محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

{ * تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم اللّه ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس ولو شاء اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء اللّه ما اقتتلوا ولكن اللّه يفعل ما يريد 253 } .

{ تلك الرسل } إشارة إلى من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبيّ صلى الله عليه وسلم { فضّلنا بعضهم على بعض } بأن خصّ بمنقبة ليست لغيره { منهم من كلّم الله } تفصيل التفضيل أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام { ورفع بعضهم درجات } كإبراهيم اتخذه الله خليلا . وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك .

قال الزمخشريّ : أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة .

والظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر . ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء . لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى . لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشبّه والتميز الذي لا يلتبس ؛ ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم . تريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال . فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه . / وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث . أراد نفسه . ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره .

ثم قال : ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولي العزم .

{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات } كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى { وأيّدناه بروح القدس } سبق الكلام فيه .

قال الزمخشريّ : فإن قلت فلم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة . ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات . فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات ، خُصَّا بالذكر في باب التفضيل . وهذا دليل بيّن أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره . ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أُوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها ، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع .

{ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } أي من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضا { من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } .

قال الزمخشريّ : كرره للتأكيد . قال الناصر في ( حواشيه ) : ووراء التأكيد سر أخص منه . وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول ، قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها . وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك . وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى . منها قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا } {[1387]} ، / ومنها قوله تعالى : - { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم } إلى قوله { لو تزيّلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم } {[1388]} . وهذه الآية من هذا النمط . لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء ، فهي نافذة في كل فعل واقع . وهو المعنى المعبّر عنه في قوله : { ولكن الله يفعل ما يريد } طرأ ذكر تعلّق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة . لتناسب الكلام ويعرف كل بشكله . فهذا سر ينشرح له الصدر ، ويرتاح له السر . والله الموفق .


[1387]:[16/ النحل/ 106] ونصها: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم 106}.
[1388]:[48/ الفتح/ 25] ونصها: {هم الذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محلّه ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما 25}.