المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

وقوله تعالى : { من الذين هادوا } قال بعض المتأولين { من } راجعة على { الذين } الأولى ، فهي على هذا متعلقة ب { تر } ، وقالت طائفة ، هي متعلقة ب { نصيراً } والمعنى ينصركم من الذين هادوا ، فعلى هذين التاويلين لا يوقف في قوله : { نصيراً } وقالت فرقة : هي لابتداء الكلام ، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون ، هذا مذهب أبي علي ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الوافر ]

كأنك مِنْ جِمَالِ أَبي أَقَيْشٍْ *** يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْليهِ بِشَنِّ{[4087]}

وقال الفراء وغيره : تقديره من ، ومثله قول ذي الرمة : [ الطويل ]

فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعَهُ سَابِقٌ لَهُ *** وَآخَرُ يَثْني دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ{[4088]}

فعلى هذا التأويل يوقف في قوله : { نصيراً } وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل ، وإضمار الموصوف أسهل ، و { هادوا } مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب ، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول ، ذكر هذه كلها الخليل ، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة ، و «تحريف الكلم » على وجهين ، إما بتغيير اللفظ ، وقد فعلوا ذلك في الأقل ، وإما بتغيير التأويل ، وقد فعلوا ذلك في الأكثر ، وإليه ذهب الطبري ، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور ، وقالت طائفة : هو كلم القرآن ، وقال مكي : كلام النبي محمد عليه السلام ، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل ، وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام بالألف ، ومن جعل «من » متعلقة «بنصيراً » جعل «يحرفون » في موضع الحال ، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون » صفة ، وقوله تعالى عنهم { سمعنا وعصينا } عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه ، و { مسمع } لا يتصرف إلا من أسمع ، و { غير مسمع } يتخرج فيه معنيان : أحدهما غير مأموروغير صاغر ، كأنه قال : غير أن تسمع مأموراً بذلك ، والآخر على جهة الدعاء ، أي لا سمعت ، كما تقول : امض غير مصيب ، وغير ذلك ، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع ، أرادت في الباطن الدعاء عليه ، وأرت ظاهراً أنها تريد تعظيمه ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، وكذلك { راعنا } كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية ، ويظهرون منه معنى المراعاة ، فهذا معنى «ليّ اللسان » فقال الزجّاج : كانوا يريدون : اجعل سمعك لكلامنا مرعى .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ومن قال : { غير مسمع } غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف{[4089]} ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد ، و { ليّاً } أصله لوياً ، قلبت الواو ياء وأدغمت { وطعناً في الدين } أي توهينا له وإظهاراً للاستخفاف به .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب ، وقوله تعالى : { ولو أنهم } الآية : المعنى : لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا ، واختلف المتأولون في قوله ، { وانظرنا } فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما : معناه انتظرنا ، بمعنى : افهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، وهذا كما قال الحطيئة :

وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ . . . لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحي وَتَنَّاسي{[4090]}

وقالت فرقة : انظر - معناه : انظر إلينا ، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف{[4091]} ، ومنه قول ابن الرقيات [ الخفيف ] :

ظاهراتُ الجمالِ والْحُسْنِ يَنْظُرْ . . . نَ كَمَا تَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّباءُ{[4092]}

{ وأقوم } معناه : أعدل وأصوب ، «واللعنة » : الإبعاد ، فمعناه ، أبعدهم من الهدى ، و { قليلاً } : نعت ، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم ، والمعنى مختلف ، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال : إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة ، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك ، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها ، ومن عبر بالقلة عن النفر قال : لا يؤمن منهم إلا قليل ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما ، وإذا قدرت الكلام نفراً قليلاً ، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر .


[4087]:- البيت للنابغة الذبياني، وروي: "من جمال بني أقيش" –وهم حي من (عكل)، وكانت جمالهن صعبة القياد، وتنفر من كل شيء تراه، وقال ابن الكلبي: هم حي من الجن، والشنُّ، القربة القديمة تكون صغيرة، ويكون الماء فيها أبرد منه في غيرها، والجمع: شنان. قال في اللسان: وفي المثل: "لا يقعقع لي بالشنان" ثم روى البيت، وفي الحديث: أنه أمر بالماء فقرس في الشنان، أي: بردّ تبريدا شديدا، هذا والحذف هو مذهب سيبويه، وعليه أنشد النحويون: لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم أي: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف.
[4088]:- الرواية في الديوان: "ومنهم دمعه غالب له"- ولكن القرطبي رواه: "وآخر يذري عبرة العين الهمل" وهي التي تناسب القصيدة التي مطلعها: خليلي عوجا عوجة ناقتيكما على طلل بين القرينة والحبل. والشاهد عند الفراء أن المحذوف (من) والمعنى: "ومنهم من دمعه" فحذف الموصول، وأنكر المبرد والزجاج ذلك لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة.
[4089]:- قال أبو حيان في "البحر المحيط": "وجه أن التصريف لا يساعد عليه، هو أن العرب لا تقول: أسمعتك بمعنى: قبلت منك، وإنما تقول: سمعت منك، بمعنى: قبلت، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز، لا بالإسماع، ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ: واسمع غير مسموع منك".
[4090]:- هذا البيت من القصيدة المشهورة التي قالها الحطيئة لمدح (بغيض) وهجاء الزبرقان ابن بدر، وقد شكا الزبرقان الحطيئة إلى عمر بن الخطاب فحبسه، وفي البيت روايات كثيرة منها: "أثناء صادرة" و"أعشاء صادرة" و"حوزي وتنساسي" و"مسحي وإبساسي"- والإيناء: الانتظار، والصادرة: الراجعة عن الماء- يريد الإبل- والخِمس بالكسر: من إظماء الإبل ثلاثة أيام، وترد اليوم الرابع، ويُحسب يوم الصدور وهو الخامس، قال الأزهري: الخِمس أن تشرب يوم وردها، وتصدر يومها ذلك، وتظل بعد ذلك اليوم في المرعى ثلاث أيام سوى يوم الصدر، وترد اليوم الرابع، وذلك الخمس- والمسح: إمرار اليد على الإبل- والتنساس: السير الشديد. يقول: انتظرتكم كما تنتظر الإبل الصادرة التي ترد الخمس ثم تسقى لتصدر (عن اللسان)- وبعد هذا البيت يقول الحطيئة: لما بدا لي منكم عيب أنفسكم ولم يكن لجراحي عندكم آسي. أزمعت أمرا مريحا من نوالكم ولن ترى طاردا للحر كالياس
[4091]:- اهتبل الشيء: اغتنمه إذا كان كلمة حكمة، واهتبل: كذب كثيرا، واهتبل الصيد: بغاه. وتحفى بالشيء: اعتنى به، وبالغ في العناية.
[4092]:- الأراك: شجر معروف، يُستاك بفروعه، قال ابن شميل: هي شجرة طويلة خضراء ناعمة كثيرة الورق والأغصان.