جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

{ تِلْكَ {[494]} الرُّسُلُ } : المذكورة قصصهم ، أو اللام للاستغراق ، { فَضَّلْنَا {[495]} بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، بأن خصصناه بمنقبة ، وإن استووا في القيام بالرسالة ، { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ } : هو موسى كلَّمه في الطور ، قيل : هو ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلمه ليلة المعراج ، { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ، أي : محمدا عليه الصلاة والسلام ، فخواصه أكثر ، وأبهمه {[496]} لأنه متعين الرجحان ، وقيل : إبراهيم ، وقيل : إدريس ، وقيل أولو العزم ، { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } : الحجج القواطع ، خصه بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ {[497]} الْقُدُسِ } : بجبريل عليه السلام ، كان يسير معه حيث سار ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ } ، هداية الناس واتفاقهم ، { مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } : من بعد الرسل ، فلا يختلفون في الدين ، ولا يكفر بعضهم بعضا ، { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } : الواضحات ، { وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ } : ثبت على الإيمان بتوفيقه ، { وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } : كالنصارى ، صاروا فرقاً وتحاربوا ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ } ، كرره تأكيدا ليعلم كل أحد أنه من عند الله لا من عند أنفسهم ، { وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فيوفق بعضهم فضلا ، ويخذل بعضهم عدلا .


[494]:أي: تلك الرسل التي ثبت علمهم عندك/12
[495]:اعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين حديث الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعا "لا تفضلوني على الأنبياء"، وفي لفظ: "لا تخيروا بين الأنبياء" فإن القرآن دلى على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله تعالى، وليست معلومة عندنا، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن بالإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعما أنهما متعارضان فقد غلط غلطا بينا/12 فتح
[496]:ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يرو ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد، مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء، وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وسلم، وأطالوا في ذلك واستدلوا بما خصه الله به من العمجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب، وقد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، إن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا فهو ذريعة إليه بلا شك وشبهة لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها، فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن/12 فتح
[497]:قد فسرنا من قبل روح القدس بمعان مختلفة، فما أعدنا إلا الأصح/12 منه، وقد ذكر المصنف في الحاشية من قبل أن هذا قول أكثر الصحابة، وورد في ذلك أحاديث صحاح/12