غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

41

وقوله : { من الذين هادوا } إما بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب وقوله : { والله أعلم } إلى آخر الآية معترض بين البيان والمبين ، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان ، وإما صلة { نصيراً } كقوله :{ ونصرناه من القوم الذين كذبوا }[ الأنبياء :77 ] وإما كلام مستأنف على أن { يحرفون } صفة مبتدأ محذوف تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه . قال الواحدي : الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده ، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره . ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم " آدم طوالاً " مكان " أسمر ربعة " وجعلهم الحد بدل الرجم . واختير " عن " للدلالة على الإمالة والإزالة . وأما في المائدة فقيل :{ من بعد مواضعه }[ المائدة :41 ] نظراً إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له . وقيل : المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة . وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر ، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة . وقيل : كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه . ومن جملة جهالاتهم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا ، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهراً إظهاراً للعناد والمرود والكفر والجحود ، ومنها قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم { اسمع غير مسمع } وهو كلام ذو وجهين : أما احتماله المدح فلقول العرب : أسمع فلان فلاناً إذا سبه . وإذا كان المراد : اسمع غير مسمع مكروهاً كان مدحاً وتوقيراً ونصحاً .

وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت ، لان من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع ، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جواباً يوافقك ، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاماً ما ترتضيه ، وعلى هذا يجوز أن يكون { غير مسمع } مفعول { اسمع } لا حالاً من ضميره أي اسمع كلاماً غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه . ومنها قولهم له صلى الله عليه وسلم { راعنا } وقد عرفت احتمالاته في البقرة . وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطباً في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني . { ليا بألسنتهم } مفعول لأجله ، أو مصدر لمحذوف ، أو ل { يقولون } لأنه في معنى اللي أيضاً وعينه " واو " بدليل لويت فقلبت وأدغمت ، والمعنى : يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون { راعنا } موضع { انظرنا } و { غير مسمع } موضع لا سمعت مكروهاً ، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً ، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعناً على عادة المستهزئين ، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعناً في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبياً لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعناً في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز . { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } بدل قولهم : { سمعنا وعصينا } إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات و { اسمع } دون أن يقال معه { غير مسمع } { وانظرنا } مكان { راعنا } { لكان } قولهم ذلك { خيراً لهم وأقوم } أعدل لا أشد من قولهم : " رمح قويم " أي مستقيم { ولكن لعنهم الله بكفرهم } أي بسببه { فلا يؤمنون إلاّ } إيماناً { قيلاً } وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله . أو إلاّ قليلاً منهم آمنوا لأن " فعيلاً " قد يراد به الجمع كقوله :{ وحسن أولئك رفيقاً }[ النساء :69 ] أو أراد بالقلة العدم .

/خ57