قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } ، فرأوهم عياناً .
قوله تعالى : { وكلمهم الموتى } ، بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا .
قوله تعالى : { وحشرنا } ، وجمعنا .
قوله تعالى : { عليهم كل شيء قبلاً } ، قرأ أهل المدينة وابن عامر { قبلاً } بكسر القاف أو فتح الباء ، أي معاينة ، وقرأ الآخرون بضم القاف والباء ، قيل : هو جمع قبيل ، وهو الكفيل ، مثل : رغيف ورغف ، وقضيب وقضب . أي : ضمناء وكفلاء ، وقيل : هو جمع قبيل وهو القبيلة ، أي : فوجاً فوجاً ، وقيل : هو بمعنى المقابلة والمواجهة من قولهم : أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه .
وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم ، ومشيئتهم وحدهم ، وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط ، فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة ، من تنزيل الملائكة إليهم ، يشهدون للرسول بالرسالة ، وتكليم الموتى وبعثهم بعد موتهم ، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم{[301]} { قُبُلًا } ومشاهدة ، ومباشرة ، بصدق ما جاء به الرسول ما حصل منهم الإيمان ، إذا لم يشأ الله إيمانهم ، ولكن أكثرهم يجهلون . فلذلك رتبوا إيمانهم ، على مجرد إتيان الآيات ، وإنما العقل والعلم ، أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق ، ويطلبه بالطرق التي بينها الله ، ويعمل بذلك ، ويستعين ربه في اتباعه ، ولا يتكل على نفسه وحوله وقوته ، ولا يطلب من الآيات الاقتراحية ما لا فائدة فيه .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون فى أيمانهم الفاجرة ، فقال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ . . . . } .
المعنى : ولو أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية ، بل أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا بحقيقة الإيمان ، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم بأنك على الحق ، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء استعدادهم وفساد فطرهم ، وانطماس بصيرتهم ، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية التى زخر بها هذا الكون والتى استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم ، ولا تتحرك لها مشاعرهم ، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم ، والذى ينقصهم إنما هو القلب الحى الذى يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التى يقترحونها فإن أمامهم الكثير منها ، واقترحاتهم إنما هى نوع من العبث السخيف ، والتعنت المرذول الذى لا يستحق أن يهتم به .
و { قُبُلاً } - بضم القاف والباء - حال من " كل شىء " وفيه أوج :
الأول : أنه جمع قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب ، أى : وحشرنا عليهم كل شىء من المخلوقات ليكونوا كفلاء بصدقك .
والثانى : أنه مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا أى آتيك من قبل وجهك والمعنى . وحشرنا عليهم كل شىء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على الحق .
والثالث : أن يكون قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفاً صنفا والمعنى : وحشرنا عليهم كل شىء فوجا فوجا ونوعا نوعا من سائر المخلوقات ليشهدوا بصدقك .
وجملة { مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } جواب لو .
أى : لو فعلنا لهم كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا فى حال من الأحوال بسبب غلوهم فى التمرد والعصيان ، إلى فى حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا ، لأنه - سبحانه - هو القادر على كل شىء .
وقوله { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } .
أى : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها . أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات .
وقيل الضمير يعود على المؤمنين فيكون المعنى . ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين عند مجىء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله - تعالى - لإيمانهم ، فيتمنون مجىء الآيات طمعاً فى إيمانهم .
قال الشيخ القاسمى : فى قوهل { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله - تعالى - حتى الإيمان والكفر . وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها على أنه " ما شاء الله كان وما لم يشا لهم يكن " . والمعتزلة يقولون " إلا أن يشاء الله مشيئة قسر وإكراه " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلّمَهُمُ الْمَوْتَىَ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوَاْ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، ايئس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين لك : لئن جئتنا بآية لنؤمننّ لك ، فإننا لو نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ حتى يروها عيانا وكَلّمَهُمُ المَوْتَى بإحيائنا إياهم ، حجة لك ودلالة على نبوّتك ، وأخبروهم أنك محقّ فيما تقول ، وأن ما جئتهم به حقّ من عند الله ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ فجعلناهم لك قُبُلاً ما آمنوا ولا صدّقوك ، ولا اتبعوك إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ذلك لمن شاء منهم .
{ وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } .
يقول : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك ، يحسبون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم ، متى شاءوا آمنوا ومتى شاءوا كفروا . وليس ذلك كذلك ، ذلك بيدي ، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته .
وقيل : إن ذلك نزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند الله ، من مشركي قريش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم الاَية ، فقال : قل يا محمد إنما الاَيات عند الله ، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونزل فيهم : { وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً } .
وقال آخرون : إنما قيل : ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يراد به أهل الشقاء .
وقيل : إلاّ أنْ يَشَاءَ الله فاستثنى ذلك من قوله : { لِيُؤْمِنُوا }يراد به أهل الإيمان والسعادة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا }وهم أهل الشقاء . ثم قال : { إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ } وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس ، لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : { ما كانُوا لِيُؤْمِنوا }القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله : { وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها } .
وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الاَية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج : إنهم عنوا بهذه الاَية ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك . والخبر من الله خارج مخرج العموم ، فالقول بأن ذلك عُني به أهل الشقاء منهم أولى لما وصفنا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً } :
فقرأته قرّاء أهل المدينة : «قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، بمعنى معاينة ، من قول القائل : لقيته قبَلاً : أي معاينة ومجاهرة .
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً }بضم القاف والباء .
وإذا قرىء كذلك كان له من التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها أن يكون القُبُل : جمع قَبِيل كالرّغُف التي هي جمع رغيف ، والقُضُب التي هي جمع قضيب ، ويكون القُبُل : الضمناء والكفلاء وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدُهم على إيمانهم بالله إن آمنوا أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم ، ما آمنوا إلا أن يشاء الله .
والوجه الاَخر : أن يكون «القُبُل » بمعنى المقابلة والمواجهة ، من قول القائل : أتيتك قُبُلاً لا دُبُرا ، إذا أتاه من قَبِل وجهه .
والوجه الثالث : أن يكون معناه : وحشرنا عليهم كلّ شيء قبيلة قبيلة ، صنفا صنفا ، وجماعة جماعة . فيكون القُبُل حينئذٍ جمع قَبيل الذي هو جمع قبيلة ، فيكون القُبل جمع الجمع .
وبكلّ ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال : معنى ذلك : معاينة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً }يقول : معاينة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً }حتى يعاينوا ذلك معاينة { ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ } .
ذكر من قال : معنى ذلك : قبيلة قبيلة صنفا صنفا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد ، من قرأ : قُبُلاً معناه : قبيلاً قبيلاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : قُبُلاً أفواجا ، قبيلاً قبيلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، عن أبي خيثمة ، قال : حدثنا أبان بن تغلب ، قال : ثني طلحة أن مجاهدا قرأ في الأنعام : كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً قال : قبائل ، قبيلاً قبيلاً وقبيلاً .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً }يقول : لو استقبلهم ذلك كله ، لَمْ يُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً }قال : حشروا إليهم جميعا ، فقابلوهم وواجهوهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد ، قرأ عيسى : قُبُلاً ومعناه : عيانا .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا ، قراءة من قرأ : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً } بضمّ القاف والباء لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجه التي بينا من المعاني ، وأن معنى القِبَلِ داخل فيه ، وغير داخل في القِبَلِ معاني القُبُل . وأما قوله : { وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ }فإن معناه : وجمعنا عليهم ، وسقنا إليهم .
أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره ، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم ، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره ، وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان{[5060]} ، وقال ابن جريج : نزلت هذه الآية في المستهزئين .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : لا يثبت إلا بسند ، وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما «قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس ، وغيره نصبه على الحال ، وقال المبرد : المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فنصبه على هذا هو على الظرف ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قُبُلاً » بضم القاف والباء ، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا ، وقرأ { العذاب قبلاً }{[5061]} مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد الله بن زيد ومجاهد وابن زيد : «قبل » جمع قبيل أي صنفاً صنفاً ونوعاً نوعاً كما يجمع قضيب على قضب وغيره ، وقال الفراء والزجّاج هو جمع قبيل وهو الكفيل ، أي : وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء بصدق محمد ، وذكره الفارسي وضعفه ، وقال بعضهم : ُقبل الضم بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر ، ومنه قوله تعالى : { قدّ من قبل }{[5062]} ومنه قراءة ابن عمر { لقبل عدتهن }{[5063]} أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة «قُبْلاً » بضم القاف وسكون الباء ، وذلك على جهة التخفيف .
وقرأ طلحة بن مصرف «قَبْلاً » بفتح القاف وإسكان الباء ، وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلاً » بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء ، والنصب في هذا كله على الحال ، وقوله عز وجل : { ولكن أكثرهم يجهلون } الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد ، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن يشاء الله » له ذلك .