التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) ( تلك ) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ . ولم يقل : ذلك ، مراعاة للاسم المؤنث المحذوف " جماعة " والتقدير : تلك جماعة الرسل . و ( الرسل ) نعت لاسم الإشارة . والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ ، والمعنى أن الله جلّت قدرته جعل المرسلين أولي مراتب درجات ، وأعظمهم درجات أولوا العزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام . ومن معاني التفضيل من الله للرسل أنه كلم بعضهم ، وتلك درجة عالية فُضلى تصل بالمتكلّم معهم أسمى المراتب ، فقد كلم الله آدم وموسى ومحمدا صلى الله عليهم جميعا وسلم .

لكن كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية التي يظهر فيها التفضيل بين الأنبياء والرسل ، وما جاء في عدّة أحاديث عن الرسول ( ص ) ينهى فيها عن التفضيل بين النبيين ، ومن جملة ذلك الحديث : " ولا تفضلوا بين الأنبياء " أو الحديث : " لا تخيّروا بين الأنبياء " وأحاديث أخرى شبيهة بذلك .

يمكن الجمع بين الآية والأحاديث للخروج من التعارض الظاهر ، هو القول بأن النهي عن التفضيل بين الأنبياء لا ينبغي أن يُفهم على ظاهره الحرفي أو حقيقته النصية . والصواب في ذلك أن يقال إن النهي جاء على سبيل التواضع من الرسول ( ص ) .

وقيل : إن هذا النهي قد جاء في حال من الشجار والتنازع بين بعض من المسلمين وأهل الكتاب حول حقيقة النبي الأفضل . فإن كان كل فريق مستمسكا برأيه في النبي الأفضل ، وكان ذلك مدعاة للتخاصم والصخب ، فلا داعي لهذا التفضيل خصوصا إن كان مثل ذلك التفضيل يساق على سبيل العصبية . وقيل غير ذلك .

وقوله : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) أي البراهين والدلائل التي تكشف لبني إسرائيل عن صدق نبوته وما جاءهم به من كتاب منزل كريم .

قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) ( القدس ) الطهر . والمراد بروح القدس هذا الملك الهائل الكريم الطاهر ، الملك الخاشع لله ، والمبادر دون وناء لطاعة ربه وتنفيذ ما يناط به من أوامر ، إنه الوحي جبريل عليه السلام ، قد أيد الله به نبيه وروحه عيسى المسيح عليه السلام .

قوله : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) . تدل الآية على حدوث اقتتال بين الناس بعد كل نبي ، وذلك بعدما جاءهم من الله برهان ودليل يكشف لهم عن وجه الحق ويحذرهم من الشر بكل صوره وهيئاته . وما كان اقتتال كل أمة فيما بينهما إلا بالباطل وابتغاء للدنيا ، وما فيها من شهوات ولذائذ وحطام .

على أن هذا الاقتتال بين الناس بعد كل نبي ليس بخارج عن سلطان الله وهيمنته فإن الله قادر أصلا أن يحول دون هذا الاقتتال ولكنه سبحانه حد لعباده حدودا كيلا يعتدوها ، وألزمهم بفرائض ليس لهم أن يضيعوها أو يفرطوا فيها ، وشحنهم لطاقة العقل والإرادة ما هو كفيء لمقتضيات الحياة والعيش في هذه الدنيا . فإذا زاغوا ومالوا عن صراط الله ومنهجه الحكيم كان من الحق والعدل أن ينالوا من الجزاء ما يكون لهم وفاقا .

أجل ، إن الناس قد اختلفوا بعد الذي أنزل عليهم من كتاب فيه الهداية والنور فتفرقوا مناحي شتى ، وتمزقوا في الأرض إلى ملل ومذاهب وتصورات كلها باطل سوى الملة التي جيء بها على ألسنة النبيين المرسلين ؛ ولذلك قال سبحانه : ( ولكن اختلفوا فيمنهم من آمن ومنهم من كفر ) . مع أن الله قادر- لو شاء- على ألا يكفر هؤلاء الناكبون الغاوون ولله في مقاديره وما أراد حكمة ومراد قد نهتدي للوقوف عليهما وقد يعز علينا ذلك ؛ لذلك يقول سبحانه : ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) .