قوله تعالى : [ { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } ] الآية{[8110]} .
لما حَكى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة ، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي .
قوله : { من الذين هادوا } فيه سَبْعَةُ أوْجُه :
أحدها : أن يكُون " من الذين " خبر مُقدم ، و " يحرفون " جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذُوف هو مُبْتَدأ ، تقديره : مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفُون ، وحَذْف الموْصُوف بَعْد " مِنَ " التَّبِعِيضيَّة{[8111]} جَائِزٌ ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً ؛ كقولهم " مِنَّا ظَعَنَ ، ومِنَّا أقَامَ " ، أي : فريقٌ أقام ، وهذا مَذْهَب سيبويه{[8112]} والفارسِي ؛ ومثله : [ الطويل ]
وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا *** أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ{[8113]}
أي : فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها .
الثاني : قول الفرَّاء{[8114]} ، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً ، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً ، تقدِيره : " من الذين هادوا من يحرفون " ، ويكون قد حمل على المَعنى في " يحرفون " قال الفرَّاء : ومِثْله [ قول ذي الرِّمَّة ]{[8115]} [ الطويل ]
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ *** وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِالْيَدِ{[8116]}
قال : تقديره ، ومنهم [ مَنْ ]{[8117]} دَمْعه سَابِقٌ لَهُ ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ ؛ لأنه جُزْءُ كلمة ، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه ، وهو : آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه{[8118]} ، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ ، والتقدير : فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر .
الثالث : أن " من الذين " خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : " هم الذين هادوا " ، و " يحرفون " على هذا حَالٌ من ضمير " هادوا " وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله : " نصيراً " .
الرابع : أن يكون " من الذين " حَالاً [ من فاعل " يريدون " قاله أبو البقاء{[8119]} ، ومنع أن يكُون حالاً ]{[8120]} من الضَّمير في " أوتوا " ومن " الذين " أعْنِي : في قوله - تعالى - : { ألم تر إلى الذين أوتوا } قال : لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ .
قال شهاب الدين : في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين{[8121]} : منهم من مَنَعَ ، وَمِنْهم من جَوَّزَ ، وهو الصَّحيح .
الخامس : أن { مِّنَ الَّذِينَ } بيان للموصول في قوله :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ } لأنهم يهُود ونَصَارَى ، فَبَيَّنَهُم باليهُودِ ، قاله الزمخشري{[8122]} ، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ } ، { وَكَفَى بِاللَّهِ } ، { وَكَفَى بِاللَّهِ } .
وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن ، فما بالك بِثلاثٍ ، قاله أبو حيان{[8123]} ، وفيه نَظَرٌ ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة ، والعَطْفُ يصير الشَّيئيْن شيئاً واحِداً .
السادس : أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم ، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً ، وقد عُرِف ما فيه .
السابع : أنه متعلِّق ب { نَصِيراً } وهذه المادَّة تتعَدَّى ب " مِن " ؛ قال - تعالى - :
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ } [ غافر : 29 ] على أحد تأويلَيْن :
إمَّا على تَضْمِين{[8124]} النَّصْر معنى المَنْع ، أي : مَنَعْنَاهُ{[8125]} من القَوْم ، وكذلك : كَفَى بالله مَانِعاً بِنصْره من الذين هَادُوا .
وإمَّا : على جعل " مِنْ " بمعنى " عَلَى " ، والأوَّل مَذْهَب البَصْريين ، فإذا جَعَلْنَا { مِّنَ الَّذِينَ } بياناً لما قَبْلَهُ ، فبِمَ يتعلَّق والظاهر [ أنَّه يتعلَّقُ بمحذُوفٍ ؛ ويدل على ذَلِك أنَّهُم قالوا في سقياً لك ]{[8126]} ، إنه مُتعلِّق بمحذوف لأنه بَيَانٌ له ، وقال أبو البقاء{[8127]} : [ وقيل ]{[8128]} وهو حَالٌ من أعْدَائِكُم ، أي : [ والله أعلم بأعْدَائِكُم ]{[8129]} كائنين من الذين هادُوا ، والفَصْل بينهما مُسَدَّد ، فلم يمنع من الحَالِ ، فقوله هذا يُعْطي أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم مع إعْرَابه له حالاً ، فيتعَلَّق أيضاً بمحذُوفٍ ، لكن لا على ذلك الحَذْف المَقْصُود في البَيَانِ ، وقد ظهر مِمَّا تقدم أن { يُحَرِّفُونَ } ، إما لا مَحَلَّ له ، أو لَهُ مَحَلُّ رَفْع أو نَصْبٍ على حَسَب ما تقدَّم وقال أبو رَجَاءٍ والنَّخعِي : " الكَلاَم " وقُرئ{[8130]} : " الكِلْم " بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع " كَلِم " مخففة من كلمة ، ومعانيها مُتَقَارِبَة .
قوله : { عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّق ب { يُحَرِّفُونَ } وذكر{[8131]} الضمير في { مَّوَاضِعِهِ } حملاً على { الْكَلِم } ، لأنَّها جِنْس .
وقال الوَاحِدِي{[8132]} : هذا جمع حُرُوفه أقَلُّ من حُروف واحِده ، وكل جَمْع يكون كذلِك ، فإنه يجوز تَذْكِيرُه .
وقال غيره{[8133]} : يمكن أن يُقال : كون هذا الجَمْعِ مؤنَّثاً ليس أمْراً حقيقيَّاً ، بل هو أمر لَفْظِيٌّ ، فكان التَّذْكير والتَّأنِيث فيه جَائِزاً . وجاء هُنَا " عن مواضعه " وفي المائدة :
{ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] .
قال الزَّمَخْشَرِي{[8134]} : أما { عَن مَّوَاضِعِهِ } فعلى ما فَسَّرْناه من إزالَتِه عن مواضِعِه ، التي أوْجَبَت حِكْمَة الله وَضْعُه فِيهَا بما اقْتَضَت شَهَوَاتُهم من إبْدَال غيره مَكَانَه ، وأما { من بعد مواضعه } ، فالمَعْنَى : أنه كَانَت له مواضعُ هو قَمِنٌ بأن يكُون فيها فحين حَرَّفُوه ، تركُوهُ كالغَرِيب الذي لا مَوْضِع له بَعْد مَوَاضِعِه ومَقَارّه والمعنيان مُتَقَارِبَان .
قال أبو حيَّان{[8135]} : وقد يُقَال : إنهما سِيَّان{[8136]} لكنه حذف هُنَا وفي أول المائدة [ الآية 13 ] من بعد مواضعه ؛ لأن قوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } يدل على استِقْرَار مواضِع له ، وحذف في ثَانِي المَائِدة " من{[8137]} مواضعه " ؛ لأن التَّحْرِيف " من بعد مواضعه " يدل على أنَّه تحريفٌ عن مَوَاضِعِه ، فالأصل : يُحَرِّفون الكَلِم من بعد مَواضِعِه عنها . فحذف هنا البَعْدِيَّة{[8138]} ، وهناك تَوَسُّعاً في العِبَارة ، وكانت البَدْأة هنا بِقَوْله : " عن مواضعه " ؛ لأنه أخصر{[8139]} ، وفيه تَنْصِيصٌ{[8140]} باللَّفْظ على " عَنْ " وعلى المَوَاضِع ، وإشارة إلى البَعْدِيّة .
وقال أيْضاً : والظَّاهِر أنهم حَيْثُ وُصِفُوا بشدة التَّمَرُّد والطُّغْيَان ، وإظْهَار العَدَاوَة ، واشْتراء الضَّلالة ، ونقص المِيثَاقِ ، جاء { يحرفون الكلم عن مواضعه } كأنهم حَرَّفُوها من أوَّل وهْلَة قبل اسْتَقْرَارِها في مَوَاضِعِها ، وبادَرُوا إلى ذلك ، ولذلك جاء أوّل المَائِدة كهذه الآية ؛ حَيث وَصَفَهمُ بِنَقْض المِيثَاقِ ، وقسْوَة القُلُوب ، وحيث وُصِفوا باللِّين وترديد{[8141]} الحُكْم إلى الرَّسُول ، جاء { من بعد مواضعه } كأنهم لم يُبَادِرُوا إلى التَّحرِيف ، بل عَرَضَ{[8142]} لهم بَعْد استِقْرَار الكَلِمِ في مواضِعِهَا{[8143]} ، فهما سِيَاقان مُخْتَلِفَان .
[ وقوله : ] { وَيَقُولُونَ } عَطْفٌ على { يُحَرِّفُونَ } وقد تَقَدَّم ، وما بعده في محلِّ نَصْب به .
اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف ، فقيل : كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَر ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ ووضعُوا ]{[8144]} موضِعَهُ الجَلْدَ ؛ ونظيره { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [ البقرة : 79 ] .
فإن قيل : كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه ، وكلماته مَبْلَغ التَّوَاتُر ، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب .
فالجواب : لعل القَوْم كانوا قليلين ، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك .
وقيل : المُرَاد بالتَّحْرِيفِ : إلْقَاء{[8145]} الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصُوصِ ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة : فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ ، وكانوا يُحرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ .
فقوله : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } إشارة إلى التَّأويل الباطل .
وقوله : { من بعد مواضعه } إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ .
وقيل : المراد بالتَّحْرِيف : تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس{[8146]} : كانت اليَهُود يأتون رسُول الله صلى الله عليه وسلم ويسْألُونه عن الأمْر ، فيُخْبِرهم ، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه ، حرِّفوا كلامه { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } منك قولك { وَعَصَيْنَا } أمْرَك ، وهو المُرَادُ بقوله : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } .
قوله : { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ }{[8147]} ، في نصبِ " غَيْر " وجْهَان :
والثاني : أنه مَفْعُول به ، والمعنى ، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه ، فَسَمْعُك{[8148]} عنه نَابٍ .
قال الزَّمَخْشريّ ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ ، وذكرهُ{[8149]} المعنى المتقدِّم : ويجوزُ على هَذَا أن يكون " غير مسمع " مفعول اسْمَع ، أي : اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك ؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه ، وهذا الكلام ذُو وَجْهَيْن ، يعني أنه يَحْتَمِل المدْحَ والذَّم :
فبإرادة المدْحِ تقدر غير مُسْمَع مكْرُوهاً ، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني ؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل .
وبإرادة الذَّمِّ تقدّر " غير مسمع خيراً " وحذف المفعول الثاني : أيضاً [ والمعنى : كانوا يَقُولُون للنَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْمع ، ويقُولون في أنْفُسِهم : لا سَمِعْتَ ]{[8150]} .
وقال أبو البقاء{[8151]} : وقيل : أرادُوا غير مَسْمُوع{[8152]} مِنْكَ ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي ، وقال : إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد .
وقال ابن عطيَّة : ولا يُسَاعِده التَّصْريف ، يَعْني : أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك ، [ وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى : سَبَبْتُه ، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً ، وتقدم القولُ في { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] ، وفيها وجوه :
أحدُها : أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ ، وقيل معناها : أرِعْنَا سمْعَك ، أيْ : اصرف سمْعَك إلى كلامنَا ، وقيل : كانوا يقولُونَ : راعِناً ، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم .
وقيل : كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم ، حتى يصيرَ قولُهم : { وَرَاعِنَا } : رَاعِينَا ، ويُريدُون : أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا .
قال الفراءُ{[8153]} : كانوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا [ ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة ]{[8154]} ويريدون الشَّتْمَ ، فذاك هو اللَّيُّ ، وكذلك قولهم : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } أرَادُوا به ، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ .
فإنْ قيلَ : كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم : سَمِعْنَا وعَصَيْنَا ؟ فالجوابُ : أنه قال بعضُ المفسِّرين{[8155]} : إنهم كانوا يقولون " وعصينا " سراً في نفوسهم . وقيل : كان بعضُهم يقولُه سِرًّا ، وبعضهم يقول جَهْراً .
قوله { لَيًّا بألسنتهم وطعناً } فيهما وجهانِ :
أحدهما : أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما " ويقُولونَ " .
والثَّاني : أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ{[8156]} في موضع الحَالِ ، أيْ : لاوين وطاعِنينَ ، وأصْلُ لَيًّا [ " لَوْيٌ ]{[8157]} " من لَوَى يلْوِي ، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها{[8158]} ياءً ، فهو مِثْلُ " طَيٍّ " مصدر طَوَى ، يَطْوِي .
و " بألسنتهم " ، و " في الدين " متعلِّقان{[8159]} بالمصْدَريْنِ قبلهما ، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله : { ولو أنهم قالوا } .
قوله : { لكان خيراً لهم } فيه قَوْلاَن :
أظهرهما : أن يكُون بمعنى أفْعَل{[8160]} ، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه [ محذوفاً ، أي : لو قالُوا هذا الكلام ، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ .
والثاني : أنه لا تَفْضِيل فيه ]{[8161]} بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل ، فلا حَذْف حينئذٍ{[8162]} ، والباءُ في " بكفرهم " للسَّبَبية .
قوله : " إلا قليلاً " فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من { لَّعَنَهُمُ } ، أي : لعنهم الله إلا قليلاً منهم ، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم .
والثاني : أنه مستثْنى من الضَّمِير في " فلا يؤمنون " ، والمراد بالقَلِيلِ{[8163]} عبد الله بن سَلاَم وأضرابه ، ولم يَسْتَحسن مَكِّي{[8164]} هذيْن الوَجْهَيْن :
أما الأوّل : قال : لأنَّ من كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد .
وأما الثاني : فلأن الوجْه{[8165]} الرَّفع على البَدَل ؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ .
والثالث : أنَّه{[8166]} صِفَةٌ لمصدر محذُوف ، أي : إلا إيماناً قَلِيلاً ؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وشَرِيعَته .
وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم ، يعني : أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله : [ الطويل ]
قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ *** كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك{[8167]}
قال أبو حيان{[8168]} : وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه ، فإذا قُلت : لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً ، فالمعنى انْتِفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل ، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِفَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ ]{[8169]} ، بخلاف : قلَّما يقُول{[8170]} ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد ، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك ، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ ، ويحتمل النَّفْي المَحْض ، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب ، ثم تُريد بالإيجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا ؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء " إلاَّ " وما بَعْدَها لَغْواً من غير فائدةٍ ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من قَوْلِكَ : لَمْ أقُمْ{[8171]} ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة ، وأيْضاً فإنَّه يُؤدِّي إلى أن يكُون ما بَعْدَ " إلاَّ " مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى ، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ .
فصل : الخلاف في القليل الوارد في الآية
معنى الكَلاَم : فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون ، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل :
فقال بعضُهم : هو عَبْد اللَّه بن سَلاَم ، ومن أسْلَم معه مِنْهُم .
وقليل : القَلِيل صفة للإيمان ، والتَّقدير : فلا يؤمِنُون إلا إيماناً قليلاً ، فإنَّهم كَانُوا يؤمِنُون بالله والتَّوْرَاة [ موسى ]{[8172]} ، والتَّقْدِير : فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى ، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ ، وَرَجَّح أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل ؛ قال : لأن { قَلِيلاً } لفظ مُفْرَد ، والمُرَادُ به الجَمْع ، قال - تعالى - : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال :
{ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة .
فصل : الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق
استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا ، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق ؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون ، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ } فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون .