قوله تعالى : { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } : فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها : أَنْ يكونَ " مِن الذين " خبراً مقدماً ، و " يُحَرِّفون " جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لموصوف محذوف هو مبتدأ ، تقديره : " من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون " وحَذَفُ الموصوفِ بعد " مِنْ " التبعيضية جائزٌ ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم : " منا ظَعَن ومنا أَقام " أي : فريق ظعن ، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي ، ومثلُه :
وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما *** أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
الثاني : قول الفراء وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً ، ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره : " من الذين هادوا مَنْ يحرفون " ، ويكون قد حَمَل على المعنى في " يُحَرِّفون " ، قال الفراء : " ومثله :
فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له *** وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ
قال : " تقديرُه : " ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له " . والبصريون لا يجيزون حَذْفَ الموصولِ لأنه جزءُ كلمة ، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم ، وتأويلُهم أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو " آخر " ، و " أخرى " في البيتِ قبلَه ، فيكونُ في ذلك دلالةٌ على المحذوفِ ، والتقديرُ : فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ .
الثالث : أنَّ " مِن الذين " خبرُ مبتدأ محذوف أي : هم الذين هادوا ، و " يُحَرِّفون " على هذا حالٌ من ضمير " هادوا " . وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله " نصيراً " .
الرابع : أن يكونَ " من الذين " حالاً من فاعل " يريدون " قاله أبو البقاء ، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في " أوتوا " ومن " الذين " أعني في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ } قال : " لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض " . قلت : وهذه مسألةٌ خلافٍ ، من النحويين مَنْ مَنَع ، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح .
الخامس : أنَّ " مِن الذين " بيانٌ للموصولِ في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ } لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ ، قال الزمخشري ، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي : " والله أعلم " إلى آخره ، وإذا كان الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث ! ! قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً .
السادس : أنه بيانٌ لأعدائِكم ، وما بينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه .
السابع : أنه متعلِّقٌ ب " نصيراً " ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب " من " . قال تعالى : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ } [ غافر : 29 ] على أحدِ تأويلين : إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي : منعناه من القوم ، وكذلك : وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا ، وإمَّا على جَعْلِ " مِنْ " بِمعنى " على " والأولُ مذهبُ البصريين . فإذا جعلنا " من الذين " بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق ؟ ؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف ، ويَدُلُّ على ذلك أنهم قالوا في " سُقيْاً لك " : إنَّ " لك " متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ .
وقال أبو البقاء : " وقيل : هو حالٌ من " أعدائكم " أي : واللهُ أعلمُ بأعدائِكم كائنين من الذين هادوا ، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال " . فقوله هذا يُعْطي أنه بيانٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف ، لكن لا على ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان .
وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ " يُحَرِّفون " : إمَّا لا محلَّ له ، أو له محلُّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم . وقرأ أبو رجاء والنخعي : " الكلام " وقرىء " الكِلْم " بكسر الكاف وسكون اللام جمع " كِلْمة " مخففة من كَلِمة ، ومعانيهما متقاربةٌ .
و { عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّقٌ ب " يُحَرِّفون " ، وذكَّر الضمير في " مواضعه " حَمْلاً على " الكَلِم " لأنها جنسٌ .
وجاء هنا : { عَن مَّوَاضِعِهِ } ، وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }
[ الآية : 41 ] قال الزمخشري : " أمَّا " عن مواضِعه " فَعَلى ما فَسَّرناه من إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم من إبدالِ غيره مكانَه ، وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قَمِنٌ بأن يكونَ فيها ، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارِّه ، والمعنيان متقاربان " . قال الشيخ : " وقد يقال إنهما سِيَّان ، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة
{ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ الآية : 41 ] ؛ لأنَّ قولَه " عَنْ مَّواضِعِه " يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له ، وحُذِف في ثاني المائدة " عن مواضِعِه " لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن مواضعِه ، فالأصلُ : يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها ، فَحَذَف هنا البعدية وهناك " عنها " توسُّعاً في العبارةِ ، وكانت البداءةُ هنا بقوله " عن مواضعِه " لأنه أخصرُ ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على " عن " وعلى المواضعِ وإشارةٌ إلى البعدِيَّة " .
وقال أيضاً : " والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا إلى ذلك ، ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم بنقضِ الميثاق وقسوةِ القلوب ، وحيث وُصِفوا باللين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في مواضعِها فهما سياقان مختلفان " .
وقوله : { وَيَقُولُونَ } عطفٌ على " يُحَرِّفون " ، وقد تقدَّم ، وما بعده في محلِّ نصبٍ به . قوله : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } في نصبه وجهان أحدهما : أنه حالٌ ، والثاني : أنه مفعولٌ به ، والمعنى : اسمَعْ غيرَ مُسْمَع كلاماً ترضاه ، فسمعُك عنه نابٍ . قال الزمخشري بعد حكايتِه نصبَه على الحالِ وذكرِه المعنى المتقدم : " ويجوز على هذا أن يكون " غيرَ مُسْمَع " مفعول " اسمَعْ " أي : اسْمَعْ كلاماً غيرَ مسمعٍ إياك لأنَّ أذنك لا تَعِيه نُبُوّاً عنه " . وهذا الكلامُ ذو وجهين : يعني أنَّه يحتمل المدح والذم فبإرادة المدحِ تقدِّرُ : " غيرَ مُسْمِعٍ مكروهاً " ، فيكونُ قد حذف المفعولَ الثاني ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ ، وبإرادة الذمِّ تقدِّر : " غير مُسْمع خيراً " ، وحُذِفَ المفعولُ الثاني أيضاً .
وقال أبو البقاء : " وقيل : أرادوا غيرَ مسموعٍ منك " ، وهذا القولُ نَقَله ابن عطية عن الطبري ، وقال : " إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد " . قال ابن عطية : " ولا يساعِدُه التصريف " يعني أن العرب لا تقول : " أَسْمَعْتُك " بمعنى قَبْلْتُ منك ، وإنما تقول : " أسْمَعْتُه " بمعنى سَبَبْتُه ، و " سمعت منه " بمعنى : قَبِلْتُ منه ، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً ، وتقدَّم القولُ في { رَاعِنَا } [ الآية : 104 ] في البقرة .
قوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً } فيهما وجهان أحدهما : أنهما مفعولٌ من أجله ناصبُهما : " ويقولون " . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال أي : لاوينَ وطاعنِين . وأصل لَيّاً : " لَوْيٌ " من لوى يَلْوي ، فأُدْغِمَتِ الواوُ في الياء بعد قَلْبِها ياءً فهو مثل " طَيّ " مصدر طَوَى يَطْوي . و " بألسنتِهم " و " في الدين " متعلقان بالمصدرين قبلهما . و { لَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ } تقدَّم الكلامُ على ذلك في البقرة بأشبعِ قول .
قوله : { لَكَانَ خَيْراً } فيه قولان ، أظهرُهما : أنه بمعنى أفعل ، ويكونُ المفضَّلُ عيه محذوفاً ، أي : لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ . والثاني : أنه لا تفضيلَ فيه ، بل يكون بمعنى جيد وفاضل ، فلا حَذْفَ حينئذ ، والباءُ في " بكفرِهم " للسببية .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه ثلاثةُ أوجه : أحدُها : أنَّه منصوبٌ على الاستثناءِ من " لَعَنَهم " أي : لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم ، فإنهم آمنوا فلم يَلْعَنْهم . والثاني : أنه مستثنى من الضميرِ في " فلا يؤمنون " والمرادُ بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه . ولم يستحسن مكي هذين الوجهين : أمَّا الأول قال : لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يُسْتثنى منهم أحدٌ . وأمَّا الثاني : فلأنَّ الوجهَ الرفعُ على البدلِ ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ " . والثالث : أنه صفةٌ/ لمصدرٍ محذوفٍ أي : إلا إيماناً قليلاً ، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشريعته .
وعَبَّر الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة ، كقوله :
قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : " وما ذكراه من أن التقليلَ يُراد به العَدَمُ صحيح ، غير أنَّ هذا التركيبَ الاستثنائي يأباه ، فإذا قلت : " لم أقم إلا قليلاً " فالمعنى : انتفاء القيام إلا القليلَ فيوجد منك ، لا أنه دال على انتفاء القيامِ البتةَ بخلافَ " قَلَّما يقولُ ذلك أحدٌ إلا زيدٌ " و " قَلَّ رجلٌ يفعل ذلك " فإنه يَحْتمل القليل المقابل للتكثير ، ويحتمل النفيَ المحض ، أمَّا أنك تنفي ثم توجب ، ثم تريد بالإِيجاب بعد النفي نفياً فلا ، لأنه يلزم أَنْ تجيءَ " إلاَّ " وما بعدها لغواً من غيرِ فائدة ، لأنَّ انتفاءَ القيام قد فُهِم من قولك : " لم أقم " فأيُّ فائدةٍ في استثناء مثبت يراد به انتفاءٌ مفهومٌ من الجملة السابقة ؟ وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعدَ " إلا " موافقاً لِما قبلها في المعنى ، والاستثناءُ يلزم أن يكون ما بعد " إلاَّ " مخالفاً لِما قبلها فيه " .