المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }

{ تلك } رفع بالابتداء ، و { الرسل } خبره ، ويجوز أن يكون { الرسل } عطف بيان و { فضلنا } الخبر ، و { تلك } إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض( {[2410]} ) وذلك في الجملة دون تعيين مفضول . وهكذا هي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه قال : «أنا سيد ولد آدم »( {[2411]} ) ، وقال : «لا تفضلوني على موسى »( {[2412]} ) ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »( {[2413]} ) ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ، لأن يونس عليه السلام كان شاباً( {[2414]} ) وتفسخ( {[2415]} ) تحت أعباء النبوءة ، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى ، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول ، وقد قال أبو هريرة : خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم( {[2416]} ) والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم .

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال نعم نبي مكلّم( {[2417]} ) ، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصة موسى ، وقول تعالى : { ورفع بعضهم درجات } قال مجاهد وغيره : هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله( {[2418]} ) ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله ، ومن معجزاته وباهر آياته ، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره( {[2419]} ) ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ( {[2420]} ) ومراتب الأنبياء في السماء( {[2421]} ) فتكون الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكوراً في صدر الآية فقط ، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير من الطين ، و «روح القدس » جبريل عليه السلام ، وقد تقدم ما قال العلماء فيه( {[2422]} ) .

قوله عز وجل :

{ ولَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

ظاهر اللفظ في قولهم : من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفاً يفهمه السامع ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ، ثم بعتها ، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرساً ثم بعته ، ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً ، وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان . ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك . الفعال لما يريد ، فاقتتلوا بأن قتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر ، وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض .


[2410]:- أي: وبعض الرسل، لقوله تعالى: [ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض] وقوله تعالى: [تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض].
[2411]:- رواه الإمام مسلم، وغيره. وفي رواية في أحاديث الشفاعة (أنا سيد الناس يوم القيامة).
[2412]:- وفي رواية: (لا تخيّروني) وخَيَّرَ وفَضَّلَ بمعنى واحد، والحديث رواه الشيخان وغيرهما. تنبيه: هذه الأحاديث التي أشار إليها ابن عطية رحمه الله تعارض بظاهرها الآية الكريمة. وأجاب أكثر العلماء عن ذلك بأن المراد لا تفضلوني مفاضلة تؤدي إلى مخاصمة أو نقيضة، أو كان ذلك على سبيل التواضع، أو قال ذلك في حق النبوة، فإن الأنبياء لا تفاضل بينهم فيها، وإنما التفاضل بالمزايا والخصائص التي منحها الله تبارك وتعالى لبعض أنبيائه ورسله، وهذا هو ما ثبت في الآية – لأن مراتب الكمال لا نقص فيها، ولا يلزم تفاوتها نقيض أو ضد – ولذلك قال صلى الله عليه وسلم – لما سئل عن خير دور الأنصار -: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحرث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة) ثم قال: (وفي كل دور الأنصار خير). رفعا لتوهم البعض والضد قال سعد بن عبادة: يا رسول الله «ذكرت خير دور الأنصار، فجعلنا: آخراً». فقال: (أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار) ؟ وأجاب بعض العلماء عن ذلك – كما نقله الإمام (ق) عن شيخه، وكذا اختاره الإمام الشوكاني – بأنه لا معارضة، فالتفضيل الثابت في الآية هو من الله سبحانه وتعالى فنعتقد ذلك، ونؤمن به، وأما تفضيل العباد فهو منهي عنه في السنة، فلا نقول: فلان خير من فلان، أو فلان أفضل من فلان، لما يُتوهّم من النقص، وفرق بين اعتقاد معنى التفضيل والتعبير عنه باللفظ، وتأمل ذلك مع قوله عليه السلام (أنا سيّد ولد آدم).
[2413]:- رواه الشيخان، وأبو داود، عن ابن عباس بلفظ: (ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى)، وبلفظ: (لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متَّى).
[2414]:- علة لتخصيص يونس بن متى بالذكر إذ ربما يكون التفضيل ذريعة إلى نقصه بسبب ما قصه الله عنه في كتابه، و(متَّى) بتشديد التاء اسم أمه، ولم يشتهر نبي بأمه إلا عيسى ويونس كما ذكره ابن الأثير في الكامل.
[2415]:- رُوي – كما في تفسير ابن أبي حاتم، ومستدرك الحاكم – عن وهب بن منبه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للنبوة أثقالا، وإن يونس تفسخ منها تفسخ الرُّبَعُ)، أي انسلخ منها وتجرد عنها، والمعنى أن يونس لم يستطع أن يحمل أعباء النبوة كما أن الرُّبَع "بضم الراء المشددة، وفتح الباء" وهو ولد الناقة الذي يولد في الربيع لا يستطيع أن يحمل الأثقال الكبيرة.
[2416]:- يعني ابن عطية أن هذا نص من أبي هريرة في التعيين.
[2417]:- رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه.
[2418]:- قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأُحِلّت لي الغنائم، وأُعطيت الشفاعة).
[2419]:- كموسى وعيسى.
[2420]:- في السماء الرابعة أو السادسة.
[2421]:- كما ثبت في حديث الإسراء.
[2422]:- عند تفسير قوله تعالى: [ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفّينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى بن مريم البيّنات، وأيّدناه بروح القدس] وسبق ثمّة أنه جبريل عليه السلام