الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

قوله : ( مِّنَ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) الآية [ 46 ] .

المعنى أن " من " متعلقة ب( الذِينَ أُوتُوا نَصِيباً ) أي هم من الذين هادوا . وقيل : المعنى من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم( {[12578]} ) . وقيل : المعنى من الذين هادوا من يحرفون الكلم . حكي عن العزيز يقول أي : من يقول ذلك( {[12579]} ) .

وقيل : " من " متعلقة بنصير ، أي : وكفى بالله نصيراً من هؤلاء القوم ، أي : ينتصر منهم في الآخرة ، فاكتفوا بنصرته منهم أيها المؤمنون( {[12580]} ) .

واختار قوم أن يكون المحذوف من كما قال : ( وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ )( {[12581]} ) أي : من له ، كما يقول له : منا يقول ذلك ، ومنا لا يقوله ، أي : من يقوله ومن لا يقوله( {[12582]} ) ومذهب سيبويه تقدير قوم كما ذكرنا أولاً( {[12583]} ) .

واختار أهل التفسير أن يكون( {[12584]} ) " من " متعلقة بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب " ( {[12585]} ) .

ومعنى ( ايُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ) أي : يتأولونها على غير وجهها ، ويعدلونها عن ظاهرها ، والكلم هنا كلام النبي عليه السلام ، وقال مجاهد : الكلم كلم التوراة يبدلونها ، وهو( {[12586]} ) جمع كلمة .

( وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) : يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، يخفون العصيان ، ويظهرون السمع والطاعة إذا أرادوا أن يكلموه ، قال : ( وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي : يقولون في أنفسهم : لا سمعت ، يقولون ( رَاعِنَا ) يوهمونهم أنهم يريدون : أرعنا سمعك ، وهم يريدون به الرعونة في لغتهم .

وقيل معنى( {[12587]} ) ( وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي : اسمع غير مقبول منك ، ويلزم قائل هذا أن يقول غير مسموع منك . ومعنى ( لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ) أي : تحريفاً إلى السب والاستخفاف .

وقيل : كانوا يريدون بقولهم ( رَاعِنَا ) أي : راعينا مواشينا ، ويوهمون( {[12588]} ) أنهم يريدون راعنا ، أي : انتظرنا وارفق بنا ، وإنما يريدون الرعي رعي المواشي عن طريق الهزء والاستخفاف والمغالطة .

قوله : ( وَلَوَ اَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ( وَاسْمَعْ ) أي : اسمع منا ( وَانْظُرْنَا ) أي : انتظرنا نفهم عنك ما تقول لكان ذلك [ خَيْراً لَّهُمْ( {[12589]} ) ] وَأَقْوَمَ )( {[12590]} ) أي وأعدل .


[12578]:- فتكون (مِّنَ الذِينَ هَادُوا) متقطعة عما قبلها "مستأنفة فيضمرون من في مبتدأ الكلام، انظر: معاني الفراء 1/271، والبحر 3/262.
[12579]:- كذا...
[12580]:- انظر: البحر 3/262.
[12581]:- الصافات آية 164.
[12582]:- وهذا الرأي أنكره النحاة لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة فلا يجوز، انظر: معاني الفراء 1/231، ومعاني الزجاج 2/58.
[12583]:- انظر: الكتاب 2/28، ومعاني الأخفش 1/447.
[12584]:- كذا... وصوابه أن تكون.
[12585]:- انظر: معاني الزجاج 2/52، وجامع البيان 5/118.
[12586]:- انظر: تفسير مجاهد 159.
[12587]:- انظر: تفسير مجاهد 1/160، وجامع البيان 5/118.
[12588]:- (ج): ويسمون.
[12589]:- ساقط من (أ) (ج).
[12590]:- روي أن هذه الآية نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت وكان من عظماء اليهود، فكان إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله الآية. انظر: جامع البيان 1/471، 5/116، ولباب النقول 69-70.