قوله تعالى : { من الذين هادوا } . قيل : هي متصلة بقوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا } وقيل : هي مستأنفة ، معناه : من الذين هادوا من يحرفون ، كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } . [ الصافات :164 ] أي : من له منزلة معلومة ، يريد فريق .
قوله تعالى : { يحرفون الكلم } ، يغيرون الكلم .
قوله تعالى : { عن مواضعه } ، يعني : صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر ، فيخبرهم ، فيرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه .
قوله تعالى : { ويقولون سمعنا } ، قولك .
قوله تعالى : { وعصينا } ، أمرك .
قوله تعالى : { واسمع غير مسمع } ، أي : اسمع منا ولا نسمع منك .
{ غير مسمع } أي : غير مقبول منك ، وقيل : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اسمع ، ثم يقولون في أنفسهم : لا سمعت .
قوله تعالى : { وراعنا } . أي : يقولون راعنا ، يريدون به النسبة إلى الرعونة .
قوله تعالى : { لياً بألسنتهم } ، تحريفاً .
قوله تعالى : { وطعناً } ، قدحاً .
قوله تعالى : { في الدين } ، لأن قولهم راعنا من المراعاة ، وهم يحرفونه ، يريدون به الرعونة .
قوله تعالى : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } . أي : انظر إلينا ، مكان قولهم راعنا .
قوله تعالى : { لكان خيراً لهم وأقوم } ، أي أعدل وأصوب .
قوله تعالى : { ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } . إلا نفراً قليلاً منهم ، وهو عبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم .
ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود وهم علماء الضلال منهم .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى ، أو هما جميعا . فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها ، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره ، وكتمانهم ذلك .
فهذا حالهم في العلم أشر حال ، قلبوا فيه الحقائق ، ونزلوا الحق على الباطل ، وجحدوا لذلك الحق ، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد ، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون : { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم : اسمع منا غير مسمع ما تحب ، بل مسمع ما تكره ، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة ، بالعيب القبيح ، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله ، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول ، ويصرحون بذلك فيما بينهم ، فلهذا قال : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ }
ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول ، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره ، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم ، والاعتناء بأمرهم ، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه . ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية ، أعرضوا عن ذلك ، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
ثم ذكر - سبحانه - ألوانا من الأقوال والأعمال القبيحة التى كان اليهود يقولونها ويفعلونها للإِساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فقال : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } . وتحريف الشئ إمالته وتغييره . ومنه قولهم : طاعون يحرف القلوب ، أى يميلها ويجعلها على حرف ، أى جانب وطرف . وأصله من الحرف يقال : حرف الشئ عن وجهه ، صرفه عنه .
والجملة الكريمة بيان للوصول وهو قوله - تعالى - { الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } .
ويجوز أن يكون قوله { مِّنَ الذين هَادُواْ } خبر لمبتدأ محذوف . وقوله { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } صفة له .
أى من الذين هادوا قوم أو فريق من صفاتهم أنهم يحرفون الكلم من مواضعه أى يميلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ، ويفسرونه تفسيرا سقيما بعيدا عن الحق والصواب .
قال الفخر الرازى : فى كيفية التحريف وجوه :
أحدها : أهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر . مثل تحريفهم اسم " ربعة " عن موضعه فى التوراة بوضعهم " آدم طويل " ، وكتحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله .
الثانى : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة ، وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه من الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة فى زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم . وهذا هو الأصح .
الثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبى صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه .
والذى نراه أولى أن تحريف هؤلاء اليهود لكلم عن مواضعه يتناول كل ذلك ، لأنهم لم يترككوا وسيلة من وسائل التحريف الباطل إلا فعلوها ، أملا منهم فى صرف الناس عن الدعوة الإِسلامية ، ولكن الله - تعالى - خيب آمالهم .
قال الزمخشرى : فإن قلت : كيف قيل ههنا { عَن مَّوَاضِعِهِ } وفى المائدة { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } قلت : " أما عن مواضعه " فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التى أوجبت حكمة الله وضعه فيها ، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه .
وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كان له مواضع فمن بأن يكون فيها . فحين حرفوه تركوه كالغريب الذى لا موضع له بعد مواضعه ومقاره . والمعنيان متقاربان .
ثم حكى - سبحانه - لونا ثانياً من ضلالتهم فقال : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أى . ويقولون للنبى صلى الله عليه وسلم إذا ما أمرهم بشئ : سمعنا قولك وعصينا أمرك فنحن مع فهمنا لما تقول لا نطيعك لأننا متمسكون باليهودية .
ثم حكى - سبحانه - لونا ثالثا من مكرهم فقال : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وداخلة تحت القول السابق .
أى : ويقولون ذلك فى أثناء مخاطبتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين وجه محتمل للشر . بأن يحمل على معنى " اسمع " حال كونك غير مسمع كلاما ترضاه . ووجه محتمل للخير . بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما تكرهه .
فأنت تراهم - لعنهم الله - أنهم كانوا يخاطبون النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام المحتمل للشر والخير موهمين غيرهم أنهم يريدون الخير ، مع أنهم لا يريدون إلى الشر ، بسبب ما طفحت به نفوسهم من حسد للنبى صلى الله عليه وسلم وللمسلمين .
ثم حكى - سبحانه - لونا رابعا من خبثهم فقال : { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } وهو كلام معطوف على ما قبله وداخل تحت القول السابق .
وكلمة { وَرَاعِنَا } كلمة ذات وجهين - أيضاً - فهى للخير بحملها على معنى ارقبنا وأمهلنا أو انتظرنا نكلمك . ومحتملة للشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها . أو على السب بالرعونة أى الحمق .
قال الراغب : قوله : - تعالى - { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } كان ذلك قولا يقولونه للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون به رميه بالرعونة ، ويوهمون أنهم يقولون : راعنا أى : أحفظنا . من قولهم : رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن . أى أحمق .
وأصل كلمة { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت ، فأدغمت الواو فى الياء لسبقها بالسكون . واللى : الانحراف والالتفات والانعطاف .
والمراد أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكلمة أو بالكلام ليكون اللفظ فى السمع مشبها لفظا آخر هم يردونه لأنه يدل على معنى ذميم .
أى أنهم كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء { وَرَاعِنَا } ويقصدون بهذا القول الإِساءة إليه صلى الله عليه وسلم وينطقون بهذه الكلمة وما يشابهها نطقاً ملتويا منحرفا ليصرفوها عن جانب احتمالها للخير إلى جانب للشر . ولذا فقد نهى الله - تعالى - المؤمنين عن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الألفاظ .
قال ابن كثير : عند تفسيره لقوله - تعالى - { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا } نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتشبهوا بالكافرين فى مقالهم وفعالهم . وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنفيص - عليهم لعائن الله - : فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا : يقولون راعنا ، ويورون بالرعونة : وكذلك جاءت الأحاديث بالإِخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون . السام عليكم . والسام هو الموت . ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم . وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا . والغرض أن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا .
وقوله { وَطَعْناً فِي الدين } أى يقولون ذلك من أجل القدح فى الدين ؛ والاستهزاء بتعاليمه ، وبنبيه صلى الله عليه وسلم . ثم بين - سبحانه - ما كان بحب عليهم أن يقولوه لو كانوا يعقلون فقال : تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } .
أى : ولو أنهم قالوا عند سماعهم لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من حق وخير ، { سَمِعْنَا } قولك سماع قبول وإستجابة ، وأطعنا أمرك بدل قولهم سمعنا وعصينا .
ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم { واسمع } إجابتنا لدعوه الحق { وانظرنا } حتى نفهم عنك ما تريده منا بدل قولهم { وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } لو أنهم فعلوا ذلك لكان قولهم هذا خيراً لهم وأعدل من اقوالهم السابقة الباطلة التى حكاها القرآن عنهم .
ولكنهم لسوء طباعهم لم يفعلوا ذلك فحقت عليهم اللعنة فى الدنيا والآخرة وقد صرح القرآن بذلك فقال : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . أى : ولكنهم لم يقولوا ما هو خير لهم وأقوم بل قالوا ما هو شر وباطل ، فاستحقوا اللعنة من الله بسبب كفرهم وسوء أفعالهم :
ولفظ { قَلِيلاً } فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من قوله { لَّعَنَهُمُ } أى : ولكن لعنهم الله إلا فريقا منهم آمنوا فلم يعلنوا : أو منصوب على الوصفية لمصدر محذوف أى : ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به ، ولا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا ؛ لأنه إيمان غير صحيح بسبب تفريقهم بين رسل الله فى التصديق والطاعة . قال - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
ولقوله جلّ ثناؤه : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ } وجهان من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم . فيكون قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا } من صلة «الذين » . وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون . قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ } . والاَخر منهما : أن يكون معناه : من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه . فتكون «من » محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا } عليها ، وذلك أن «مِن » لو ذكرت في الكلام كانت بعضا ل «مَنْ » ، فاكتفى بدلالة «مِنْ » عليها ، والعرب تقول : منا من يقول ذلك ، ومنا لا يقوله ، بمعنى : منا من يقول ذاك ، ومنا من لا يقوله ، فتحذف «من » اكتفاء بدلالة من عليه ، كما قال ذو الرمة :
فَظَلّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ ***وآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ
يعني : ومنهم من دمعه . وكما قال الله تبارك وتعالى : { وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ } ، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ } غير أنهم كانوا يقولون : المضمر في ذلك «القوم » ، كأن معناه عندهم : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، ويقولون : نظير قول النابغة :
كأنّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ ***يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ
يعني : كأنك جمل من جمال أقيشٍ .
فأما نحويو الكوفة ، فينكرون أن يكون المضمر مع «مِن » إلا «مَن«أو ما أشبهها .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله : { مِنَ الذِينَ هادُوا } من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس ، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك .
وأما تأويل قوله : { يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } فإنه يقول : يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله ، والكلم جماع كلمة . وكان مجاهد يقول : عنى بالكلم : التوراة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } : تبديل اليهود التوراة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : { عَنْ مَوَاضِعِهِ } فإنه يعني : عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه .
وأما تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : من الذين هادوا يقولون : سمعنا يا محمد قولك ، وعصينا أمرك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد ، في قوله : { سَمِعْنا وَعَصَيْنا } قال : قالت اليهود : سمعنا ما تقول ، ولا نطيعك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { سَمعنا وَعَصَيْنا } قالوا : قد سمعنا ، ولكن لا نطيعك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره ، أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول ، ويقولون له : اسمع منا غير مسمع ، كقول القائل للرجل يسبه : اسمع لا أسمعك الله . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : هذا قول أهل الكتاب يهود ، كهيئة ما يقول الإنسان : اسمع لاسمعت ، أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشتما له واستهزاء .
حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : يقولون لك : واسمع لاسمعت .
وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى : واسمع غير مقبول منك . ولو كان ذلك معناه لقيل : واسمع غير مسموع ، ولكن معناه : واسمع لاتسمع ، ولكن قال الله تعالى ذكره : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } يقول : غير مقبول ما تقول ، فهو كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : غير مستمع . قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } : غير مقبول ما تقول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : كما تقول : اسمع غير مسموع منك .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان ناس منهم يقولون : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } كقولك : اسمع غير صاغ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } .
يعني بقوله : { وَرَاعِنا } : أي راعنا سمعك ، افهم عنا وأفهمنا . وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته .
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } يعني : تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه ، واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَطَعْنا فِي الدّين } . كما :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك ! يستهزئون بذلك ، فكانت اليهود قبيحة ، فقال : راعنا سمعك ليّا بألسنتهم¹ والليّ : تحريكهم ألسنتهم بذلك ، { وطَعْنا في الدّينِ } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك ! يلوي بذلك لسانه ، يعني : يحرّف معناه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } . . . إلى : { وَطَعْنا فِي الدّينِ } فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون في الدين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } قال : «راعنا » طعنهم في الدين ، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه . قال : والراعن : الخطأ من الكلام .
حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } قال : تحريفا بالكذب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبيّ لله : سمعنا يا محمد قولك ، وأطعنا أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله ، واسمع منا ، وانظرنا ما نقول ، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا ، { لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ } يقول : لكان ذلك خيرا لهم عند الله وأقوم ، يقول : وأعدل وأصوب في القول . وهو من الاستقامة من قول الله : { وَأقْوَمَ قِيلاً } بمعنى : وأصوب قيلاً . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ } قال : يقولون : اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا ، وانظرنا فلا تعجل علينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، قوله : { وَانظُرْنا } قال : اسمع منا .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَانْظُرْنا } قال : أفهمنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَانْظُرْنا } قال : أفهمنا .
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى : { وَانْظُرْنا } إلى : اسمع منا ، وتوجيه مجاهد ذلك إلى : أفهمنا ، ما لا نعرف في كلام العرب ، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا : انتظرنا نفهم ما تقول ، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا ، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها ، فلا نعرف «انظرنا » في كلام العرب إلا بمعنى : انتظرنا وانظر إلينا ، فأما «انظرنا » بمعنى انتظرنا ، فمنه قول الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنّ دِرّتَكُمْ ***يَوْما يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي
وأما انظرنا بمعنى : انظر إلينا ، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات :
ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ***نَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظّباءُ
بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } .
يعني بذلك : ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد ، واتباع الحقّ بكفرهم ، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات { فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : فلا يصدّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم ، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً ، يقول : لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } قال : لا يؤمنون هم إلا قليلاً .