البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (9)

{ إذا نودي } : أي إذا أذن ، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر .

وكذا كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة .

وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان ، كثر الناس وتباعدت المنازل ، فزاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني ، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة ، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه .

فإن قلت : من في قوله : { من يوم الجمعة } ما هي ؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . انتهى .

وقرأ الجمهور : الجمعة بضم الميم ؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة ، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش : بسكونها ، وهي لغة تميم ، ولغة بفتحها لم يقرأ بها ، وكان هذا اليوم يسمى عروبة ، ويقال : العروبة .

قيل : أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي ، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة ، صلى بهم ركعتين وذكرهم ، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام .

وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما قدم المدينة ، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف ، في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة .

والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } ، وأنه يكون في المشي خفة وبدار .

وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل ، وليس الإسراع في المشي ، كالسعي بين الصفا والمروة ؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي .

والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموماً ، وأنهما فرض على الأعيان .

وعن بعض الشافعية ، أنها فرض كفاية ، وعن مالك رواية شاذة : أنها سنة .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم » وقالوا : المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم .

فلو حضر غيره أجزأتهم . انتهى .

والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها ، واختلف الفقهاء في ذلك .

فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري : ستة أميال .

وقيل : خمسة .

وقال ربيعة : أربعة أميال .

وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر .

وقال مالك والليث : ثلاثة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمع ، لا على من هو خارج المصر ، وإن سمع النداء .

وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق : على من سمع النداء .

وعن ربيعة : على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة .

وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين : فامضوا بدل { فاسعوا } ، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي ، ففسروه بالمضي ، ولا يكون قرآناً لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون .

وذكر الله هنا الخطبة ، قاله ابن المسيب ، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور .

وقال الحسن : هي مستحبة ، والظاهر أنه يجزىء من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكراً .

قال أبو حنيفة : لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز ، وقال غيره : لا بد من كلام يسمى خطبة ، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن ، والظاهر تحريم البيع ، وأنه لا يصح .

وقال ابن العربي : يفسخ ، وهو الصحيح .

وقال الشافعي : ينعقد ولا يفسخ ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعاً ، مفسوخ ورعاً . انتهى .

وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونهوا عن تجارة الدنيا ، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الضحاك والحسن وعطاء .

وقال ناس غيرهم : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع .