قوله تعالى : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا خلاد بن يحيى ، أنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فنزلت : { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا }الآية : قال : كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم " . وقال عكرمة ، و الضحاك ، و قتادة ، و مقاتل ، و الكلبي : " احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فقال :أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال له جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وأنزل : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " . { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } ، أي : له علم ما بين أيدينا . واختلفوا فيه : فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ومقاتل : { ما بين أيدينا } : من أمر الآخرة والثواب والعقاب ، { وما خلفنا } : ما مضى من الدنيا . { وما بين ذلك } : ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل { ما بين أيدينا } : ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } أي : ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة . وقيل : { ما بين أيدينا } ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } : مدة حياتنا . وقيل : { ما بين أيدينا } : بعد أن نموت ، { وما خلفنا } : قبل أن نخلق ، { وما بين ذلك } : مدة الحياة . وقيل : { ما بين أيدينا } : الأرض إذا أردنا النزول إليها ، { وما خلفنا } : السماء إذا نزلنا منها ، { وما بين ذلك } : الهواء ، يريد : أن ذلك كله لله عز وجل ، فلا نقدر على شيء إلا بأمره . { وما كان ربك نسياً } ، أي : ناسياً ، يقول : ما نسيك ربك أي : ما تركك ، والناسي التارك .
{ 64 - 65 } { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }
استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة في نزوله إليه فقال له : " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه ، وتوحشا لفراقه ، وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أي : ليس لنا من الأمر شيء ، إن أمرنا ، ابتدرنا أمره ، ولم نعص له أمرا ، كما قال عنهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فنحن عبيد مأمورون ، { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة ، في الزمان والمكان ، فإذا تبين أن الأمر كله لله ، وأننا عبيد مدبرون ، فيبقى الأمر دائرا بين : " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه ؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } أي : لم يكن لينساك ويهملك ، كما قال تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } بل لم يزل معتنيا بأمورك ، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة ، وتدابيره الجميلة .
أي : فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك ، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك ، لما له من الحكمة فيه .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .
التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .
والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .
وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .
والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .
{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .
فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .
أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً } .
ذُكر أن هذه الاَية نزلت من أجل استبطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل بالوحي ، وقد ذكرت بعض الرواية ، ونذكر إن شاء الله باقي ما حضَرنا ذكره مما لم نذكر قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا عبد الله بن أبان العجلي ، وقبيصة ووكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، جميعا عن عمر بن ذرّ ، قال : سمعت أبي يذكر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن محمدا قال لجبرائيل : «ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمّا تَزُورُنا » فنزلت هذه الاَية : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأَمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال : هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : حدثنا عمر بن ذرّ ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبرائيل : «ما يَمْنَعُكَ أن تَزَوُرَنا أكْثَرَ مِمّا تَزُورُنا ؟ فنزلت ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ » حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ . . . إلى ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال : احتبس جبرائيل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن ، فأتاه جبرائيل فقال : يا محمد ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لبث جبرائيل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكأن النبيّ استبطأه ، فلما أتاه قال له جبرائيل : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا قال : هذا قول جبرائيل ، احتبس جبرائيل في بعض الوحي ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «ما جِئْتَ حتى اشْتَقْتُ إلَيْكَ » فقال له جبرائيل : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ قال : قول الملائكة حين استراثهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كالتي في الضحى .
حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : لبث جبرائيل عن محمد اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون : قُلي ، فلما جاءه قال : أيْ جَبْرائِيلُ لَقَدْ رِثْتَ عَليّ حتى لَقَدْ ظَنّ المُشْرِكُونَ كُلّ ظَنّ » فنزلت : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ احتبس عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى تكلم المشركون في ذلك ، واشتدّ ذلك على نبيّ الله ، فأتاه جبرائيل ، فقال : اشتدّ عليك احتباسنا عنك ، وتكلم في ذلك المشركون ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، إذا أمرني بأمر أطعته ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ يقول : بقول ربك . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ فقال بعضهم : يعني بقوله ما بينَ أيْدِينا من الدنيا ، وبقوله : ومَا خَلْفَنا الاَخرة ومَا بينَ ذلكَ النفختين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع لَهُ ما بينَ أيْدِينا يعني الدنيا ومَا خَلْفَنا الاَخرة ومَا بينَ ذلكَ النفختين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال ما بينَ أيْدِينا من الدنيا ومَا خَلْفَنا من أمر الاَخرة ومَا بينَ ذلكَ ما بين النفختين .
وقال آخرون : ما بينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَلْفَنا الدنيا ومَا بينَ ذلكَ ما بين الدنيا والاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس بينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَلْفَنا من الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَهُ ما بينَ أيْدِينا من أمر الاَخرة ومَا خَلْفَنا من أمر الدنيا ومَا بينَ ذلكَ ما بين الدنيا والاَخرة ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة لَهُ ما بينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَلْفَنا من الدنيا وَما بينَ ذلكَ ما بين النفختين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما بينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَلْفَنا من الدنيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ما بينَ أيْدِينا قال : ما مضى أمامنا من الدنيا وَما خَلْفَنا ما يكون بعدنا من الدنيا والاَخرة وَما بينَ ذلكَ قال : ما بين ما مضى أمامهم ، وبين ما يكون بعدهم .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يتأوّل ذلك له ما بينَ أيْدِينا قبل أن نخلق وَما خَلْفَنا بعد الفناء وَما بينَ ذلكَ حين كنا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : له ما بين أيدينا من أمر الاَخرة ، لأن ذلك لم يجيء وهو جاء ، فهو بين أيديهم ، فإن الأغلب في استعمال الناس إذا قالوا : هذا الأمر بين يديك ، أنهم يعنون به ما لم يجيء ، وأنه جاء ، فلذلك قلنا : ذلك أولى بالصواب . وما خلفنا من أمر الدنيا ، وذلك ما قد خلفوه فمضى ، فصار خلفهم بتخليفهم إياه ، وكذلك تقول العرب لما قد جاوزه المرء وخلفه هو خلفه ، ووراءه وما بين ذلك : ما بين ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الاَخرة ، لأن ذلك هو الذي بين ذينك الوقتين .
وإنما قلنا : ذلك أولى التأويلات به ، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب ، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له . فتأمل الكلام إذن : فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك ، فإنا لا نتنزّل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها ، لله ما هو حادث من أمور الاَخرة التي لم تأت وهي آتية ، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا ، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة . بيده ذلك كله ، وهو مالكه ومصرّفه ، لا يملك ذلك غيره ، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا يقول : ولم يكن ربك ذا نسيان ، فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزُب عنه شيء في السماء ولا في الأرض فتبارك وتعالى ولكنه أعلم بما يدبر ويقضي في خلقه . جل ثناؤه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال : ما نسيك ربك .
موقع هذه الآية هنا غريب . فقال جمهور المفسرين : إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أياماً عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل : " ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا " فنزلت : { ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية . أي إلى قوله { نَسِيَّاً } ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس . وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا . ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها .
والمعنى : أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه ، فالنظم نظم القرآن بتقدير : وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك ، أي قل يا جبريل ، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً . فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب ، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا ، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن .
ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن .
والضمير لجبريل والملائكة ، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل ، قال تعالى : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] .
و { نتنزل } مرادف ننزّل ، وأصل التنزّل : تكلّف النزول ، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف . قال تعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] .
واللاّم في « له » للملك ، وهو ملك التصرف .
والمراد ب { مَا بَينَ أيْدِينَا } ما هو أمامنا ، وب { وَمَا خَلْفَنا : } ما هو وراءنا ، وب { ومَا بَينَ ذَلِكَ : } ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم ، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف . والمقصود استيعاب الجهات .
ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات ، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول ، مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، فيعمّ جميع الكائنات ، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي . ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال ، وقد فسر بها قوله { ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ } .
وجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جواباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
و { نسِيّاً } : صيغة مبالغة من نَسيَ ، أي كثيرَ النسيان أو شديده .
والنسيان : الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها ، وقد فسروه هنا بتارك ، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان . وفسر بمعنى شديد النسيان ، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله ، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله : { وما ربّك بظلام للعبيد } [ فصّلت : 46 ] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله ، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك ، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره . وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به .
وجوز أبو مسلم وصاحب « الكشاف » : أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالاً من قوله { من كان تقياً } [ مريم : 63 ] ، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك الخ ، وهو تأويل حسن .
وعليه فكاف الخطاب في قوله { بأمر ربك } خطاب كلّ قائل لمخاطبه ، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته .
وعليه فجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } من قول الله تعالى لرسوله تذييلاً لما قبله ، أو هي من كلام أهل الجنّة ، أي وما كان ربّنا غافلاً عن إعطاء ما وعدنا به .