البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني إسرائيل ، وتفضل داود عليهم بإيتائه الملك والحكمة وتعليمه ، ثم خاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، بأنه من المرسلين ، وكان ظاهر اللفظ يقتضي التسوية بين المرسلين ، بين بأن المرسلين متفاضلون أيضاً ، كما كان التفاضل بين غير المرسلين : كطالوت وبني إسرائيل .

و : تلك ، مبتدأ وخبره : الرسل ، و : فضلنا ، جملة حالية ، وذو الحال : الرسل ، والعامل فيه اسم الإشارة .

ويجوز أن يكون : الرسل ، صفة لاسم الإشارة ، أو عطف بيان ، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة ، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله : { وإنك لمن المرسلين } ولا يلزم من ذلك علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم ، بل أخبر أنه من جملة المرسلين ، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض ، وأتى : بتلك ، التي للواحدة المؤنثة ، وإن كان المشار إليه جمعاً ، لأنه جمع تكسير ، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف ، وفي عود الضمير ، وفي غير ذلك ، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ ، ولإزالة قلق التكرار ، لأنه لو جاء : أولئك المرسلون فضلنا ، كان اللفظ فيه طول ، وكان فيه التكرار .

والالتفات في : نتلوها ، وفي : فضلنا ، لأنه خروج إلى متكلم من غائب ، إذ قبله ذكر لفظ : الله ، وهو لفظ غائب .

والتضعيف في : فضلنا ، للتعدية ، و : على بعض ، متعلق بفضلنا ، قيل : والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع ، أو بالخصائص كالكلام .

وقال الزمخشري : { فضلنا بعضهم على بعض } لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات . انتهى .

وفيه دسيسه اعتزالية .

ونص تعالى في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض في الجملة دون تعيين مفضول .

وهكذا جاء في الحديث : " أنا سيد ولد آدم " وقال : " لا تفضلوني على موسى " وقال : " لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى "

{ منهم من كلم الله } قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة ، والعائد على : من ، محذوف تقديره من كلمه وقرئ بنصب الجلالة والفاعل مستتر في : كلم ، يعود على : من ، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب ، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم ، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه .

وقرأ أبو المتوكل ، وأبو نهشل ، وابن السميفع : كالم الله بالألف ونصب الجلالة من المكالمة ، وهي صدور الكلام من اثنين ، ومنه قيل : كليم الله أي ، مكالمه فعيل بمعنى مفاعل : كجليس وخليط .

وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلاً لخطابه ومناجاته من غير سفير ، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، " وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم : أنبي مرسل ؟ فقال : «نعم نبي مكلم " وقد صح في حديث الإسراء حيث ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل ، أنه جرت بينه صلى الله عليه وسلم وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات ، فلا يبعد أن يدخل تحت قوله : { منهم من كلم الله } : موسى وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم .

وفي قوله : { كلم الله } التفات ، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم ، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم ، ولزوال قلق تكرار ضمير المتكلم ، إذ كأن يكون : فضلنا ، وكلمنا ، ورفعنا ، وآتينا .

{ ورفع بعضهم درجات } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، أو إبراهيم ، أو إدريس صلى الله عليهم ، ثلاثة أقوال ، قالوا : والأول أظهر ، وهو قول مجاهد .

قال ابن عطية : ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته ، ويكون الكلام تأكيداً للأول . انتهى .

ويعنى أنه توكيد لقوله { فضلنا بعضهم على بعض } .

وقال الزمخشري : { ورفع بعضهم درجات } أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة ، والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر ، ولو لم يؤت إلاَّ القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات .

وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله ، وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس ، ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم ، أو بعضكم ! يريد به الذي تُعورِفَ واشْتُهِرَ بنحوه من الأفعال ، فيكون ، أفخم من التصريح به ، وأنوه بصاحبه .

وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر ، زهيراً والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث .

أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره .

ويجوز أن يريد : إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل .

انتهى كلام الزمخشري .

وهو كلام حسن .

وقال غيره : وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة ، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم به باب النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه ، ومن معجزاته ، وباهر آياته .

وقال بعض أهل العلم : إنه أوتي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة ، وما أوتي نبي معجزة إلاَّ أوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها وزاد عليهم بآيات .

وانتصاب : درجاتٍ ، قيل على المصدر ، لأن الدرجة بمعنى الرفعة ، أو على المصدر الذي في موضع الحال ، أو على الحال على حذف مضاف ، أي : ذوي درجات ، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعنى : بلغ ، أو على إسقاط حرف الجر ، فوصل الفعل وحرف الجر ، إما : على ، أو : في ، أو : إلى .

ويحتمل أن يكون بدل اشتمال ، أي : ورفع درجات بعضهم ، والمعنى على درجات بعض .

{ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله :

{ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة ، والمعجزات الباهرة ، ولأن آيتيهما موجودتان ، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين ، ووقع منهم المنازعة والخلاف .

ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحاً لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة ،

ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها ، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق ، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين ، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف ، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة ، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء ، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد ، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم ، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله ، لا لفظه ، لقربه ، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله ، ورفع الله ، فكان يقرب التكرار ، فكان الإضمار أحسن .

وفي الجملتين : المفضل منهم لا معين بالاسم ، لكن يعين الأول صلة الموصول ، لأنها معلومة عند السامع ، ويعين الثاني ما أخبر به عنه ، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات ، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الالتفات ، إذ قبله غائب ، وكل هذا يدل على التوسع في أفانين البلاغة وأساليب الفصاحة .

{ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } قيل : في الكلام حذف ، التقدير : فاختلف أممهم واقتتلوا ولو شاء الله ، ومفعول شاء محذوف تقديره : أن لا تقتتلوا ، وقيل : أن لا يأمر بالقتال ، قاله الزجاج .

وقال مجاهد : أن لا تختلفوا الاختلاف الذي هو سبب القتال ، وقيل : ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا ، وقال أبو عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف ، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان .

وقال عليّ بن عيسى : هذه مشيئة القدرة ، مثل : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } ولم يشأ ذلك ، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري : ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر ، وجواب لو : ما اقتتل ، وهو فعل منفي بما ، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية ، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام ، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو ، و : من بعدهم صلة للذين ، فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم ، والضمير عائد على الرسل ، وقيل : عائد على موسى وعيسى وأتباعهما .

وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك ، بل المراد : ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، فلف الكلام لفاً لم يفهمه السامع وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ثم بعتها ، وإن كنت قد اشتريتها فرساً فرساً وبعته ، وكذلك هذا ، إنما اختلف بعد كل نبي ، و : من بعد ، قيل : بدل من بعدهم ، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل ، إذ كان في البينات ، وهي الدلائل الواضحة ، ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل ، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل .

{ ولكن اختلفوا } هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها ، لأن المعنى : لو شاء الاتفاق لاتفقوا ، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا .

{ فمنهم من آمن ومنهم من كفر } من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم ، ومن كفر بإعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا .

{ ولو شاء الله ما اقتتلوا } قيل : الجملة تكررت توكيداً للأولى ، قاله الزمخشري .

وقيل : لا توكيد لاختلاف المشيئتين ، فالأولى : ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، والثانية : ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا ، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه ، ولم يزل ذلك مختلفاً فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافياً حيث قال :

استأثر الله بالوفاء وبالعد***

ل وولى الملامة الرجلا

وكان لبيد مثبتاً حيث قال :

من هداه سبل الخير اهتدى***

ناعم البال ومن شاء أضل

{ ولكن الله يفعل ما يريد } هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة ، وإن إرادة غيره غير مؤثرة ، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدّر وقضى من خير وشر ، وهو فعله تعالى .

وقال الزمخشري : ولكنّ الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة ، وهذا على طريقة الاعتزالية .

قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة : التقسيم ، في قوله : { منهم من كلم الله } بلا واسطة ، ومنهم من كلمه بواسطة ، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى ، وفي قوله { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وهذا التقسيم ملفوظ به .

و : الاختصاص ، مشاراً إليه ومنصوباً عليه ، و : التكرار ، في لفظ البينات ، وفي { ولو شاء الله ما اقتتلوا } على أحد التأويلين .

و : الحذف ، في قوله { منهم من كلم الله } أي كفاحاً وفي قوله { يفعل ما يريد } يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء .

/خ257