{ من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله ، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ ، ومن الذين خبره ، والتقدير : من الذين خبره ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، وهذا مذهب سيبويه ، وأبي عليّ ، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلاً كقولهم : منا ظعن ، ومنا أقام أي : منا نفر ظعن ، ومنا نفر أقام .
وما الدهر إلا تارتان فمنهما *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريد : فمنهما تارة أموت فيها .
وخرّجه الفرّاء على إضمار من الموصولة أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم ، وهذا عند البصريين لا يجوز .
وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، قال الفرّاء : ومثله قول ذي الرّمة :
فظلوا ومنهم دمعه سابق لها *** وآخر يثني دمعة العين باليد
وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولاً ، بل يترجح أن يكون موصوفاً لعطف النكرة عليه وهو آخر ، إذ يكون التقدير : فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها .
وقيل : هو على إضمار مبتدأ التقدير : هم من الذين هادوا ، ويحرفون حال من ضمير هادوا ، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله ، فقيل : بنصيراً أي نصيراً من الذين هادوا ، وعداه بمن كما عداه في : { ونصرناه من القوم } و { فمن ينصرنا من بأس الله } أي ومنعناه وفمن يمنعنا .
وقيل : من الذين هادوا بيان لقوله : بأعدائكم ، وما بينهما اعتراض .
وقيل : حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء .
قال : ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حال واحدة ، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض ، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى .
وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك .
وقيل : من الذين هادوا بيان { للذين أوتوا نصيباً من الكتاب } لأنهم يهود ونصارى ، وقوله : { والله أعلم بأعدائكم } { وكفى بالله ولياً } { وكفى بالله نصيراً } جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشري ، وبدأ به .
ويضعفه أن هذه جمل ثلاث ، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين ، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث .
يحرفون الكلم أي : كلم التوراة ، وهو قول الجمهور .
أو كلم القرآن وهو قول طائفة ، أو كلم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس .
قال : كان اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم ، ويرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا الكلام .
وكذا قال مكي : إنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه السلام بآدم طوال مكانه ، وتحريفهم الرجم بالحديد له ، وبتغيير التأويل ، وهو الأكثر قاله الطبري .
وكانوا يتأوّلون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأمور يختارونها ويتوصلون بها إلى أموال سفلتهم ، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل .
وقرئ : يحرّفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع كلمة تخفيف كلمة .
وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام ، وجاء هنا عن مواضعه .
وفي المائدة جاء : { عَن مواضعه } وجاء { من بعد مواضعه }
قال الزمخشري : أما عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه .
وأما من بعد مواضعه : فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان انتهى .
والذي يظهر أنهما سياقان ، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان ، وإظهار العداوة ، واشترائهم الضلالة ، ونقض الميثاق ، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه .
ألا ترى إلى قوله : { ويقولون سمعنا وعصينا } وقوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه } فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها ، ولم تستقر في مواضعها ، فيكون التحريف بعد استقرارها ، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة .
وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر ، جاء من بعد مواضعه .
ألا ترى إلى قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } وقوله بعد : { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فكأنهم لم يبادروا بالتحريف ، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها .
وقد يقال : أنهما شيئان ، لكنه حذف هنا .
وفي أول المائدة : من بعد مواضعه ، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه .
لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه .
فحذف هنا البعدية ، وهناك حذف عنها .
كل ذلك توسع في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه ، لأنه أخضر .
وفيه تنصيص باللفظ على عن ، وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعدية .
{ ويقولون سمعنا وعصينا } أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، أو سمعناه جهراً ، وعصيناه سراً قولان .
والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر ، وجرياً على عادتهم مع الأنبياء .
ألا ترى إلى قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا }
{ واسمع غير مسمع } هذا الكلام غير موجه ، ويحتمل وجوهاً .
والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا ، فيكون معناه : اسمع لا سمعت .
دعوا عليه بالموت أو بالصمم ، وأرادوا ذلك في الباطن ، وأرادوا في الظاهر تعظيمه بذلك .
إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأموراً بذلك .
وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جواباً يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئاً انتهى ، وقاله ابن عباس .
قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه ، فسمعك عنه ناب .
ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاماً غير مسمع إياك ، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه .
ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك : أسمع فلان فلاناً إذا سبه .
قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك ، فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى .
ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، وإنما تقول : سمعت منك بمعنى قبلت ، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز ، لا بالأسماع .
ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ : واسمع غير مسموع منك .
{ وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين } تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ليّاً بألسنتهم } أي فتلاً بها .
وتحريفاً عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا ، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروهاً .
أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً .
وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع ، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولاً في أحد التقادير ، وانتصاب لياً وطعناً على المفعول من أجله .
وقيل : هما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين .
ومعنى : وطعناً في الدين ، أي باللسان .
وطعنهم فيه إنكار نبوّته ، وتغيير نعته ، أو عيب أحكام شريعته ، أو تجهيله .
وقولهم : لو كان نبياً لدرى أنا نسبه ، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة .
قال ابن عطية : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى .
وهو يحكي عن يهود الأندلس ، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة ، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك ، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين ، بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا ؟ ( قلت ) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به .
{ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم } أي : لو تبدّلوا بالعصيان الطاعة ، ومن الطاعة الإيمان بك ، واقتصروا على لفظ اسمع ، وتبدلوا براعنا قولهم : وانظرنا ، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد ، والموهمة إلى ما أمروا به ، لكان أي : ذلك القول ، خيراً لهم عند الله وأعدل أي : أقوم وأصوب .
قال عكرمة ومجاهد وغيرهما : أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، كما قال الحطيئة :
وقد نظرتكم أثناء صادرة *** للخمس طال بها مسحى وابساسي
وقالت فرقة : معناه انظر إلينا ، وكأنه استدعاء اهتبال وتحف منهم .
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كما تنظر الأراك الظباء *** وقرأ أبي : وأنظرنا من الإنظار وهو الإمهال .
قال الزمخشري : المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى .
فسبك من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية ، وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه .
إذ يرى سيبويه أنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ ، وهل الخبر محذوف ، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن ؟ قولان أصحهما هذا .
فالزمخشري وافق مذهب المبرد ، وهو مذهب مرجوح في علم النحو .
{ ولكنْ لعنهم الله بكفرهم } أي : أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق .
وقال الزمخشري : أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه انتهى .
{ فلا يؤمنون إلا قليلاً } استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي : إلا قليلاً لم يلعنهم فآمنوا ، أو استثناء من الفاعل في : فلا يؤمنون ، أي : إلا قليلاً فآمنوا كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما .
أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : فلا يؤمنون أي : إلا إيماناً قليلاً قلله إذ آمنوا بالتوحيد ، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرائعه .
وقال الزمخشري : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره .
وأراد بالقلة العدم كقوله : قليل التشكي للهموم تصيبه .
وقال ابن عطية : من عبر بالقلة عن الإيمان قال : هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، وهي لا تنبته جملة .
وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه ، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه .
فإذا قلت : لا أقوم إلا قليلاً ، لم يوضع هذا لانتقاء القيام ألبتة ، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك .
وإذا قلت : قلما يقوم أحد إلا زيد ، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا ، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير ، واحتمل أن يراد به النفي المحض .
وكأنك قلت : ما يقوم أحد إلا زيد ، وما رجل يقول ذلك .
إمّا أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي ، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير ، جيء بها لغواً لا فائدة فيه ، إذ الانتفاء قد فهم من قولك : لا أقوم .
فأيُّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة ، وأيضاً ، فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقاً لما قبلها في المعنى .
وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقاً لما قبلها ، وظاهر قوله : فلا يؤمنون إلا قليلاً ، إذا جعلناه عائداً إلى الإيمان ، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة ، فيزيد وينقص ، والجواب : إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها .