قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } أي في يوم الجمعة كقوله : { أروني ماذا خلقوا من الأرض }( فاطر-40 ) أي في الأرض ، وأراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد قال : " كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء " . قرأ الأعمش : { من يوم الجمعة } بسكون الميم ، وقرأ العامة بضمها . واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة ، منهم من قال : لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه السلام . وقيل : لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات . وقيل : لاجتماع الجماعات فيه . وقيل : لاجتماع الناس فيها للصلاة . وقيل : أول من سماها جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة : أول من قال أما بعد كعب بن لؤي ، وكان أول من سمى الجمعة جمعة ، وكان يقال له يوم العروبة . وعن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة . وقبل أن ينزل يوم الجمعة وهم الذين سموها الجمعة . وقالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى يوم ، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه ، فنذكر الله ونصلي فيه ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة ، ثم أنزل الله عز وجل في ذلك بعد . وروي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه كعب ، أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات ، قلت له : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون . وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما ذكر أهل السير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حيث امتد الضحى ، فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، وقد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً ، فجمع هناك وخطب . قوله عز وجل : { فاسعوا إلى ذكر الله } ، أي : فامضوا إليه واعملوا له ، وليس المراد من السعي الإسراع ، إنما المراد منها العمل والفعل ، كما قال : { وإذا تولى سعى في الأرض }( البقرة- 205 ) ، وقال : { إن سعيكم لشتى { ( الليل- 4 ) . وكان عمر بن الخطاب يقرأ : فامضوا إلى ذكر الله ، وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود . وقال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع . وقال قتادة في هذه الآية : { فاسعوا إلى ذكر الله }( الجمعة-9 ) ، قال : فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها ، وكان يتأول قوله : { فلما بلغ معه السعي }( الصافات- 102 ) يقول فلما مشى معه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا له " إلى ذكر الله أي : الصلاة ، وقال سعيد بن المسيب : { فاسعوا إلى ذكر الله } قال هو موعظة الإمام ، { وذروا البيع } يعني البيع والشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً . وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني ، وقال الزهري : عند خروج الإمام . وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ، { ذلكم } الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع ، { خير لكم } من المبايعة ، { إن كنتم تعلمون } مصالح أنفسكم . واعلم أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان ، فتجب على كل من جمع العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والذكورة ، والإقامة ، إذا لم يكن له عذر . ومن تركها استحق الوعيد . وأما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما ، لأنهما ليسا من أهل أن يلزمهما فرض الأبدان لنقصان أبدانهما ، ولا جمعة على النساء بالاتفاق .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد ، حدثني سلمة بن عبد الله الخطمي ، عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تجب ترك الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبياً أو مملوكاً " . وذهب أكثرهم إلى أنه لا جمعة على العبيد . وقال الحسن وقتادة والأوزاعي : تجب على العبد المخارج ، ولا تجب على المسافر عند الأكثرين . وقال النخعي والزهري : تجب على المسافر إذا سمع النداء ، وكل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف ، جاز له ترك الجمعة ، وكذلك له تركها بعذر المطر والوحل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد المجيد صاحب الزيادي ، حدثنا عبد الله بن الحارث بن عمر ، حدثنا محمد بن سيرين قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت : أشهد أن محمداً رسول الله ، فلا تقل : حي على الصلاة . قل : صلوا في بيوتكم . فكأن الناس استنكروا ، فقال : فعله من هو خير مني ، إن الجمعة عزيمة ، وإن كرهت أن أخرجكم من بيوتكم ، فتمشون في الطين والوحل . وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة ، فإذا حضر وصلى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ، ولكن لا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر ، فإنه إذا حضر يكمل به العدد .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله ابن أحمد بن حمويه السرخسي في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، أنبأنا عيسى بن عمر ابن العباس السمرقندي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي ، أنبأنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية بن سلام ، أخبرني زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول حدثني الحكم بن مينا أن ابن عمر حدثه وأبا هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الخزاعي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا علي بن خشرم ، أنبأنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن عمرو ، عن عبيدة بن سفيان ، عن أبي الجعد يعني الضميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه " . واختلف أهل العلم في موضع إقامة الجمعة ، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها : أما الموضع : فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً من أهل الكمال ، بأن يكونوا أحراراً عاقلين بالغين مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة ، تجب عليهم إقامة الجمعة فيها . وهو قول عبيد الله بن عبد الله ، وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع عدد الأربعين أن يكون فيهم وال ، والوالي غير شرط عند الشافعي . وقال علي : لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي . ثم عند أبي حنيفة ، رضي الله عنه ، تنعقد بأربعة ، والوالي شرط ، وقال الأوزاعي وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات . وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر رجلاً . والدليل على جواز إقامتها في القرى ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ابن المثنى ، أنبأنا أبو عامر العقدي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال : " إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤتى من البحرين " . وإذا كان الرجل مقيماً في قرية لا تقام فيها الجمعة ، أو كان مقيماً في برية ، فذهب قوم إلى أنه إذا كان يبلغهم النداء من موضع الجمعة يلزمهم حضور الجمعة ، وإن كان لا يبلغهم النداء فلا جمعة عليهم . وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت ، مؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة ، فكل قرية تكون في موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة . وقال سعيد بن المسيب : تجب على كل من آواه المبيت . وقال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال . وقال ربيعة : على أربعة أميال . وقال مالك والليث : على ثلاثة أميال . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا جمعة على أهل السواد قريبة كانت القرية أو بعيدة . وكل من تلزمه صلاة الجمعة لا يجوز له أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة ، وجوز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت . أما إذا سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر فيجوز ، غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة من حج أو غزو ، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيماً فلا يسافر حتى يصلي الجمعة ، والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا أبو عيسى ، حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا معاوية ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغدا أصحابه ، وقال : أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم ، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال له : ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ قال : أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم ، فقال : لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم " . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً عليه هيئة السفر يقول : لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت ، فقال عمر : اخرج فإن الجمعة لا تحبس من سفر . وقد ورد أخبار في سنن يوم الجمعة وفضله منها : ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنه قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار ، فجلست معه فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أهبط وفيه تيب عليه ، وفيه مات وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ، قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، فقلت ، بل في كل جمعة ، قال : فقرأ كعب التوراة فقال : فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة ، فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ، هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، قال أبو هريرة : وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي . وتلك ساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها ؟ قال أبو هريرة : بلى ، قال : فهو ذاك " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد ابن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، أنبأنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، أخبرني أبوعبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بين الجمعتين " .
حدثنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا أحمد بن خالد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن وعن أبي أمامة يعني سهل بن حنيف حدثاه عن أبي سعيد وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد ، فلم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع ، وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة التي كانت قبلها " . قال أبو هريرة : وزيادة ثلاثة أيام لأن الله تعالى يقول : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }( الأنعام- 160 ) .
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أنبأنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنبأنا أبو علي بن أحمد بن عمر اللؤلؤي ، حدثنا أبو سليمان بن الأشعث ، حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي ، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي ، حدثني حسان بن عطية ، حدثني أبو الأشعث الصنعاني ، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها " . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم الجمعة وقفت على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم ، الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة والمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنةً ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي كبشاً حتى ذكر الدجاجة والبيضة " .
{ 9-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة والمبادرة إليها ، من حين ينادى لها والسعي إليها ، والمراد بالسعي هنا : المبادرة إليها والاهتمام لها ، وجعلها أهم الأشغال ، لا العدو الذي قد نهي عنه عند المضي إلى الصلاة ، وقوله : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي : اتركوا البيع ، إذا نودي للصلاة ، وامضوا إليها .
فإن { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } من اشتغالكم بالبيع ، وتفويتكم الصلاة الفريضة ، التي هي من آكد الفروض .
{ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن ما عند الله خير وأبقى ، وأن من آثر الدنيا على الدين ، فقد خسر الخسارة الحقيقية ، من حيث ظن أنه يربح ، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة .
وبعد هذا التوبيخ والتحدى لليهود الذين زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس . . . وجه - سبحانه - للمؤمنين نداء أمرهم فيه بالمسارعة إلى أداء فرائضه ونهاهم عن أن تشغلهم دنياهم عن ذكره وطاعته ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا . . . } .
المقصود بالنداء فى قوله - سبحانه - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ . . . } جميع المكلفين بها ، الذين يجب عليهم أداؤها . .
وناداهم - سبحانه - بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة الإيمان فى قلوبهم ، ولتحريضهم على المسارعة إليها ، إذ من شأن المؤمن القوى ، أن يكون مطيعا لما يأمره خالقه به .
والمراد بالنداء : الأذان والإعلام بوقت حلولها .
والمقصود بالصلاة المنادى لها هنا : صلاة الجمعة ، بدليل قوله - تعالى - : { مِن يَوْمِ الجمعة } .
واللام فى قوله { لِلصَّلاَةِ } للتعليل ، و { مِن } بمعنى فى ، أو للبيان ، أو للتبعيض ، لأن يوم الجمعة زمان ، تقع فيه أعمال ، منها الصلاة المعهودة فيه وهى صلاة الجمعة لأن الأمر بترك البيع خاص بها ، لوجود الخطبة فيها .
وقوله : { فاسعوا . . . } جواب الشرط ، من السعى ، وهو المشى السريع .
والمراد به هنا : المشى المتوسط بوقار وسكينة ، وحسن تهيؤ لصلاة الجمعة . . .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } أى : امشوا إليه بدون إفراط فى السرعة . . .
فقد أخرج الستة فى كتبهم عن أبى سلمة من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وأنتم تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .
والمراد بذكر الله : الخطبة والصلاة جميعا ، لاشتمالهما عليه ، واستظهر بعضهم أن المراد به الصلاة ، وقصره بعضهم على الخطبة . .
وإنما عبر - سبحانه - بالسعى لتضمنه معنى زائدا على المشى ، وهو الجد والحرص على التبكير ، وعلى توقى التأخير .
والمعنى : يامن آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا نادى المنادى لأجل الصلاة فى يوم الجمعة ، فامضوا إليها بجد ، وإخلاص نية ، وحرص على الانتفاع بما تسمعونه من خطبة الجمعة ، التى هى لون من ألوان ذكر الله - تعالى - وطاعته .
والأمر فى قوله - سبحانه - : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . } الظاهر أنه للوجوب ، لأن الأمر يقتضى الوجوب ، ما لم يوجد له صارف عن ذلك ، ولا صارف له هنا .
والمراد من البيع هنا : المعاملة بجميع أنواعها ، فهو يعم البيع والشراء وسائر أنواع المعاملات .
أى : إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة ، فاخرجوا إليها بحرص وسكينة ووقار . واتركوا المعاملات الدنيوية من بيع ، وشراء ، وإجارة ، وغيرها .
وإنما قال - سبحانه - : { وَذَرُواْ البيع . . } لأنه أهم أنواع المعاملات ، فهو من باب التعبير عن الشىء بأهم أجزائه .
واسم الإشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره من الأمر بالسعى إلى ذكر الله ، متى نودى للصلاة ، وترك الاشتغال بالبيع وما يشبهه .
أى : ذلك الذى أمرتكم به من السعى إلى ذكر الله عند النداء للصلاة من يوم الجمعة ، ومن ترك أعمالكم الدنيوية .
. . خير لكم مما يحصل لكم من رزق فى هذه الأوقات ، عن طريق البيع أو الشراء أو غيرهما .
فالمفضل عليه محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، والمفضل هو السعى إلى ذكر الله - تعالى - .
وهذا التفضيل باعتبار أن منافع السعى إلى ذكر الله - تعالى - باقية دائمة ، أما المنافع الدنيوة فهى زائلة فانية .
وجواب الشرط فى قوله { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف : أى : إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم ، فاسعوا إلى ذكر الله عند النداء للصلاة ، واتركوا البيع والشراء .
أو إن كنتم من أهل العلم والفقه السليم للأمور ، عرفتم أن امتثال أمر الله - تعلى - بأن تسعوا ، إلى ذكره عند النداء لصلاة الجمعة ، خير لكم من الاشتغال فى هذا الوقت بالبيع والشراء .
إذ فى هذا الامتثال سعادتكم ونجاتكم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من عباده : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ وذلك هو النداء ، ينادى بالدعاء إلى صلاة الجمعة عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ومعنى الكلام : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ يقول : فامضوا إلى ذكر الله ، واعملوا له وأصل السعي في هذا الموضع العمل ، وقد ذكرنا الشواهد على ذلك فيما مضى قبل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن شُرَحْبيل بن مسلم الخَوْلانيّ ، في قول الله : فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهُ قال : فاسعوا في العمل ، وليس السعي في المشي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ للَصّلاةِ مِنْ يَوْم الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله والسعي يا بن آدم أن تسعى بقلبك وعملك ، وهو المضي إليها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدّي ، عن شعبة ، قال : أخبرني مغيرة ، عن إبراهيم أنه قيل لعمر رضي الله عنه : إن أُبيّا يقرؤها : فاسْعَوْا قال : أما إنه أقرؤنا وأعلمنا بالمنسوخ وإنما هي «فامضوا » .
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الزهريّ ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : ما سمعت عمر يقرؤها قطّ إلاّ فامضوا .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا حنظلة ، عن سالم بن عبد الله ، قال : كان عمر رضي الله عنه يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حنظلة ، عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قرأها : فامضوا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حنظلة بن أبي سفيان الجمحيّ ، أنه سمع سالم بن عبد الله يحدّث عن أبيه ، أنه سمع عمر بن الخطاب يقرأ : «إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر ، أن عبد الله قال : لقد توفى الله عمر رضي الله عنه ، وما يقرأ هذه الاَية التي ذكر الله فيها الجمعة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ إلا «فامضوا » إلى ذكر الله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان عبد الله يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » ويقول : لو قرأتها فاسعوا ، لسعيت حتى يسقط ردائي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عدّي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : لو كان السعي لسعيت حتى يسقط ردائي ، قال : ولكنها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » قال : هكذا كان يقرؤها .
حدثني عليّ بن الحسين الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان الأزدي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية أنه كان يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، أنه قرأها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : هي للأحرار .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور عن رجل ، عن مسروق ، قال : عند الوقت .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن رجل ، عن مسروق إذَا نُودِيَ للصّلاةِ قال : عند الوقت .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : هو عند العزمة عند الخطبة ، عند الذكر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : النداء عند الذكر عزيمة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : العزمة عند الذكر عند الخطبة .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن المُغيرة والأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، قال : لو قرأتها فاسْعَوْا لسعيت حتى يسقط ردائي ، وكان يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبيّ ، عن ابن مسعود قال : قرأها فامْضُوا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن عكرمة فاسْعَوْا إلى ذِكْر اللّهِ قال : السعي : العمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله : إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ قال : إذا سمعتم الداعي الأوّل ، فأجيبوا إلى ذلك وأسرعوا ولا تبطئوا قال : ولم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم أذان إلا أذانان : أذان حين يجلس على المنبر ، وأذان حين تُقام الصلاة قال : وهذا الاَخر شيء أحدثه الناس بعد قال : لا يحلّ له البيع إذا سمع النداء الذي يكون بين يدي الإمام إذا قعد على المنبر وقرأ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا البَيْعَ قال : ولم يأمرهم يذرون شيئا غيره ، حرّم البيع ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا من الصلاة ، قال : والسعي أن يُسرع إليها ، أن يُقبِل إليها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إن في حرف ابن مسعود «إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ السعي : هو العمل ، قال الله : إنّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى .
وقوله : وَذَرُوا البَيْعَ يقول : ودعوا البيع والشراء إذا نودي للصلاة عند الخطبة . وكان الضحاك يقول في ذلك ما :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، قال : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء .
حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل السديّ ، عن أبي مالك ، قال : كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ، فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ، ولا يقومون ، فنزلت : إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ .
وأما الذكر الذي أمر الله تبارك وتعالى بالسعي إليه عباده المؤمنين ، فإنه موعظة الإمام في خطبته فيما قيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : العزمة عند الذكر عند الخطبة .
حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبدان ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا منصور رجل من أهل الكوفة ، عن موسى بن أبي كثير ، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ قال : فهي موعظة الإمام فإذا قضيت الصلاة بعد .
وقوله : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقول : سعيكم إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة إلى ذكر الله ، وترك البيع خير لكم من البيع والشراء في ذلك الوقت ، إن كنتم تعلمون مصالح أنفسكم ومضارّها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْ يَوْم الجُمُعَةِ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : الجُمُعَةِ بضم الميم والجيم ، خلا الأعمش فإنه قرأها بتخفيف الميم .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
«النداء بالجمعة » هو في ناحية من المسجد ، وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال السائب بن يزيد{[11093]} : كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد على باب المسجد ، وفي مصحف أبي داود : كان بين يديه وهو على منبر أذان ، وهو الذي استعمل بنو أمية ، وبقي بقرطبة إلى الآن ، ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس ، فقوم عبروا عن زيادة عثمان بالثاني ، كأنهم لم يعتدوا الذي كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوم عبروا عنه بالثالث ، وقرأ الأعمش وابن الزبير : «الجمْعة » بإسكان الميم وهي لغة ، والمأمور بالسعي هو المؤمن الصحيح البالغ الحر الذكر ، ولا جمعة على مسافر في طاعة ، فإن حضرها أحسن ، وأجزأته .
واختلف الناس في الحد الذي يلزم منه السعي ، فقال مالك : ثلاثة أميال .
قال القاضي أبو محمد : من منزل الساعي إلى المنادي ، وقال فريق : من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء ، وقال أصحاب الرأي : يلزم أهل المدينة كلها السعي من سمع النداء ومن لم يسمع ، وإن كانت أقطارها فوق ثلاثة أميال . قال أبو حنيفة : ولا من منزله خارج المدينة كزرارة من الكوفة ، وإنما بينهما مجرى نهر ، ولا يجوز لهم إقامتها لأن من شروطها الجامع والسلطان القاهر ، والسوق القائمة ، وقال بعض أهل العلم : يلزم السعي من خمسة أميال ، وقال الزهري : من ستة أميال ، وقال أيضاً : من أربعة أميال وقاله ابن المنكدر ، وقال ابن عمر وابن المسيب وابن حنبل : إنما يلزم السعي من سمع النداء ، وفي هذا نظر . والسعي في الآية : ليس الإسراع في المشي كالسعي بين الصفا والمروة ، وإنما هو بمعنى قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[11094]} [ النجم : 39 ] ، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي سعي كله إلى ذكر الله تعالى ، قال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، فالسعي هو بالنية والإرادة ، والعمل{[11095]} و " الذكر " هو وعظ الخطبة قاله ابن المسيب ، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الملائكة على باب المسجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول إذا خرج الإمام طويت الصحف وجلست الملائكة يستمعون الذكر » ، والخطبة عند جمهور العلماء شرط في انعقاد الجمعة ، وقال الحسن : وهي مستحبة ، وقرأ عمر بن الخطاب ، وعلي وأبي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، وجماعة من التابعين : «فامضوا إلى ذكر الله »{[11096]} ، وقال ابن مسعود : لو قرأت «فاسعوا » لأسرعت حتى يقع ردائي .
واختلف الناس في : { البيع } في الوقت المنهي عنه إذا وقع ما الحكم فيه بعد إجماعهم على وجوب امتناعه بدءاً ، فقال الشافعي : يمضي ، وقال مرة : يفسخ ما لم يفت فإن فات صح بالقيمة ، واختلف في وقت التقويم ، فقيل : وقت القبض ، وقيل : وقت الحكم ، وقوله تعالى : { ذلكم } إشارة إلى السعي وترك البيع .
هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفاً . وقد تقدم ما حكاه « الكشاف » من أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت فشرع الله للمسلمين الجمعة . فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيداً وتوطئة . اللام في قوله : { للصلاة } لام التعليل ، أي نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة ، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة .
والجمعة بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهو لغة أهل الحجاز . وبنُو عُقَيْل بسكون الميم .
والتعريف في { الصلاة } تعريف العهد وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة . وقد ثبتت شرعاً بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة .
وكانت صلاةُ الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة . رُوي عن ابن سيرين أن الأنصار جمَّعوا الجمعة قبل أن يقدمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا : إن لليهود يوماً يجتمعون فيه وللنصارى يوم مثل ذلك فتعالَوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله ونصلي فيه . وقالوا : إن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العَروبة . فاجتمعَوا إلى أسعدَ بن زُرَارةَ فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكَّرهم .
وروى البيهقي عن الزهري أن مُصْعَب بن عُمير كان أول من جَمَّع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعين أن يكون ذلك قد عَلم به النبي صلى الله عليه وسلم ولعلهم بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثُ فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين .
فمشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة المسلمين مثل إجابته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] .
وأما أول جمعة جمَّعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل السِيرَ : كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يومَ الاثنين لاثنتيْ عشرةَ ليلةً خلتْ من ربيع الأول فأقام بِقُبَاء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقتُ الجُمعة في بطن واد لبني سَالم بن عوف كان لهم فيه مسجد ، فجمَّع بهم في ذلك المسجد ، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في « تفسيره » .
وقولهم : « فأدركه وقت الجمعة » ، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذٍ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عازماً أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني سالم ، ثم صلّى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانيةَ بالأخبار الصحيحة .
وأول جُمعة جُمِّعت في مسجد من مساجد بلاد الإِسلام بعدَ المدينة كانت في مسجد جُؤَاثاء{[421]}
من بلاد البحرين وهي مدينة الخَطّ قرية لعبد القيس .
ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أهل جُؤَاثاء على الإِسلام .
وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإِسلام وهو الذي كان يسمّى في الجاهلية عَروبَة . قال بعض الأيمة : ولا تدخل عليه اللام . قال السهيلي : معنى العَروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اهـ . قلت وذلك مروي عن ثعلب ، وهو قبل يوم السبت وقد كان يوم السبت عيدَ الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع . وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمّى العرب القدماءُ يوم الأحد أولَ .
فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي : أوَّلُ ، أَهونُ جُبَار ، ( كغُراب وكِتاب ) ، دُبار ( كذلك ) ، مُؤيِس ( مهموزاً ) ، عَروبة ، شِيار ( بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة ) .
ثم أحدثوا أسماءَ لهذه الأيام هي : الأحد ، الإثنين ، الثُّلاثاء بفتح المثلثة الأولى وبضمها ، الإِرْبِعاء بكسر الهمزة وكسر الموحدة ، الخميس ، عَروبة أو الجمعة في قول بعضهم السَّبْت . وأصل السبت : القطع ، سمي سبتاً عند الإِسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل ، وشاع ذلك الاسم عند العرب .
وسمّوا الأيام الأربعة بعدهُ بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها وليس في التوراة ذكر أسماء للأيام . وفي سفر التكوين منها « ذُكرت أيامُ بدء الخلق بأعدادها أولُ وثانٍ » الخ ، وأن الله لم يخلق شيئاً في اليوم الذي بعد اليوم السادس . وسمتْه التوراة سَبْتاً ، قال السهيلي : قيل أول من سَمى يوم عَروبة الجمعةَ كَعبُ بن لُؤَي جدُّ أبي قُصي . وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب قال : وفي قول بعضهم . u لم يسم يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإِسلام .
جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيدَ الأُسبوع فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد وسماعَ الخطبة ليعلَّموا ما يهمهم في إقامة شؤون دينهم وإصلاحهم .
قال القفّال : ما جعل الله الناس أشرف العالم السفلي لم يُخْففِ عظم المنة وجلالة قدر موهبتِه لهم فأمرهم بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم . ولكل أهل ملةٍ معروفة يومٌ من الأسبوع معظم ، فلليهود يوم السبت وللنصارى الأحد وللمسلمين يوم الجمعة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن الآخِرون " ، أي آخر الدنيا السابقون يوم القيامة ( يوم القيامة يتعلق ب« السابقون » ) . بيدَ أنهم ( أي اليهود والنصارى ) أوتوا الكتاب من قبلنا ثم كان هذا اليومَ الذي اختلفوا فيه فهدَانَا الله إليه ، فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد .
ولما جُعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته فجُمِّعت الجماعات لذلك ، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيراً بالنعمة وحثّاً على استدامتها . ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تُجْز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى الاجتماع اه . كلام القفال . وقول النبي صلى الله عليه وسلم « والنصارى بعد غد » ، إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح وبعدَ الحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد لأنهم زعموا أن يومَ الأحد فيه قام عيسى من قبره . فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قُسطنطين سلطاننِ الروم في سنة 321 المسيحي . وصار دِيناً لهم بأمر أحبارهم .
وصلاة الجمعة هي صلاة ظُهرِ يوم الجمعة ، وليست صلاةً زائدة على الصلوات الخمس فأُسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجْل الخطبتين . روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : وإنما قُصِّرت الجمعة لأجل الخطبة{[422]} .
وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل خطبة بمنزلة ركعةٍ وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإِيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفاً . غير أن الخطبتين لم تعطيَا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معاً ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجودٌ لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار ، روي عن عطاء ومجاهد وطاووس : أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعاً صلاة الظهر . وعن عطاء : أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد إن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة{[423]} .
وجعلت القراءة في الصلاة جهراً مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سُوراً من القرآن كما أسمِعوا الخطبة فكانت صلاةَ إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع .
والإِجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهراً فأما من لم يصلِها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر . ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قَام إمام يصلي بجماعة ظُهراً بعد الفراغ من صلاة الجمعة وذلك بدعة .
وإنما اختلف الأيمة في أصل الفرض في وقت الظهر يوم الجمعة فقال مالك والشافعي في آخر قوليه وأحمد وزُفَر من أصحاب أبي حنيفة : صلاة الجمعة المعروفة فرضُ وقت الزوال في يوم الجمعة وصلاة الظهر في ذلك اليوم لا تكون إلا بَدلاً عن صلاة الجمعة ، أي لمن لم يصل الجمعة لعذر ونحوه .
وقال أبو حنيفة والشافعي في أول قوليه ( المرجوع عنه ) وأبو يوسف ومحمدٌ في رواية : الفرضُ بالأصل هو الظهر وصلاة الجمعة بَدل عن الظهر ، وهو الذي صححه فقهاء الحنفية .
وقال محمد في رواية عنه : الفرض إحدى الصلاتين من غير تعيين والتعيينُ للمكلف فأشبه الواجبَ المخير ( لأن الواجب المخير لا يأثم فيه فاعل أحد الأمرين وتارك الجمعة بدون عذر آثم ) .
قالوا : تظهر فائدة الخلاف في حُرَ مقيم صلّى الظهر في أول الوقت ؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه : له صلاة الظهر مطلقاً حتى لو خرج بعد أن صلّى الظهرَ أو لم يخرج لم يبطل فرضُه ، لكن عند أبي حنيفة يبطل ظُهره بمجرد السعي مطلقاً وعند صاحبيه لا يبطل ظُهره إلا إذا أدرك الجمعة .
وقال مالك والشافعي : لا يجوز أن يصلّي الظهر يوم الجمعة سواء أدرك الجمعةَ أم لا ، خرج إليها أم لا ( يعني فإن أدرك الجمعة فالأمرُ ظاهر وإن لم يدركها وجب عليه أن يصلي ظهراً آخر ) .
والنداء للصلاة : الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في « الصحيح » عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعُمر . قال السائب بن يزيد : فلما كان عثمان وكثُر الناس بالمدينة زاد أذاناً على الزوراء ( الزوراء موضع بسوق المدينة ) . وربما وصف في بعض الرّوايات بالأذان الثاني . ومعنى كونه ثانياً أنه أذانٌ مكرِّر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية ولا يريد أنه يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإِمام على المنبر ، أي يؤذن به في باب المسجد ، إذْ لم يكن للناس يومئذٍ صومعة ، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث وإنما يُعنَى بذلك أنه ثالث بضميمه الأذان الأول . ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليُسمعَ النداءُ من في أطراف المدينة ، وربما سموه الأذان الأول .
والذي يظهر من تحقيق الروايات أن هذا الأذان الثاني يؤذّن به عقب الأذان الأول ، لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولاً ثم يخرج الإِمام فيؤذن بالأذان بَين يديه .
قال ابن العربي في « العارضة » : « لما كثر الناس في زمن عثمان زاد النداءَ على الزوراء ليشعر الناس بالوقت فيأخذوا بالإِقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أُذِّن الثاني الذي كان أولاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخطب . ثم يؤذَّن الثالث يعني به الإِقامة » اه .
وقال في « الأحكام » : « وسمّاه في الحديث ( أي حديثثِ السائب بن يزيد ) ثالثاً لأنه أضافه إلى الإِقامة فجعله ثالثَ الإِقامة ، ( أي لأنه أحدث بعد أن كانت الإِقامة مشروعة وسمّى الإِقامة أذاناً مشاكلة أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " بينَ كل أذانَيْن صلاةٌ لمن شاء " .
يعني بين الأذان والإِقامة ، فتوهم الناس أنه أذانٌ أصْليّ فجعلوا الأذانات ثلاثة فكان وهَماً . ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهَماً على وهَم اه . فتوهم كثير من أهل الأمصار أن الأذان لصلاة الجمعة ثلاث مرات لهذا تراهم يؤذنون في جوامع تونس ثلاثة أذانات وهو بدعة .
قال ابن العربي في « العارضة » : فأما بالمَغْرب ( أي بلاد المغرب ) فيؤذن ثلاثة من المؤذنين لجهل المفتين قال في « الرسالة » : « وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية » فوصفه بالثاني وهو التحقيق ، ولكنه نسبه إلى بني أمية لعدم ثبوت أن الذي زاده عثمان ، ورواه البخاري وأهل السنن عن السائب بن يزيد ولم يروه مسلم ولا مالك في « الموطأ » .
والسبب في نسبته إلى بني أمية : أن علي بن أبي طالب لما كان بالكوفة لم يُؤذّن للجمعة إلا أذاناً واحداً كما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألغى الأذان الذي جعله عثمان بالمدينة . فلعل الذي أرجع الأذان الثاني بعضُ خلفاء بني أمية قال مالك في « المجموعة » : إن هشام بن عبد الملك أحدث أذاناً ثانياً بين يَدَيه في المسجد .
واعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي في هذه الآية هو النداء الأول ، وما كان النداء الثاني إلا تبليغاً للأذان لمن كان بعيداً فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نُودي للجمعة .
والسعي : أصله الاشتداد في المشي . وأطلق هنا على المشي بحرص وتوقي التأخر مجازاً .
و { ذِكر الله } فُسر بالصلاة وفُسر بالخطبة ، بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير . قال أبو بكر بن العربي « والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة » .
قلت : وإيثار { ذكر الله } هنا دون أن يقول : إلى الصلاة ، كما قال : { فإذا قضيت الصلاة } لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة . وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة . وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلاّ في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر .
وفي حديث « الموطأ » « فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر » ولا شك أن الإِمام إذا خرج ابتدأ بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية . وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالاً على عِير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] .
ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة ، وبعد كون البيع وما قيس عليه منهياً عنه فقد اختُلف في فسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة . وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه ، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لِدليل . وقول مالك في « المدونة » : إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ .
وقال الشافعي : لا يفسخ . وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضاً .
وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة : ففي « العتيبة » عن ابن القاسم : لا يفسخ . ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجباً لفسخ المقيس . وكذلك قال أيمة المالكية : لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع .
وخطاب الآية جميعَ المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان . وشذ قوم قالوا : إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس : ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها .
و { مِن } في قوله : { من يوم الجمعة } تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه ، فنزّل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء .
ويجوز كون { مِن } للظرفية مثل التي في قوله تعالى : { أروني ماذا خلقوا من الأرض } [ فاطر : 40 ] ، أي فيها من المخلوقات الأرضية .
والإِشارة ب { ذلكم } إلى المذكور ، أي ما ذُكر من أمر بالسعي إليها ، وأمر بترك البيع حينئذٍ ، أي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات . فلفظ { خير } اسم تفضيل أصله : أخير ، حذفت همزته لكثرة الاستعمال . والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه . والمفضل : الصلاة ، أي ثوابها . والمفضل عليه : منافع البيع للبائع والمشتري .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة} يقول: إذا نودي إلى الصلاة و" من "ها هنا صلة {من يوم الجمعة} يعني إذا جلس الإمام على المنبر {فاسعوا إلى ذكر الله} يقول: فامضوا إلى الصلاة المكتوبة {وذروا البيع ذلكم} يعني الصلاة {خير لكم} من البيع والشراء {إن كنتم تعلمون}.
يحيى: قال مالك: وإنما السعي في كتاب الله العمل والفعل. يقول الله تبارك وتعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض}.
وقال تعالى: {وأما من جاءك يسعى}: {ثم أدبر يسعى}. وقال: {إن سعيكم لشتى}. قال مالك: فليس السعي الذي ذكر الله في كتابه بالسعي على الأقدام، ولا الاشتداد، وإنما على العمل والفعل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من عباده: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ "وذلك هو النداء، ينادى بالدعاء إلى صلاة الجمعة عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ومعنى الكلام: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة "فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ" يقول: فامضوا إلى ذكر الله، واعملوا له، وأصل السعي في هذا الموضع العمل، وقد ذكرنا الشواهد على ذلك فيما مضى قبل... كان عمر رضي الله عنه يقرأها: «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ»...
وقوله: "وَذَرُوا البَيْعَ" يقول: ودعوا البيع والشراء إذا نودي للصلاة عند الخطبة. وكان الضحاك يقول:.. إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء...
وأما الذكر الذي أمر الله تبارك وتعالى بالسعي إليه عباده المؤمنين، فإنه موعظة الإمام في خطبته فيما قيل...
وقوله: "ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" يقول: سعيكم إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة إلى ذكر الله، وترك البيع خير لكم من البيع والشراء في ذلك الوقت، إن كنتم تعلمون مصالح أنفسكم ومضارّها.
واتفق الجميع أيضاً على أن المراد بهذا النداء هو الأذان... ورُوي عن ابن عمر والحسن في قوله: {إِذَا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ} قال: إذا خرج الإمام وأذّن المؤذّن فقد نُودي للصلاة...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
والذكر هاهنا: الصلاة والخطبة بإجماع. (س: 5/128)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح {وَذَرُواْ البيع} الذي نفعه يسير وربحه مقارب...
وجه التعلق بما قبلها هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} أي إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: {والآخرة خير وأبقى} ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم بقوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم الجمعة
، وقوله تعالى: {للصلاة} أي لوقت الصلاة يدل عليه قوله: {من يوم الجمعة} ولا تكون الصلاة من اليوم، وإنما يكون وقتها من اليوم،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وألهبهم بأداة البعد -المشيرة إلى احتياجهم إلى التزكية- إلى المبادرة إلى الإقبال على ما يتعقب ذلك من الأوامر {إذا نودي} أي من أي مناد كان من أهل النداء {للصلاة} أي لأجل الحضور إليها وإليه عند قعود الإمام على المنبر للخطبة. ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها النداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقال: {من يوم الجمعة} أي اليوم الذي عرض على من قبلنا فأبوه فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً وادخره الله لنا ووفقنا لقبوله، فكانوا لنا تبعاً مع تأخرنا عنهم في الزمان، سمي بذلك لوجوب الاجتماع فيه للصلاة...
. {فاسعوا} أي لتكونوا أولياء الله ولا تهاونوا في ذلك لتكونوا أعداءه كاليهود {إلى ذكر الله} أي الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك... ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة، وكان طلب الأرباح لكونها حاضرة أعظم مانع عن أمور الآخرة لكونها غايته، وكان البيع أجل ذلك لتعين الفائدة فيه... قال ناهياً عن تجارة الدنيا وكل ما يعوق عن الجمعة معبراً به عنها لأنه أعظمها: {وذروا البيع} أي اتركوه ولو على أقبح حالاته وأذلها وأحقرها، فأفاد النهي عن غيره من باب الأولى، ووقت التحريم من الزوال إلى فراغ الصلاة... ولما أمر بما هو شاق على النفوس معبراً بالفعل المريض لفظاً ومعنى، رغب فيه بقوله: {ذلكم} أي الأمر العالي الرتبة من فعل السعي وترك الاشتغال بالدنيا {خير لكم} لأن الذي أمركم به له الأمر كله وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم، وألهب إلى ذلك وزاد في الحث عليه بقوله: {إن كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {تعلمون} أي يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك لكم خيراً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع -وسائر نشاط المعاش- بمجرد سماعهم للأذان: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع).. وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).. مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب. وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس؛ فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض، ليخلو إلى ربه، ويتجرد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها...