فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

{ تلك الرسل } هؤلاء الأنبياء الذين بعثناهم إلى أقوامهم بوحينا والذين قصصنا من أنبائهم -قال تلك ولم يقل ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة وهي رفع بالابتداء و{ الرسل } نعته وخبر الابتداء بالجملة -{[782]} { وفضلنا بعضهم على بعض } منحت طائفة منهم من فضلي مع النبوة خيرا زائدا عليها { منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } من المرسلين الذين تعرفهم يا محمد -وأنت منهم- من خصه الله تعالى بكلامه وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات{[783]} تربية للمهابة . . . { ورفع بعضهم درجات }{[784]} ربما يكون المعنى طائفة من رسلي فضلتهم بكلامي دون واسطة وطائفة فضلتهم فأعطيتهم المزيد من الكرامة ورفعة القدر ؛ في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة ){[785]} ، مما نقل عن مجاهد : كلم الله موسى وأرسل محمد إلى الناس كافة .

{ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } أعطي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مع النبوة الحجج والأدلة المثبتة صدق دعواه فكان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله كما منحه مولانا آيات وعلامات أخر في كل منها برهانا على أن ربنا العظيم اصطفاه وارتضاه رسولا ، ومنح الإنجيل الذي بينت آياته ما فرض عليه وعلى قومه ، وأعانه الله وقواه بروح الله جبريل عليه السلام أمين الملائكة الكرام وملك الوحي ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك . . -وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون فنبه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما ، وتبين معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما ، بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ، ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا فلهذا قال تعالى { ولو شاء الله } أي أن لا يقتتلوا { ما اقتتل الذين من بعدهم } لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضا { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } لالتزامه دين الأنبياء { ومنهم من كفر } بإعراضه عنه { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كرر الكلام تكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم { ولكن الله يفعل ما يريد } وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال ، ومسألة إرادة الكائنات وأن الكل بقضاء الله وقدره . . . {[786]} .


[782]:ما بين العارضتين مما أورد القرطبي، م قال: وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي قال: (لا تخيروا بين أنبياء) و (لا تفضلوا بين أنبياء الله) رواها الأئمة الثقات.. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: (أنا سيد ولد آدم) يوم القيامة لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض... وليس ما أعطاه الله لنبينا من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له؛ ... فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم.. لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون فلا نقول: نبينا خير من الأنبياء.. اجتنابا لما نهى عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل... وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا على الأنبياء... قالوا فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم...} وقال الله عز وجل لمحمد {وما أرسلناك إلا كافة للناس...} فأرسله إلى الجن والإنس [ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى] ومحمد وهم ألو العزم من الرسل 1هـ.
[783]:إذ قد بدأت الآية الكريمة بضمير التعظيم {نا} العائد على الحق سبحانه ولم يجيء الضمير هنا كلمتهم بل ذكر لفظ الجلالة فانتقل الكلام من طريق إلى طريق وهذا ما يعبر عنه بالالتفات ولعل ذلك للتذكير بأن فاعل {فضل} و{كلم} هو الله جل علاه.
[784]:مما أورد النيسابوري قيل إن درجات نصب بنزع الخافض. وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات (وقيل مصدر في وضع الحال) وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال ورفعنا بعضهم رفعات. ومما أورد الألوسي: ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة.. والمراد ببعضهم هنا النبي.. فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى وامتاز بخواص... لا يستطيع اللسان لها حصرا فهو المبعوث رحمة للعالمين والمنعوت بالخلق العظيم.. والمنزل عليه قرآن مجيد {... لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}.ا هـ.
[785]:وأورد ابن جرير هكذا (أعطيت خمسا لم يعطهن أحدا قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي وقيل لي سل تعطه فأختبأتها شفاعة لأمتي فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا}
[786]:ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان.