قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية . قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم ، وزيد بن المهلهل الطائيين ، وهو زيد الخيل ، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية . فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الزيادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، والأول أصح في نزول الآية .
قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } . يعني الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب وتستلذه ، من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة .
قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح . واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن تدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من السباع البهائم ، كالفهد ، والنمر ، والكلب . ومن سباع الطير كالبازي ، والعقاب ، والصقر ، ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها . سميت جارحة : لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله أي : كاسبهم .
قوله تعالى : { مكلبين } . والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضاً مكلب ، والكلاب صاحب الكلاب ، ويقال : الصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد .
قوله تعالى : { تعلمونهن } . تؤدبونهن آداب أخذ الصيد .
قوله تعالى : { مما علمكم الله } . أي : من العلم الذي علمكم الله . قال السدي : أي كما علمكم الله ، فمن بمعنى الكاف .
قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } . أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها ، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً ، والتعليم هو : أن يوجد بها ثلاثة أشياء ، إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ، ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مراراً ، وأقله ثلاث مرات ، كانت معلمة يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أن ثابت ابن زيد ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت ، فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل ، وإن وقع في الماء فلا تأكل .
واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئاً : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والشعبي ، وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه " . ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك ، وذكرت اسم الله تعالى فكل ، وإن أكل منه " .
أما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيداً ، والمعلم إذا جرح بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل ، فلا يكون حلالاً ، إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذبحه ، فيكون حلالاً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يزيد ، أنا حيوة ، أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن أبي إدريس ، عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : قلت : يا نبي الله ، إنا بأرض قوم أهل الكتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم ، فما يصح لي ؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوا وامسكوا فيها ، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .
قوله تعالى : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } ، ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة ، حدثنا عمر بن شيبة ، أنا أبو عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما ، ويذبحهما بيده ويقول : بسم الله والله أكبر " .
{ 4 ْ } { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ } من الأطعمة ؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ } وهي كل ما فيه نفع أو لذة ، من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل ، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري ، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر ، إلا ما استثناه الشارع ، كالسباع والخبائث منها .
ولهذا دلت الآية بمفهومها على تحريم الخبائث ، كما صرح به في قوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ْ }
{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ } أي : أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية . دلت هذه الآية على أمور :
أحدها : لطف الله بعباده ورحمته لهم ، حيث وسع عليهم طرق الحلال ، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح ، والمراد بالجوارح : الكلاب ، والفهود ، والصقر ، ونحو ذلك ، مما يصيد بنابه أو بمخلبه .
الثاني : أنه يشترط أن تكون معلمة ، بما يعد في العرف تعليما ، بأن يسترسل إذا أرسل ، وينزجر إذا زجر ، وإذا أمسك لم يأكل ، ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ْ } أي : أمسكن من الصيد لأجلكم .
وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه ، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه .
الثالث : اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما ، لقوله : { مِنَ الْجَوَارِحِ ْ } مع ما تقدم من تحريم المنخنقة . فلو خنقه الكلب أو غيره ، أو قتله بثقله لم يبح [ هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها ، والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي : المحصلات للصيد والمدركات لها فلا يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم- ]{[254]}
الرابع : جواز اقتناء كلب الصيد ، كما ورد في الحديث الصحيح ، مع أن اقتناء الكلب محرم ، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه .
الخامس : طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد ، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا ، فدل على طهارته .
السادس : فيه فضيلة العلم ، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده ، والجاهل بالتعليم لا يباح صيده .
السابع : أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما ، ليس مذموما ، وليس من العبث والباطل . بل هو أمر مقصود ، لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به .
الثامن : فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد ، قال : لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك .
التاسع : فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح ، وأنه إن لم يسم الله متعمدا ، لم يبح ما قتل الجارح .
العاشر : أنه يجوز أكل ما صاده الجارح ، سواء قتله الجارح أم لا . وأنه إن أدركه صاحبه ، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها .
ثم حث تعالى على تقواه ، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة ، وأن ذلك أمر قد دنا واقترب ، فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ }
وبعد أن بين - سبحانه - أنواعاً من : المحرمات . شرع في بيان ما أحله لهم من طيبات فقال - تعالى -
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات . . . }
أورد المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين أنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية .
والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم من المطاعم بعد أن عرفوا ما حرم منها ؟ قل لهم أحل لكم الطيبات .
والطيبات : جمع طيب وهو الشيء المستلذ . وفسره بعضهم بالحلال .
أي : قل لهم أحل الله لكم الأطعمة الطيبة التي تستلذها النفوس المستقيمة وتستطيبها ولا تستقذرها ، والتي لم يرد في الشرع ما يحرمها ويمنع من تناولها .
وفي قوله { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ } التفاوت من الحاضر إلى الغائب ، لأن في السياق حكاية عنهم كما يقال : أقسم فلان ليفعلن كذا ، لأن هذا الالتفات أدعى إلى تنبيه الأذهان ، وتوجيهها إلى ما يراد منها .
وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجواب عن سؤالهم لأنه هو المبلغ للرسالة وهو المبين لهم ما خفى عليهم من أمور دينهم ودنياهم .
وقوله { مَاذَآ } اسم استفهام مبتدأ ، وقوله { أُحِلَّ لَكُمُ } خبره كقولك : أي شيء أحل لهم .
وجواب سؤالهم جاء في قوله تعالى : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } .
وقوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِين } معطوف على الطيبات بتقدير مضاف و { ما } موصولة . والعائد محذوف .
و { الجوارح } جمع جارحه . وهي - كما يقال ابن جرير - الكواسب من سباع البهائم والطير . سميت جوارح لجرحها لأربابها ، وكسبها إياهم أوقاتهم من الصيد . يقال منه : جرح فلان لأهله خيراً . إذا أكسبهم خيراً وفلان جارحه أهله . يعني بذلك : كاسبهم ، ويقال : لا جارحة لفلانه إذا لم يكن لها كاسب " .
ومنه قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } أي : كسبتم بالنهار . وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه .
وقوله : { مُكَلِّبِين } أي : مؤدبين ومعودين لها على الصيد . فالتكليب : تعليم الكلاب وما يشبهها الصيد . فهو اسم فاعل مشتق من اسم هذا الحيوان المعروف لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب . أو هو مشتق من الكلب بمعنى الضراوة . يقال : كلب الكلب يكلب واستكلب أي : ضرى وتعود نهش غيره وهو حال من فاعل علمتم .
والمعنى : أحل الله لكم الطيبات ، وأهل لكم صيد ما علمتموه من الجوارح حال كونكم مؤدبين ومعودين لها على الصيد .
وقوله : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } في محل نصب على أنه حال ثانية من فاعل { عَلَّمْتُمْ } أو من الضمير المستتر في { مُكَلِّبِينَ } .
أي : تعلمون هذه الجوارح بعض ما علمكم الله إياه من فنون العلم والمعرفة بأن تدربوهن على وسائل التحاليل وعلى الطرق المتنوعة للاصطياد وعلى الانقياد لأمركم عند الإِرسال وعند الطلب ، وعلى عدم الأكل من المصيد بعد صيده .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان بعض مظاهر فضل الله على الناس ، حيث منحهم العلم الذي عن طريقه علموا غيرهم ما يريدونه منه ، وسخروا هذا الغير لمنفعتهم ومصلحتهم .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } عطف على الطيبات : أي : أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح ، فحذف المضاف أو تجعل " ما " شرطية وجوابها { فَكُلُواْ } والجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي ، والمكلب : مؤدب الجوارح ومغريها بالصيد لصاحبها ، ورائضها ذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب .
وانتصاب { مُكَلِّبِينَ } على الحال من { عَلَّمْتُمْ } .
فإن قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعملتم ؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه ، مدربا فيه ، موصوفا بالتكليب .
قوله { تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال ثانية أو استئناف . وفيه فائدة جليلة وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أبرع أهله علما وأكثرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإِبل . فكم من آخذ عن غير متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله .
وقوله { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة ، ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره والأمر فيه للإِباحة .
و { من } في قوله { مِمَّآ أَمْسَكْنَ } تبعيضة ؛ إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم ونحوهما . ويحتمل أن تكون بيانية أي : فكلوا الصيد و هو ما أمسكن عليكم .
و { ما } موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي : أمسكنه .
وقوله { أمسكن } أي : حبس وصدن ، والضمير المؤنث يعود للجوارح .
وقوله { عليكم } متعلق بأمسكن ، وهو هنا بمعنى لكم ، والاستعلاء مجازي .
والتقييد بذلك ، لإِخراج ما أمسكنه لأنفسهن لا لأصحابهن .
والمعنى : إذا علمتم الجوارح وتوفرت شروط الحل فيما تصيده ، فكلوا مما أمسكنه محبوسا عليكم ولأجلكم .
والضمير في { عليه } من قوله : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } يعود إلى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } أي : عند إرسالكم الجوارح للصيد فسموا عليها ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم - الله تعالى - فكل مما أمسك عليك " .
وقال بعضهم إنه يعود على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل . فكأنه قيل : واذكروا اسم الله عند الأكل مما صدن لكم . وقيل : يعود على قوله { مِمَّآ أَمْسَكْنَ } أي : اذكروا اسم الله على ما أدركتم ذكاته مما أمسكن عليكم الجوارح . ولا بأس من عود الضمير إلى كل ما ذكر ، بأن يذكر اسم الله عند إرسال الجوارح ، وعند الأكل مما صادته .
وعند تذكية الحيوان الذي صادته الجوارح .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
أي : واتقوا الله وراقبوه واخشوه في كل شئونكم واحذروا مخالفة أمره فيما شرع لكم وفيما كلفكم به فإنه - تعالى - لا يعجزه شيء ، وسيجازي كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أمر الله ، وانتهك محارمه . هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - إباحة التمتع بالطيبات التي أحلها الله - تعالى - لعباده ، والتي تستطيبها النفوس الكريمة ، والعقول القويمة ، من مطعومات ومشروبات وغير ذلك مما أحله - سبحانه - لعباده . وفي هذا المعنى وردت آيات كثيرة منها ، قوله - تعالى - : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } 2 - إباحة الصيد بالجوارح بشرط كونها معلمة ، وعلامة كونها معملة أن تسترسل إذا أرسلت ، وتنزجر إذا زجرت ، وتمسك الصيد ولا تأكل منه ، وتعود إلى صاحبها متى دعاها .
ويدخل في الجوارح - عند جمهور الفقهاء - كل يحوان ينصع صنيع الكلب ، وكل طير كذلك ، لأن قوله - تعالى - { مِّنَ الجوارح } ، يعم كل يحوان يصنع صنيع الكلب . وكان التعبير بمكلبين ، لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا للصيد .
وقد جاء في حديث عدي بن حاتم الذي رواه الإِمام أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " .
ويرى بعض الفقهاء أن الصيد لا يكون إلا بالكلاب خاصة .
قال القرطبي ما ملخصه : وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإِباحة تتناول ما علمناه من الجوارح وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير . وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها وبسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل . وهو الأكل من الجوارح . أي : الكواسب من الكلاب وسباع الطير .
وليس في قوله { مُكَلِّبِينَ } دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة ، وإن كان قد تمسك به من قصر الإِباحة على الكلاب خاصة .
3 - استدل بعض الفقهاء بقوله - تعالى - { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } على أن الكلب وما يشبهه من الجوارح إذا أكل من الصيد الذي أمسكه ، فإنه في هذه الحالة لا يحل الأكل منه ، لأنه لم يمسك لمن أرسله وإنما أمسك لنفسه وبهذا قال الشافعية والحنابلة .
ويرى المالكية أن الجارح ما دام قد عاد بالصيد ولو مأكولا منه ، فإنه يجوز الأكل منه ، لأنه بعودته بما صاده قد أمسكه على صاحبه .
أما الأحناف فقالوا : إن عاد بأكثره جاز الأكل منه ، لأنه في هذه الحالة يكون قد أمسك لصاحبه ، وإن عاد بأقله لا يجوز الأكل منه ، لأنه يكون قد أمسك لنفسه . وهذه المسألة بأدلتها الموسعة مبسوطة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير .
4 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى - { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } على وجوب التسمية عند إرسال الجوارح للصيد ، ولقوله - تعالى - في آية أخرى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ويرى بعضهم أن الأمر للندب ، ويرى فريق ثالث أن التسمية إن تركت عمدا لا يحل الأكل من الصيد .
قال القرطبي : وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإِرسال لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " فلو لم توجد التسمية على أي وجه كان لم يؤكل الصيد . وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث .
وذهب جماعة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا ، وحملوا الأمر بالتسمية على الندب .
وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال لا تؤكل مع العمد ، وتؤكل مع السهو ، وهو قول فقهاء الأمصار ، وأحد قولي الشافعي .