الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (9)

وقوله سبحانه : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نُودِي للصلاة } الآية ، النداءُ : هو الأذانُ ، وكان على الجِدَارِ في مسجدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وفي مصنف أبي داودَ : كَانَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو عَلى المنبر أذَانُ ، ثم زادَ عثمانُ النداءَ عَلَى الزوراء ليسمعَ الناسُ .

( ت ) : وفي البخاريّ والترمذيِّ وصححه عن السائبِ بن يزيد قَالَ : كَانَ النداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلُه إذا جَلَسَ الإمام على المنبر ؛ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ ، فلما تَوَلَّى عثمانُ وكثرَ الناسُ ، زَادَ الأذَانَ الثالثَ فأَذَّنَ به على الزَّورَاءِ ، فَثَبَتَ الأَمْرُ على ذلك ، قِيل : فقوله «الثالثَ » يَقْتَضِي أنَّهمُ كَانُوا ثلاثةً ، وفي طريقٍ آخرَ «الثاني » بدَلَ «الثالث » وهو يَقْتَضِي أَنَّهُمَا اثنانِ ، انتهى . وخرَّجَ مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَن اغْتَسَلَ ، ثمَّ أَتَى الجُمُعَةَ ، فصلى مَا قُدِّرَ لَهُ ، ثم أَنْصَتَ لِلإمَامِ حتى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى ، وَفَضَلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ " انتهى . وخرَّجَهُ البخاريُّ من طريقِ سُلَيْمَان .

وقوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } قال ابن هشام : «من » مرادفةِ «في » ، انتهى .

وقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } الآية ، السعِيُ في الآيةِ لاَ يُرَادُ به الإسْرَاعُ في المشي ، وإنما هو بمعنى قوله : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] فالسَّعْيُ هو بالنِّيةِ والإرَادَةِ والعَمَلِ ؛ مِنْ وُضُوءٍ ، وغُسْلٍ ، وَمَشْيٍ ، ولُبْسِ ثوبٍ ؛ كُلُّ ذلكَ سَعْيٌ ، وَقَدْ قَالَ مالكٌ وغيره : إنما تُؤْتَى الصلاةُ بالسَّكِينَةِ ، ( ت ) : وهو نصُّ الحديثِ الصحيحِ ، وهُوَ قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة : " فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ " ، ( ت ) : والظاهرُ أنَّ المرادَ بالسعيِ هُنا المُضِيُّ إلى الجمعةِ ، كما فسَّره الثعلبيُّ ، ويدلُّ على ذلكَ إطلاقُ العلماءِ لفظَ الوجوبِ عَلَيْهِ ، فيقولونَ السَّعْيُ إلَى الجمعةِ واجبٌ ، ويدلُّ عَلَى ذلك قراءةُ عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وابن عمر وابنِ عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين : «فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ » وقال ابن مسعود : لَوْ قَرَأْتُ : ( فاسعوا لأسرعت حتى يقع ردائي ) وقال العِرَاقِيُّ : { فاسعوا } معناه بَادِروا ، انتهى . وقوله : { إلى ذِكْرِ الله } هو وعظُ الخطبةِ ؛ قاله ابن المسيب ، ويؤيدُه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إذَا كَانَ يومُ الجمعةِ ، كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فالأَوَّلَ ، فَإذَا جَلَسَ الإمَامُ طَوُوُا الصُّحُفَ ، وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ " الحديثُ خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلم ، واللفظُ لمسلمٍ ، والخُطْبَةُ عِنْدَ الجمهورِ شَرْطٌ في انعقادِ الجمعةِ ، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَبْعَثُ الأيَّامَ يومَ القيامةِ على هَيْئَتِهَا ، وَيْبَعَثُ الجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً ، أَهْلُهَا مُحِفُّونَ بِهَا ؛ كالْعَرُوسِ تهدى إلَى كرِيمَها ، تُضِيءُ لهم ؛ يَمْشُونَ في ضَوْئِهَا ؛ أَلْوَانُهُمْ كالثَّلْجِ بَيَاضاً ، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ ، يَخُوضُونَ في جِبَالِ الكَافُورِ ، يَنْظُرُ إلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ ، مَا يَطْرِفُونَ تَعَجُّباً ، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لاَ يُخَالِطُهُمْ إلاَّ المُؤَذِّنُونَ المُحْتَسِبُونَ " خَرَّجَهُ القاضِي الشريفُ أبو الحسنِ علي بن عبد اللَّهِ بن إبراهيمَ الهاشميّ ، قال صاحبُ «التذكرة » : وإسنادهُ صحيح ، انتهى .

وقوله سبحانه : { ذلكم } إشارةٌ إلى السعي وتَرْكِ البَيْعِ .