤديان إلى أوخم العواقب ، وأسوأ النتائج .
أول ما يواجهنا في هذا الدرس هو ذلك التعبير الخاص عن الرسل :
لم يقل : هؤلاء الرسل . إنما استهل الحديث عنهم بهذا التعبير الخاص ، الذي يشتمل على إيحاء قوي واضح . يحسن أن نقول عنه كلمة قبل المضي في مواجهة نصوص الدرس كله .
إنهم جماعة خاصة . ذات طبيعة خاصة . وإن كانوا بشرا من البشر . . فمن هم ؟ ما الرسالة ؟ ما طبيعتها ؟ كيف تتم ؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلا ؟ وبماذا ؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب ! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات ! ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات !
إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه ، والذي نحن قطعة منه ؛ سننا أصيلة يقوم عليها . هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير عل وفقها ، ويتحرك بموجبها ، ويعمل بمقتضاها .
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين كلما ارتقى في سلم المعرفة . يكشف عنها - أو يكشف له عنها - بمقدار يناسب إدراكه المحدود ، المعطى له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمة الخلافة في الأرض ، في أمد محدود .
ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على وسيلتين أساسيتين - بالقياس إليه - هما الملاحظة والتجربة . وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما ، وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما . ولكنهما تقودان أحيانا إلى أطراف من القوانين الكلية في آماد متطاولة من الزمان . . ثم يظل هذا الكشف جزئيا غير نهائي ولا مطلق ؛ لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها . سر الناموس الذي ينسق بين القوانين جميعها . هذا السر يظل خافيا ، لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية النسبية ، مهما طالت الآماد . . إن الزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال . إنما هو الحد المقدور للإنسان ذاته ، بحكم تكوينه ، وبحكم دوره في الوجود . وهو دور جزئي ونسبي . ثم تجيء كذلك نسبية الزمن الممنوح للجنس البشري كله على وجه الأرض وهو بدوره جزئي ومحدود . . ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة ، وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل ، محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية .
هنا يجيء دور الرسالة . دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في اعماقها - بطريقة ما نزال نجهل طبيعتها وإن كنا ندرك آثارها - مع ذلك الناموس الكلي ، الذي يقوم عليه الوجود . .
هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الوحي ؛ فتطيق تلقيه ، لأنها مهيأة لاستقباله . . إنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود ؛ لأنها متصلة اتصالا مباشرا بالناموس الكوني الذي يصرف هذا الوجود . . كيف تتلقى هذه الإشارة ؟ وبأي جهاز تستقبلها ؟ نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده ! و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . . وهي أمر عظيم أعظم من كل ما يخطر على البال من عظائم الأسرار في هذا الوجود .
كل الرسل قد أدركوا حقيقة " التوحيد " وكلهم بعثوا بها . ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في كيانهم كله ، هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد - لا يتعدد وإلا لتعددت النواميس وتعدد إيقاعها الذي يتلقونه - وكان هذا الإدراك في فجر البشرية ، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية ، المبنية على الملاحظة والتجربة ، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية ، التي تشير إلى تلك الوحدة .
وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد . . دعا إلى هذه الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها . . وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشيء من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة . كما كان نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة ؛ وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد ، الذي لا يمكن - وفق الإيقاع القوي الصادق الملزم الذي تلقته فطرتهم - أن يتعدد !
وهذا الإلزام الملح الذي تستشعره فطرة الرسل يبدو أحيانا في كلمات الرسل التي يحكيها عنهم هذا القرآن ، أو التي يصفهم بها في بعض الأحيان .
نجده مثلا في حكاية قول نوح - عليه السلام - لقومه : قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله . وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ؟ أفلا تذكرون ؟ . .
ونجده في حكاية قول صالح - عليه السلام - ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير ) . .
ونجده في سيرة إبراهيم - عليه السلام - : ( وحاجه قومه . قال : أتحاجوني في الله وقد هدان ؟ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا . وسع ربي كل شيء علما . أفلا تتذكرون ؟ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ ) . . .
ونجده في قصة شعيب - عليه السلام - : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . وما توفيقي إلا بالله . عليه توكلت وإليه أنيب ) . .
نجدها في قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) . .
وهكذا وهكذا نجد في أقوال الرسل وأوصافهم أثر ذلك الإيقاع العميق الملح على فطرتهم ، والذي تشيكلماتهم بما يجدونه منه في أعماق الضمير !
ويوما بعد يوم تكشفت للمعرفة الإنسانية الخارجية ظواهر تشير من بعيد إلى قانون الوحدة في هذا الوجود . واطلع العلماء من البشر على ظاهرة وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون العريض . وتكشف - في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم - أن الذرة هي أساس البناء الكوني كله ، وأن الذرة طاقة . . فالتقت المادة بالقوة في هذا الكون ممثلة في الذرة . وانتفت الثنائية التي تراءت طويلا . وإذا المادة - وهي مجموعة من الذرات - هي طاقة حين تتحطم هذه الذرات ، فتتحول إلى طاقة من الطاقات ! . . وتكشف كذلك - في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم - أن الذرة في حركة مستمرة من داخلها . وإنها مؤلفة من الكترونات - أو كهارب - تدور في فلك حول النواة أو النويات وهي قلب الذرة . وأن هذه الحركة مستمرة ومطردة في كل ذرة . وأن كل ذرة - كما قال فريد الدين العطار - شمس تدور حولها كواكب كشمسنا هذه وكواكبها التي ما تني تدور حولها باستمرار !
وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون هما الظاهرتان اللتان اهتدى اليهما الإنسان . . وهما إشارتان من بعيد إلى قانون الوحدة الشامل الكبير . وقد بلغت اليهما المعرفة البشرية بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة البشرية أن تبلغ . . أما الطبائع الخاصة الموهوبة ، فقد أدركت القانون الشامل الكبير كله في لمحة ؛ لأنها تتلقى إيقاعه المباشر ، وتطيق وحدها تلقيه .
إنهم لم يجمعوا الشواهد والظواهر على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية . ولكن لأنهم وهبوا جهاز استقبال كاملا مباشرا ، استقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالا داخليا مباشرا ؛ فأدركوا إدراكا مباشرا أن الإيقاع الواحد لا بد منبعث عن ناموس واحد ، صادر من مصدر واحد . وكان هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل ، لأنه أدرك في لمسة واحدة ما وراء وحدة الإيقاع من وحدة المصدر ، ووحدة الإرادة والفاعلية في هذا الوجود . فقرر - في إيمان - وحدة الذات الإلهية المصرفة لهذا الوجود .
وما أسوق هذا الكلام لأن العلم الحديث يرى أنه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية . فالعلم يثبت أو ينفي في ميدانه . وكل ما يصل إليه من " الحقائق " نسبي جزئي مقيد ؛ فهو لا يملك أن يصل أبدا إلى حقيقة واحدة نهائية مطلقة . فضلا على أن نظريات العلم قلب ، يكذب بعضها بعضا ، ويعدل بعضها بعضا .
وما ذكرت شيئا عن وحدة التكوين ووحدة الحركة لأقرن اليهما صدق الاستقبال لوحدة الناموس في حس الرسل . . كلا . . إنما قصدت إلى أمر آخر . قصدت إلى تحديد مصدر التلقي المعتمد لتكوين التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود .
إن الكشف العلمي ربما يكون قد اهتدى إلى بعض الظواهر الكونية المتعلقة بحقيقة الوحدة الكبرى . . هذه الوحدة التي لمست حس الرسل من قبل في محيطها الواسع الشامل المباشر . والتي أدركتها الفطرة اللدنية إدراكا كاملا شاملا مباشرا . وهذه الفطرة صادقة بذاتها - سواء اهتدت نظريات العلم الحديث إلى بعض الظواهر أو لم تهتد - فنظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته . وهي ليست ثابتة أولا . ثم أنها ليست نهائية ولا مطلقة أخيرا . فلا تصلح إذن أن تقاس بها صحة الرسالة . فالمقياس لا بد أن يكون ثابتا وأن يكون مطلقا . ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد .
وينشأ عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى ذات أهمية قصوى . .
إن هذه الطبائع الخاصة الموصولة بناموس الوجود صلة مباشرة ، هي التي تملك أن ترسم للبشرية اتجاهها الشامل . اتجاهها الذي يتسق مع فطرة الكون وقوانينه الثابتة وناموسه المطرد . هي التي تتلقى مباشرة وحي الله . فلا تخطىء ولا تضل ، ولا تكذب ولا تكتم . ولا تحجبها عوامل الزمان والمكان عن الحقيقة ؛ لأنها تتلقى هذه الحقيقة عن الله ، الذي لا زمان عنده ولا مكان .
ولقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين ، لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة ، التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون . وما كانت لتبلغ إليها كلها أبدا على مدار القرون . وقيمة هذا الاتصال هي استقامة خطاهم مع خطى الكون ؛ واستقامة حركاتهم مع حركة الكون ؛ واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون .
ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني . ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني . ومن هذا التصور يمكن أن ينبثق المنهج الوحيد الصحيح القويم ، الذي يتطابق مع حقيقة تصميم الكون وحقيقة حركته ، وحقيقة اتجاهه . ويدخل به الناس في السلم كافة . السلم مع هذا الكون ، والسلم مع فطرتهم وهي من فطرة هذا الكون ، والسلم مع بعضهم البعض في سعيهم ونشاطهم ونموهم ورقيهم المهيأ لهم في هذه الحياة الدنيا .
مصدر واحد هو مصدر الرسالات ، وما عداه ضلال وباطل ، لأنه لا يتلقى عن ذلك المصدر الوحيد الواصل الموصول .
إن وسائل المعرفة الأخرى المتاحة للإنسان ، معطاة له بقدر . ليكشف بها بعض ظواهر الكون وبعض قوانينه وبعض طاقاته . بالقدر اللازم له في النهوض بعبء الخلافة في الأرض ، وتنمية الحياة وتطويرها . وقد يصل في هذا المجال إلى آماد بعيدة جدا . ولكن هذه الآماد لا تبلغ به أبدا إلى محيط الحقيقة المطلقة التي هو في حاجة إليها ليكيف حياته - لا وفق الأحوال والظروف الطارئة المتجددة فحسب ، ولكن وفق القوانين الكونية الثابتة المطردة التي قام عليها الوجود ، ووفق الغاية الكبرى للوجود الإنساني كله . هذه الغاية التي يراها خالق الإنسان المتعالي عن ملابسات الزمان والمكان . ولا يراها الإنسان المحدود المتأثر بملابسات الزمان والمكان .
إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كله ، هو الذي يدرك الطريق كله . والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق . بل هو محجوب عن اللحظة التالية . ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه ! فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول ؟ !
إنه إما الخبط والضلال والشرود . وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود . منهج الرسالات . ومنهج الرسل . ومنهج الفطر الموصولة بالوجود وخالق الوجود .
ولقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة ، تأخذ بيد البشرية وتمضي بها صعدا في الطريق على هدى وعلى نور . والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك ؛ وتحيد عن النهج ، وتغفل حداء الرائد ؛ وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد .
وفي كل مرة تتكشف لها الحقيقة الواحدة في صور مترقية ؛ تناسب تجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلي قد أشرق . فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشري بكليات الحقيقةكلها ؛ لتتابع البشرية خطواتها في ظل تلك الخطوط النهائية العريضة . وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة . ويحسبها المفسرون المجددون على مدار القرون .
وبعد فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذي يسعها دائما ، ويسع نشاطها المتجدد المترقي ، ويصلها بالحقيقة المطلقة التي لا تصل إليها عن أي طريق آخر . وإما أن تشرد وتضل وتذهب بددا في التيه ! بعيدا عن معالم الطريق !
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . منهم من كلم الله . ورفع بعضهم درجات . وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات . ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) . .
هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات - كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس - فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض ؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره . ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة - من بعد ما جاءتهم البينات - وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف . كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر . وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان ، ودفع الشر بالخير . . وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل .
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) . .
والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول . والذي تشمله دعوته ونشاطه . كأن يكون رسول قبيلة ، أو رسول أمة ، أو رسول جيل . أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال . . كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته . كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية . .
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى - عليهما السلام - وأشار إشارة عامة إلى من سواهما :
( منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) . .
وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى - عليه السلام - ومن ثم لم يذكره باسمه . وذكر عيسى بن مريم - عليه السلام - وهكذا يرد اسمه منسوبا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية . والحكمة في هذا واضحة . فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى - عليه السلام - وبنوته لله - سبحانه وتعالى - أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت . أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس ! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها ؛ وجرت حولها الدماء أنهارا في الدولة الرومانية ! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى - عليه السلام - وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم . . أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي إلى الرسل . وهذا أعظم تأييد وأكبره . وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم ، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل ؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق . . وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى - عليه السلام - فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه ، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه ، والتي وردذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن . تصديقا لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين !
ولم يذكر النص هنا محمدا [ ص ] لأن الخطاب موجه إليه . كما جاء في الآية السابقة في السياق : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين . . تلك الرسل . . إلخ . فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل .
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من أية ناحية نجد محمدا [ ص ] في القمة العليا . وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها ، أو من ناحية محيطها وامتدادها ، فإن النتيجة لا تتغير . .
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة - وهي أضخم الحقائق على الإطلاق - وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء . ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة : ( كن ) . ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة . ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود . ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق . ووحدة البشرية من آدم - عليه السلام - إلى آخر أبنائه في الأرض . ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة . ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة . ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة . ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم " العبادة " . ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء . ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه . ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة . . .
ومحمد [ ص ] هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى ؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها ؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس .
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة ، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة ، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني .
ومن ثم كان هو خاتم الرسل . وكانت رسالته خاتمة الرسالات . ومن ثم انقطع الوحي بعده ؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى ؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره ؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري - في حدود المنهج الرباني - ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة .
وقد علم الله - سبحانه - وهو الذي خلق البشر ؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم ؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن . . قد علم الله - سبحانه - أن هذه الرسالة الأخيرة ، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل ، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق . فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده ؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض ؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله . . أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعا فقد كفر كفرا صراحا لا مراء فيه ؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية ؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله ، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة ، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منهاليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان .
وبعد فقد اقتتل اتباع ( تلك الرسل ) . ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم . . لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف :
( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم - من بعد ما جاءتهم البينات - ولكن اختلفوا : فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا . ولكن الله يفعل ما يريد )
إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفا لمشيئة الله . فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته - سبحانه - فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو . بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال . وأن يكون موكولا إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال . ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة ؛ وواقع وفق هذه المشيئة .
كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق ، لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والنشأة - لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة . وما كان الله ليجعل الناس جميعا نسخا مكررة كأنما طبعت على ورق " الكربون " . . على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة . . أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات . ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل . وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان . وفيه الاستعداد الكامن لهذا ، وأمامه دلائل الهدى في الكون ، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان . وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد !
( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) . .
وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى ، فيكون اختلاف كفر وإيمان ، يتعين القتال . يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض . دفع الكفر بالإيمان . والضلال بالهدى ، والشر بالخير . فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر . ولا يكفي أن يقول قوم : إنهم اتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان . وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص . . كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى . كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى . . ولكن كل فرقة من هؤء كانت قد بعدت بعدا كبيرا عن أصل دينها ، وعن رسالة نبيها . وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر . وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب . كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب . ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد ، هو من مشيئة الله وبإذنه :
( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) . .
ولكنه شاء . شاء ليدفع الكفر بالإيمان ؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعا ، فانحرف عنها المنحرفون . وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبيا جامدا ، إنما هو ذو طبيعة شريرة . فلا بد أن يعتدي ، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين ، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة . فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور .
مشيئة مطلقة . ومعها القدرة الفاعلة . وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم . وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم . وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل . وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج . وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال . وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة ؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم ، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون . وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون . .
وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان . إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة .