التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ { 253 } }

تعليق على الآية

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ . . } إلخ

عبارة الآية واضحة ولم نطلع على رواية في نزولها ، والمتبادر أنها جاءت استطرادية وتعقيبية وتعليلية معاً لما احتوته الآيات السابقة . ومتصلة بموضوعها ، ويتبادر لنا أنها تضمنت تقرير ما يلي : إن الله قد أرسل رسله بآياته وبيناته ، فكان يقتضي أن يؤمن الناس جميعا ولا يختلفوا ، ولا يكون بينهم نزاع وقتال وفساد في الأرض وأحقاد . ولكن مشيئة الله في خلقه اقتضت أن يكون الناس ذوي قابليات اختيارية ومتفارقة فكان منهم نتيجة لذلك الكافر والمؤمن ، والخبيث والطيب ، ومن الطبيعي أن يكون بينهم خلاف وقتال ومن الطبيعي أن يدعى المعتدى عليه إلى القتال لدفع شر المعتدي وأذاه ، وليكون التوازن بدفع الناس بعضهم ببعض . والله قادر على أن لا يكون الناس أنواعاً متفاوتين مختلفين ، ولكن حكمته اقتضت أن يكونوا مختارين غير مجبرين فكان هذا التنوع والتفاوت والخلاف والقتال .

والآية بهذا البيان المستلهم من روحها ومن روح التقريرات القرآنية عامة تنطوي على جليل التلقين وحكيم التعليل .

ولعل اختصاص موسى بالذكر تلميحاً –في جملة { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ } وعيسى تصريحاً هو بسبب ما احتوته الخلاصة القرآنية عن بني إسرائيل في معرض العبرة والتذكير أولا وبسبب ما كان يقع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقبله من اختلافات ومنازعات وفتن وقتال بين اليهود فيما بينهم وبين النصارى فيما بينهم ثم بين اليهود والنصارى أيضا مما ذكرته روايات التاريخ القديم {[373]} وقد أشير إلى ما بينهم من خلاف ونزاع وبغضاء وعداء في آيات كثيرة مكية ومدنية منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي .

وقد قال المفسرون {[374]} في صدد تعبير { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } : إن المقصود به التنويه بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ورفعة درجته على سائر الأنبياء .

ولقد قال الخازن في صدد ذلك : إنه لم يؤت نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلا وأوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، ثم أخذ يشير إلى ما روي من معجزاته التي أعظمها وأظهرها القرآن والكلام للمفسر نفسه . ثم أورد حديثاً عن أبي هريرة رواه الشيخان أيضا جاء فيه : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيتُه وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » . وحديثا ثانياً عن جابر رواه الشيخان كذلك جاء فيه : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » . وحديثا آخر عن أبي هريرة رواه أصحاب السنن جاء فيه : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضلت على الأنبياء بستّ : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً ، وأرسلت إلى الخلائق كافة ، وختم بي النبيّون » . ولقد تساءل ابن كثير عما يمكن أن يورد من نقض بين ما ورد من أحاديث في تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من حديث جاء فيه : «استبّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى على العالمين . فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي وقال : أيّ خبيث ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم . فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور فلا تفضلوني على الأنبياء ، وفي رواية : لا تفضلوا بين الأنبياء » . ثم قال ابن كثير : والجواب على ذلك من وجوه : أحدها أن يكون ذلك قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر ، والثاني أنه قال ذلك من باب التواضع ، والثالث أنه نهى عن التفضيل في مثل الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر ، والرابع أنه أراد بذلك النهي عن التفضيل بسائق العصبية .

ومع إيماننا التام العميق بعظم فضائل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه ودرجاته عند الله وما ميزه الله عن غيره من الأنبياء من الميزات العظيمة التي ذكرت في القرآن بأساليب متنوعة في السور المكية والمدنية معاً وذكرت في هذه الأحاديث وأحاديث أخرى سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة ، فإننا نلحظ أن التعبير هنا مطلق عام ومن قبيل ما جاء في آية سورة الإسراء هذه : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً { 55 } } وليس هناك آثار وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تفيد أن هذا التعبير هنا هو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا ، ولقد ورد في سورة البقرة وفي سلسلة بني إسرائيل آية فيها نفس الجملة التنويهية التي وردت في هذه الآيات في حق عيسى عليه السلام وعلقنا عليها تعليقاً يغني عن التكرار .


[373]:كان اليهود منقسمين إلى طوائف عديدة، وقد وقع في زمن المكابيين قبل ولادة المسيح فتن وقتال بين ما يعرف بالصدوقيين وما يعرف بالفريسيين، ثم كان مثل ذلك بين اليهود الإسرائيليين والسامريين غير الإسرائيليين الذين كانوا في فلسطين والذين يمتون إلى أصل عراقي وكانوا يدينون بالديانة الموسوية. وكان النصارى منقسمين كذلك إلى طوائف عديدة، وكان يقع شقاق وقتال بينها وبخاصة بين ما يعرف باليعقوبيين والملكانيين أو أصحاب العقيدة الواحدة والعقيدة الثنائية في المسيح وإلى هذا وذاك كان يقع بين اليهود والنصارى وبين السامريين والنصارى قتال أيضا وظل كل هذا مستمرا إلى زمن البعثة النبوية. انظر الجزء الثاني والرابع والخامس من كتابنا «تاريخ الجنس العربي» وانظر كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» والمجلد الثاني والثالث والرابع من «تاريخ سورية» للمطران الدبس
[374]:انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي