السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (9)

{ يا أيها الذين أمنوا } أي : أقروا بألسنتهم بالإيمان { إذا نودي } أي : من أي مناد كان من أهل النداء { للصلاة } أي : صلاة الجمعة { من } أي : في { يوم الجمعة } كقوله تعالى : { أروني ماذا خلقوا من الأرض } [ فاطر : 40 ]

أي : في الأرض ، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه ، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال ، وعن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور ، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك .

وعن أبي داود قال : كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد ، روي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان ، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر ، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء ، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل أقام الصلاة ، فلم يعب ذلك عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي » .

قال الماوردي : أما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها ، وكان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن سوقهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان أذانين في المسجد . قال ابن العربي : وفي الحديث الصحيح : «أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً ، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء » ، وسماه في الحديث ثالثاً لأنه أضافه إلى الإقامة ، كقوله صلى الله عليه وسلم «بين كل إذانين صلاة لمن شاء » يعني : الأذان والإقامة ، وتوهم بعض الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة . قال ابن عادل : فكان وهماً ، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم .

واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فمنهم من قال : لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام . روى مالك عن أبن هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام ، وفيه أهبط ، وفيه مات وفيه تاب الله عليه ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد » وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء ، وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد » ومنهم من قال : لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات ، ومنهم من قال : لاجتماع الجماعات فيه للصلاة ، وقيل : أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي .

قال أبو سلمة : أول من قال أما بعد : كعب بن لؤي ، وكان أول من سمى الجمعة جمعة ، وكان يقول له : يوم العروبة . وعن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة . وقيل : إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك ، فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى فيه ونصلي ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين ، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، ثم أنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام .

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ، قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له : بقيع الخضمان ، قلت له : كم كنتم يومئذٍ ، قال : أربعين » أخرجه أبو داوود .

وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عيه وسلم بأصحابه ، فقال أهل السير : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، حين اشتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ ، فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً ، فجمع بهم وخطب وهي أول خطبة خطبها بالمدينة . وقال فيها : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفر به ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، والنور والموعظة ، والحكمة على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ، وضلالة من الناس ، وانقطاع من الزمان ، ودنو من الساعة وقرب من الأجل . من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط ، وضل ضلالاً بعيداً أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله ، واحذروا ما حذركم الله من نفسه فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكراً في عاجل أمره ، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم ، و ما كان مما سوى ذلك { يود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } [ آل عمران : 30 ] وهو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك ، فإنه يقول : { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } [ ق : 29 ] فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية ، فإنه من يتق الله يكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب : 71 ] وإن تقوى الله توقي مقته ، وتوقي عقوبته ، وتوقي سخطه ، وإن تقوى الله تبيض الوجه ، وترضي الرب ، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه ، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده { هو اجتباكم } و{ سماكم المسلمين } [ الحج : 78 ] ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت ، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ، ويملك من الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .

قال بعضهم : قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة .

تنبيه : سمى الله تعالى الجمعة ذكراً له ، قال أبو حنيفة : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله : الحمد لله سبحان الله جاز ، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله ؛ فارتج عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً ، وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد .

وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة ، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه .

فإن قيل : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة ، وفيها ذكر غير الله ؟

أجيب : بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين ، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان .

وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه : صه فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب المغالي في ذلك لاغياً نعوذ بالله من غربة الإسلام ، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً ، فقال { يا أيها الذين آمنوا } ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى : { وإذا ناديتم إلى الصلاة } ليدل على وجوبه وتأكد فرضه . وقال بعض العلماء : كون الصلاة الجمعة هاهنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ ، وقال ابن العربي : وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة ، وهي قوله تعالى : { من يوم الجمعة } وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة ، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام ، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه .

واختلف في معنى قوله تعالى : { فاسعوا } أي : لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك . فقال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ، ولكن سعي بالقلوب والنية ، وقال الجمهور : السعي : العمل لقوله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } [ الإسراء : 19 ] كقوله تعالى : { إن سعيكم لشتى } [ الليل : 4 ] وقوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [ النجم : 39 ] وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » واختلفوا أيضاً : في معنى قوله تعالى : { إلى ذكر الله } أي : الملك الأعظم ، فقال سعيد بن المسيب : هو موعظة الإمام ، وقال غيره : الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك .

ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهياً عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة { وذروا البيع } أي : اتركوا البيع والشراء ؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً ، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني . وقال الزهري : عند خروج الإمام ، وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء . وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى ، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم ، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم ، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل : بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله { ذلكم } أي : الأمر العالي الرتبة من فعل السعي ، وترك الاشتغال بالدنيا { خير لكم } لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله ، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم .

فإن قيل : إذا كان البيع في هذا الوقت محرماً فهل هو فاسد ؟ .

أجيب : بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس أنه فاسد . وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى : { إن كنتم } أي : بما هو لكم كالجبلة { تعلمون } أي : يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً ، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك خيراً لكم وصلاة الجمعة فرض عين تجب على كل من جمع الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحرية ، والذكورة ، والإقامة ، إذا لم يكن له عذراً مما ذكره الفقهاء ، ومن تركها استحق الوعيد . قال صلى الله عليه وسلم : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله تعالى على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين » وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله تعالى على قلبه » قال ابن عادل : ونقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية ، أما من به عذر يعذر به في ترك الجماعة مما يتصور هنا فلا تجب عليه ، وتجب على أعمى وجد قائداً وشيخ هرم وزمن وجدا مركباً لا يشق ركوبه عليهما .

واختلف أهل العلم في موضوع إقامة الجمعة ، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها ، فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً بالصفة المتقدمة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها ، وهو قول عبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق قالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال .

وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة ، والوالي شرط ، ولا تقام عنده إلا في مصر جامع . وقال الأوزاعي وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة إن كان فيهم وال . وقال الحسن ، وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات ، وقال شعبة : تنعقد باثني عشر رجلاً ولا تجب الجمعة على أهل البوادي إلا إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة ، فيلزمهم الحضور ، وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق .

والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت في وقت تكون الأصوات هادئة ، والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة . وقال سعيد بن المسيب : تجب الجمعة على من آواه المبيت . قال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال وقال ربيعة : على أربعة أميال ، وقال مالك والليث : على ثلاثة أميال ، وقال أبو حنيفة : لا جمعة على أهل البوادي سواء كانت القرية قريبة أم بعيدة .

دليل الشافعي ومن وافقه ما روى البخاري عن ابن عباس : «أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤاثا من البحرين » ، ولأبي داود نحوه ، وفيه بجؤاثا قرية من قرى البحرين » .

تنبيه : فضل يوم الجمعة مشهور وأحاديثه كثيرة مشهورة تقدم بعضها ، ومنها : أن الله يعتق في كل جمعة ستمائة عتيق من النار » ، وعن كعب : إن الله تعالى فضل من البلدان مكة ، ومن الشهور رمضان ، ومن الأيام الجمعة . وقال صلى الله عليه وسلم «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووقي فتنة القبر » وفي الحديث «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة ، وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم » قال الزمخشري : وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج ، وقيل : أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة . وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ويقول : أراك رابع أربعة ، وما رابع أربعة بسعيد . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة أي : مثل غسلها ثم راح في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر » وروى النسائي «في الخامسة كالذي يهدي عصفوراً ، وفي السادسة بيضة ، فمن جاء في أول ساعة منها ، ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل البدنة مثلاً ، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر ، وبدنة المتوسط متوسطة » وهذا في حق غير الإمام أما هو فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ، ويسن إكثار الدعاء يومها وليلتها ، أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة ، وهي ساعة خفية وأرجاها من جلوس الخطيب إلى آخر الصلاة كما في خبر مسلم . قال النووي : وأما خبر : «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيه ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يوماً في وقت ، ويوماً في آخر كما هو المختار في ليلة القدر .

وأما ليلتها فبالقياس على يومها ، وقد قال الشافعي : بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة ، ويسن إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها لخبر : «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً » وإكثار قراءة سورة الكهف يومها وليلتها لخبر : «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق » وخبر : «من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين » وفي هذا القدر كفاية .