قوله تعالى : { وإذ نجيناكم } يعني : أسلافكم وأجدادكم فاعتدها منةً عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم .
قوله تعالى : { من آل فرعون } . أتباعه وأهل دينه ، وفرعون هو الوليد مصعب بن الريان ، وكان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة .
قوله تعالى : { يسومونكم } . يكلفونكم ويذيقونكم .
قوله تعالى : { سوء العذاب } . أشد العذاب وأسوأه ، وقيل : يصرفونكم في العذاب مرة هكذا ، ومرة هكذا كالإبل السائمة في البرية ، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ويزرعون ، وصنف يخدمونه ، ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية . وقال وهب : كانوا أصنافاً في أعمال فرعون ، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها ، وطائفة ينقلون الحجارة ، وطائفة يبنون له القصور ، وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم ، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهراً ، والنساء يغزلن الكتان وينسجن ، وقيل : تفسيره قوله ( يسومونكم سوء العذاب ) . ما بعده وهو :
قوله تعالى : { يذبحون أبناءكم } . فهو مذكور على وجه البدل من قوله يسومونكم سوء العذاب .
قوله تعالى : { ويستحيون نساءكم } . يتركونهن أحياء ، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر ، وأحرقت كل قبطي فيها ، ولم تتعرض لبني إسرائيل ، فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا : يولد ولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك ، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن : لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ، ولا جارية إلا تركت ، ووكل بالقوابل ، فكن يفعلن ذلك حتى قيل : إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثنى عشر ألف صبي . وقال وهب : بلغني أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعين ألف وليد . قالوا : وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة ، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها ، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها .
قوله تعالى : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } . قيل : البلاء المحنة ، أي في سومهم إياكم سوء العذاب محنة عظيمة ، وقيل : البلاء النعمة . أي في إنجائي إياكم منهم نعمة عظيمة ، فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة ، فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر ، وعلى الشدة بالصبر وقال : الله تعالى : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) .
هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي : من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك { يَسُومُونَكُمْ } أي : يولونهم ويستعملونهم ، { سُوءَ الْعَذَابِ } أي : أشده بأن كانوا { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } خشية نموكم ، { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي : فلا يقتلونهن ، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة ، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة .
{ وَفِي ذَلِكم } أي : الإنجاء { بَلَاءٌ } أي : إحسان { مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره .
ثانياً : نعمة إنجائهم من عدوهم :
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة جليلة الشأن ، هي نعمة إنجائهم من عدوهم فقال تعالى :
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب . . . }
الآية الكريمة معطوفة على قوله تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ } في الآية السابقة ، من باب عطف المفصل على المجمل : أي : اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون .
وإذ : بمعنى وقت ، " وهي مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أي : اذكروا وقت أن نجيناكم ، والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث .
وآل الرجل : أهله وخاصته وأتباعه ، ويطلق غالباً على أولى الخطر والشأن من الناس ، فلا يقال آل الحجام أو الإِسكاف .
وفرعون : اسم لملك مصر كما يقال لملك الروم قيصر ، ولملك اليمن تبع ويسومونكم : من سامه خسفا إذا أذله واحتقره وكلفه ما لا يطيق .
والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ويكون في الخير والشر ، قال - تعالى - { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } والمعنى : اذكروا يا بني إسرائيل وقت أن نجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، ويبغونكم ما فيه إذلال لكم واستئصال لأعقابكم ، وامتهان لكرامتكم حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ، ويستبقون نفوس نسائكم ، وفي ذلك العذاب ، وفي النجاة منه امتحان لكم بالسراء لتشكروا ، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدي بكم إلى الإِذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
قال الإِمام الرازي - رحمه الله - ما ملخصه : واعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة - أي نعمة إنجائهم من عدوهم - يتأتى من وجوه أهمها :
1- أن هذه الأشياء التي ذكرها الله - تعالى - لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة ، صار تخليص الله - عز وجل - لهم من هذه المحن من أعظم النعم ، وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم ، وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ، ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم ، وعظم النعمة يوجب المبالغة في الطاعة والبعد عن المعصية ، لذا ذكر الله هذه النعمة العظيمة ليلزمهم الحجة ، وليقطع عذرهم .
2- أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل . وكان عدوهم في نهاية العز ، إلا أنهم كانوا محقين ، وكان خصمهم مبطلا ، لا جرم زال ذل المحقين ، وبطل عز المبطلين ، فكأنه تعالى يقول لهم : لا تغتروا بكثرة أموالكم ولا بقوة مركزكم ، ولا تستهينوا بالمسلمين لقلة ذات يدهم ، فإن الحق إلى جانبهم . ومن كان الحق إلى جانبه ، فإن العاقبة لابد أن تكون له ) اه .
وخوطب بهذه النعمة اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومع أن هذا الانجاء كان لأسلافهم ، لأن في نجاة أسلافهم نجاة لهم ، فإنه لو استمر عذاب فرعون للآباء لأفناهم ، ولما بقي هؤلاء الأبناء ، فلذلك كانت منه التنحية تحمل في طياتها منتين ، منه عل السلف لتخليصهم مما كانوا فيه من عذاب ومنة على الخلف لتمتعهم بالحياة بسببها ، فكان من الواجب عليهم جميعاً أن يقدروا هذه النعمة قدرها ، وأن يخلصوا العبادة لخالقهم الذي أنجاهم من عدوهم .
ولأن الإِنعام على أمة يعتبر إنعاماً شاملاً لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك الإِنعام ومن لم يصبه . ولأن الآثار التي تترتب عليه كثيرا ما يرثها الخلف عن السلف ، ولأن في إخبارهم بذلك تصديقاً للنبي - عليه الصلاة والسلام - فيما يبلغه عن ربه ، فقد أخبرهم بتاريخ من مضى منهم بصدق وأمانة ، وفي ذلك دليل على أنه صادق في نبوته ورسالته .
وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل ، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عوناً له في أذاقتهم سوء العذاب ، وإنزال الإِذلال والأعناب بهم .
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لليهود - وهو في ظاهرة خير - لأن هذا الإِبقاء عليهن ، كان المقصود منه الاعتداء على أعراضهن واستعمالهن في الخدمة بالاسترقاق . فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة ، والطباع الطيبة .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : ( في ذبح الذكور دون الإِناث مضرة من وجوه :
أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال ، وذلك يقتضي انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضي في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعاً .
ثانيهما : أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة ، فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها تعهد الرجال . لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد . فصارت هذه الخطة عظيمة في المحن ، والنجاة منها تكون في العظم بحسبها .
ثالثها : أن قتل الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل التعب ، والرجاء القوي في الانتفاع به ، من أعظم العذاب ، فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة .
رابعها : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهم ، يؤدي إلى صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان ) .
وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء في قوله تعالى : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } الأطفال دون البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشافة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال ، لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء ، والنساء هن البالغات .
والذي نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإِنجاء ، حيث كان أهل فرعون يقتلون الصغار قطعاً للنسل ، ويسترقون الامهات استعباداً لهن ، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت .
وقد جاءت جملة { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } في هذه الآية الكريمة بدون عطف وجاءت في سورة إبراهيم معطوة بالواو . لأنها هنا بيان وتفسير لجملة { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } فيكون المراد من سوء العذاب هنا تذبيح الأبناء واستحياء النساء .
وأما في سورة إبراهيم . فقد جاء سياق الآيات لتعداد المحن التي حلت ببني إسرائيل ، فكان المراد بجملة { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } نوعاً منه ، والمراد بجملة { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } نوعاً آخر من العذاب ، لذا وجب العطف ، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى ، وإنما هي تمثل نوعاً آخر من المحن التي حلت بهم .
هذا ، وقد تكرر تذكير بني إسرائيل بنعمة إنجائهم من عدوهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، وذلك لجلال شأنها ، ولحملهم على الطاعة والشكر .
1- من ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } 2 - وقوله تعالى في سورة طه : { يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى * كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } فهذه الآيات الكريمة وغيرها مما هي في معناها فيها تذكير لبني إسرائيل بنعمة من أجل نعم الله عليهم ، حيث أنجاهم - سبحانه - ممن أراد لهم السوء ، وعمل على قتلهم وإبادتهم واستئصال شأفتهم ، وفي ذلك ما يدعوهم إلى الاجتهاد في شكر الله - عز وجل - لو كانوا ممن يحسنون شكر النعم .
بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم ، وكيف استقبلوا هذه الآلاء ، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق . وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم :
( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم . وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .
إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه - باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد - ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب .
يقول لهم : واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم ، [ من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائما ] وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه ! ! ثم يذكر لونا من هذا العذاب . هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث . كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم !
وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم . ليلقي في حسهم - وحس كل من يصادف شدة - أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة . وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة ، ويعتبر بالبلاء ، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ . والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها . والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال ، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله ، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته . . ومن ثم هذا التعقيب الموحى : ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )