تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (9)

الآية 9 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } هذا السعي يحتمل الوجهين [ التاليين ]{[21226]} :

أحدهما : أن أقبلوا على العمل الذي أمرتم به ، وامضوا فيه .

والثاني : أن{[21227]} اسعوا في المشي ، وأسرعوا ، لأن السعي في المشي ، هو السرعة فيه ، والسعي في الأعمال ، هو الإقبال عليها والمبادرة إليها .

فإذا كان المراد من هذا السعي في المشي فخروج الآية مخرج الترهيب والتضييق ؛ ألا ترى إلى قوله : { وذروا البيع } كيف أمرك بترك البيع ، وقد يمكن البيع في حال المشي ؟ وإلى قوله : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } كيف أمر بالانتشار في الأرض بعد الفراغ من الفريضة دون أن يذكر هنالك شيئا من أدائها ؟

ولو كان المراد منه الترغيب لكان يأمره بالعدو{[21228]} إليها .

فدلت هذه المعاني أن تخرّج الآية على الترهيب والتضييق ، وإن كان السعي في سائر الصلاة المفروضة غير مندوب إليه على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ، ولا تأتوها ، وأنتم تسعون ، عليكم بالسكينة والوقار ، وما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاقضوا ) [ النسائي : 2/ 115 ] فاختص بالجمعة به لما ذكرنا من التضييق ههنا والتوسيع في سائر الصلوات .

ولكن الأشبه أن المراد من السعي ، هو الإقبال على أدائها والتأهب لها والمبادرة إليها ، والسعي مستعمل في هذا ؛ قال الله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } [ الإسراء : 19 ] وقال{[21229]} : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } { وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 39 و40 ] وإنما أراد العمل ، وكذلك روي عن عمر وابن مسعود وأبي وابن الزبير رضي الله عنه أنهم قرؤوا : فامضوا{[21230]} إلى ذكر الله ، حتى قال عبد الله [ بن مسعود ]{[21231]} : لو كانت القراءة { فاسعوا } لسعيت ، ولو سقط ردائي ، لم ألتفت إليه خوفا من تضييع حقها .

فذلك يدل على أن التأويل الأول عندهم على الإقبال والمبادرة إليها دون السرعة والمشي ؛ ولأن هذا موافق لسائر الصلوات في أن العدو غير مستحب ، والحديث الوارد في السكينة والوقار مطلق ، ليس فيه فصل بين الجمعة وغيرها ، وعليه إجماع الفقهاء أنه يمشي إلى الجمعة على هيئته ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وذروا البيع } قال بعض الناس : إنه إذا باع في وقت الجمعة لم يجز بيعه لهذه الآية . وعندنا أن البيع جائز ، لكنه مكروه ، والذي يدل على جوازه أن النهي عن البيع في هذه الآية ليس لمكان البيع ، ولكن لمكان الجمعة .

فالفساد إذا ورد فإنما يرد في الجمعة لا في البيع ، لأنه إذا باع في الصلاة ، فالبيع يفسد الصلاة ، لأن الصلاة تفسد البيع .

ولأن الأصل عندنا أن كل عقد نهي [ عنه ]{[21232]} لأجل غيره ؛ فالنقصان إذا ورد من النهي فإنما يرد في ذلك الغير لا في العقد .

وعلى هذا ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( المحرم لا ينكح ولا ينكح ) [ مسلم 1309 ] لأن النهي عن النكاح إنما هو لمكان الإحرام لا لمكان النكاح ، ولذلك يقول بجواز نكاح المحرم وبفساد الحج إذا جامع بذلك النكاح ، لأن النهي إذا لم يكن لنفس العقد لم يستقم فساد العقد ، والنهي ليس من أجله ، والله أعلم .

ثم قال : { فاسعوا إلى ذكر الله } ولم يقل : إلى الجمعة ولا لها . دل أن قبل الجمعة ذكرا{[21233]} ، يجب الاستماع إليه والسعي إليه . فدل هذا على فرضية الخطبة . ولما ثبت أن المعنى من قوله : { إلى ذكر الله } أن المراد في الذكر الخطبة ، ثم أمر بترك البيع للسعي إلى هذا الذكر والاستماع له ، ثبت أن الكلام في وقت الخطبة مكروه ، وفي وقت خروج الإمام للخطبة مكروه أيضا لأن البيع في ذلك الوقت مكروه ، والبيع كلام ، فيدل على كراهية كل كلام ، فتدل صحة مذهب أبي حنيفة ، رحمه الله ، في أن يلزم السكوت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من الصلاة .

وعلى ذلك ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن من أتى الجمعة ، ثم صلى ما شاء أن يصلي ، ثم إذا خرج الإمام سكت إلى أن يفرغ من صلاته ، كان ذلك كفارة له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام بعده ) [ ينحوه أحمد 3/ 39 ] فلما ألزمه السكوت من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة ؛ ثبت أن الكلام في ذلك الوقت مكروه ، والله أعلم .

قال : وفي هذه الآية دلالة على كذب من قال : إن الصلاة إنما تفترض في آخر الوقت ، وإن من أدى فرضا في أول الوقت فإنما يؤدي تطوعا ، لأنه أمره بالسعي ، وفرضه عليه { إذا نودي } .

ومعلوم أنه إذا تهيأ للإمام تأخير الصلاة في ذلك الوقت ، وقد فرض عليه مع ذلك ، فدل هذا على كذب مقالتهم ، والله أعلم .

وأقبح من هذا أنهم قالوا : إن الصلوات مفروضات على الكفرة في حال كفرهم وعلى المسلمين تطوع ، مع أنه يجيء على قلوهم : إنه ليس أحد من الأمة أدى فرضا البتة ، لأنه لم يذكر عن أحد منهم أنه فرط في أداء الصلاة حين خاف خروج وقتها . فهذا قول قبيح ، يجب أن يستتاب عنه صاحبه وعن أمثاله ، والله أعلم .

وفي هذه الآية دلالة على أن الجمعة ، لا تجب على من بعد من الإمام بفرسخين ، لأنه أمر بالسعي بعد النداء . ومن بعد فرسخين ، فقد يخرج وقت الجمعة ، ولا يدركها ، فثبت أنه على ما دونه ، وهو أن يكون في أحد الأمصار ، والله أعلم .

ثم الوقت الذي نهى عن البيع فيه يوم الجمعة عن مسروق وجماعة : هو وقت الزوال إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة .

وعن مجاهد والزهري أنه ينهى عن البيع بعد النداء عملا بظاهر الآية { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } والأول أشبه ، لأنه إنما يجب الحضور إلى الجمعة عند دخول الوقت ، وهو زوال الشمس ، وإن تأخر النداء ، ولأن النداء قبل الزوال غير معتبر فكان وجوده / 569 – ب/ وعدمه سواء .


[21226]:ساقطة من الأصل وم.
[21227]:في الأصل وم: و.
[21228]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم، بالعدل.
[21229]:في الأصل وم: وقوله.
[21230]:انظر إلى معجم القراءات القرآنية ج7 /147.
[21231]:ساقطة من الأصل وم.
[21232]:ساقطة من الأصل وم.
[21233]:في الأصل وم: ذكر.