قوله تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } ، قال مجاهد : سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول : أنا قتلت فلاناً ، ويقول الآخر مثله ، فنزلت الآية . ومعناه : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ، ولكن الله قتلهم بنصرته إياكم ، وتقويته لكم . وقيل : لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة .
قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، قال أهل التفسير والمغازي :
ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم ، غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار ، غلام لبني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما : أين قريش ؟ قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مكة قد ألقيت إليكم أفلاذ كبدها ، فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي ، قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصىً عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه ، وفمه ، ومنخريه ، منها شيء . فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . وقال قتادة ، وابن زيد : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفاً من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء ، وقيل : معناه وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ ، وقيل : وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا .
قوله تعالى : { وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } ، أي : ولينعم على المؤمنين منه نعمةً عظيمةً بالنصر والغنيمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنّ اللّهَ رَمَىَ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش : فلم تقتلوا المشركين أيها المؤمنون أنتم ، ولكن الله قتلهم . وأضاف جلّ ثناؤه قتلهم إلى نفسه ، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين ، إذ كان جلّ ثناؤه هو مسبب قتلهم ، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم ، ففي ذلك أدلّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إلها . وكذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى فأضاف الرمي إلى نبيّ الله ، ثم نفاه عنه ، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي ، إذ كان جلّ ثناؤه هو الموصل المرميّ به إلى الذين رمُوا من به المشركين ، والمسبب الرمية لرسوله . فيقال للمسلمين ما ذكرنا : قد علمتم إضافة الله رمى نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه بعد وصفه نبيه به وإضافته إليه ذلك فعل واحد كان من الله بتسبيبه وتسديده ، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذف والإرسال ، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة : من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب ، ومن الخلق الاكتساب بالقوى ؟ فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حين قال هذا : قتلت ، وهذا : قتلت . وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ قال لمحمد حين حَصَب الكفار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى قال : رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، قال : ما وقع منها شيء إلاّ في عين رجل .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، قال : لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال : «هَذِهِ مَصَارِعُهُمْ » . ووجد المشركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل إليه ، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جاءَتْ بِخُيَلائها وَفَخْرِها تَحادّكَ وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ ، اللّهُمّ إنّى أسألُكَ ما وَعَدْتَنِي » فلما أقبلوا استقبلهم ، فحثا في وجوههم ، فهزمهم الله عزّ وجلّ .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عمران ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن حكيم بن حزام ، قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي ، قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : «شاهَتِ الُوجُوهُ » فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنزل الله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى . . . الاَية ، إلى : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ . . . الاَية ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها في وجوه الكفار ، فهزموا عند الحجر الثالث .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعليّ رضي الله عنه : «أعْطِني حَصا مِنَ الأرْضِ » فناوله حصى عليه تراب فرمى به وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينيه من ذلك التراب شيء . ثم ردِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . فذكر رمية النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال : «شاهَت الوُجُوهُ » فانهزموا ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر ، فقال : «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرْضِ أبَدا » فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم فما من المشركين من أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال الله عزّ وجلّ في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم : وَلكنّ اللّهَ رَمى : أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك ، وما ألقى في صدور عدوّك منها حين هزمتهم .
ورُوي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال ، وهو ما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ قال : جاء أبيّ بن خلف الجمحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : الله محيي هذا يا محمد وهو رميم ؟ وهو يفتّ العظم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يُحْيِيهِ اللّهُ ، ثُمّ يُمِيتُكَ ، ثُمّ يُدْخِلُكَ النّارَ » قال : فلما كان يوم أُحد ، قال : والله لأقتلنّ محمدا إذا رأيته فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «بَلْ أنا أقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ » .
وأما قوله : وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنا فإن معناه : ولينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم ، ويغنمهم ما معهم ، ويثبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك البلاء الحسن ، رَمْيُ الله هؤلاء المشركين . ويعني بالبلاء الحسن : النعمة الحسنة الجميلة ، وهي ما وصفت ، وما في معناه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال في قوله : وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهَ بَلاءً حَسَنا : أي ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته .
وقوله : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني : إن الله سميع أيها المؤمنون لدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ومناشدته ربه ومسئلته إياه إهلاك عدوّه وعدوّكم ولقيلكم وقيل جميع خلقه ، عليم بذلك كله وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده ، وغير ذلك من الأشياء محيط به ، فاتقوه وأطيعوا أمره وأمر رسوله .
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } .
الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } [ الأنفال : 12 ] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره والأكثر أن يكون شرطاً فتكون رابطة لجوابه ، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقَطْع إيديهم فلَمْ تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم ، وإلى هذا يشير كلام صاحب « الكشاف » هنا وتبعه صاحب « المفتاح » في آخر باب النهي .
ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة : { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذي كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عَددا وعُدة ، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول ، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلاً من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلاً وتوجيهاً لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار . ولأَمْرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله : { واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ] فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم ، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار ، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين ، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمْعانِ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } [ آل عمران : 155 ] .
وإذ قد تضمنت الجملة إخباراً عن حالة أفعال فعلها المخاطبون ، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين ، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة ، وذوي شوكة وشِكّة ، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صورياً ، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة ، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة ، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه ، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر ، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل ، في جاهلية أو إسلام ، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا . وليس السياق لتعليم العقيدة الحق .
وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه ، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلاً فلذلك صح النفي في قوله : { فلم تقتلوهم } مع كون القتل حاصلاً ، وإنما المنفي كونه صادراً عن أسبابهم .
ووجه الاستدراك المفاد ب { لكن } أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادراً عن المخاطبين فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل ، ومَن كان فاعلاً له ، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله : { ولكن الله قتلهم } .
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : { ولكن الله قتلهم } دون أن يقال ولكن قتلهم الله ، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص ، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي ، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهمّاً عندهم تعجيل العلم به .
{ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }
استطراد بذكر تأييد إلهي آخرَ لم يُجر له ذكر في الكلام السابق ، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قُبْضة من تراب فارمهم بها فأخذ حفنة من الحصاء فاستقبل بها المشركين ثم قال : « شاهت الوجوه » ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال : شُدوا فكانت الهزيمة على المشركين ، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا ، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة ، وهذا أصح الروايات ، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر ، وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة ، فالخطاب في قوله : { رميت } للنبيء صلى الله عليه وسلم .
والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكتْه اليد ، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فِعل أو قول كما في قول النابغة :
رمَى الله في تلك الأكفِ الكَوانع
أي أصابها بما يُشلها وقول جميل :
رمَى الله في عيني بُثينة بالقذى *** وفي الغُر من أنيابها بالقوازح
وقوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } [ النور : 6 ] فيجوز أن يكون { رميتَ } الأول وقولَه : { ولكن الله رمى } مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينَهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله ، ويكون قوله : { إذ رميت } مستعملاً في معناه الحقيقي ، وفي « القرطبي » عن ثعلب أن المعنى وما رميتَ الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا ، وفيه عن أبي عبيدة أن ( رميتَ ) الأول والثاني ، و ( رمى ) مستعملة في معانيها الحقيقية ، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله : { إذ رميت } هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفياً للرمي الحقيقي وجعل ( إذ رميت ) للرمي المجازي .
وقوله : { إذ رميت } زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور ، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله : { فلم تَقتلوهم } لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد ، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غيرِ الله ، لم يكن نفي ذلك التأثير ، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجاً إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلاً منه ، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال ، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالاً لاحتمال المجاز في النفي بأن يُحمل على نفي رمي كامل ، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يَجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار ، كقول عباس بن مرداس :
أي شيئاً مجدياً ، فدل قوله : { إذ رميت } على أن المراد بالنفي في قوله : { وما رميت } هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه ، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله : { فلم تقتلوهم } لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره ، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد ، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية ، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم ، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف ، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله : { ولكن الله رمى } كالقول في { ولكن الله قتلهم } .
وقرأ نافع والجمهور { ولكن } بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بسكون النون فيهما .
{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ، إن الله سميع عليم }
عطف على محذوف يؤذن به قوله : { فلم تقتلوهم } الآية وقوله { وما رميت } الآية .
فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية ، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسناً أي يعطيهم عطاءً حسناً يشكرونه عليه ، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها ، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة .
وأعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريفُ هذا الفعل أغفله الراغب في « المفردات » ومن رأيتُ من المفسرين ، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحداً بشيء يظهر به مقدار تأثره ، والغالب أن الإصابة بشرّ ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى : { ونبلُوكم بالشر والخير فتنةً } [ الأنبياء : 35 ] وهو إطلاق كنائي وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح ، وبقي الفعل المجرد صالحاً للإصابة بالشر والخير ، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابةُ بخير قال ابن قتيبة : « يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاءً » .
قلت : جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى : { بلاء حسناً } وهو مفعول مطلق لفعل يُبليَ موكد له ، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير { منه } عائد إلى اسم الجلالة و ( من ) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون ( من ) للتعليل والسببية .
وقوله : { إن الله سميع عليم } تذييل للكلام و ( إن ) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم ، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين أيها المؤمنون أنتم، ولكن الله قتلهم. وأضاف جلّ ثناؤه قتلهم إلى نفسه، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين، إذ كان جلّ ثناؤه هو مسبب قتلهم، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم، ففي ذلك أدلّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إليها. وكذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام:"وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى" فأضاف الرمي إلى نبيّ الله، ثم نفاه عنه، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي، إذ كان جلّ ثناؤه هو الموصل المرميّ به إلى الذين رمُوا من به المشركين، والمسبب الرمية لرسوله، فيقال للمسلمين ما ذكرنا: قد علمتم إضافة الله رمي نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه بعد وصفه نبيه به وإضافته إليه ذلك فعل واحد كان من الله بتسبيبه وتسديده، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذف والإرسال، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتساب بالقوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الآخر مثله...
عن قتادة: "وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى "قال: رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر...
وأما قوله: "وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنا" فإن معناه: ولينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم، ويغنمهم ما معهم، ويثبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك البلاء الحسن، رَمْيُ الله هؤلاء المشركين. ويعني بالبلاء الحسن: النعمة الحسنة الجميلة، وهي ما وصفت، وما في معناه...
عن ابن إسحاق، قال في قوله: "وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهَ بَلاءً حَسَنا": أي ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته.
وقوله: "إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" يعني: إن الله سميع أيها المؤمنون لدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ومناشدته ربه ومسألته إياه إهلاك عدوّه وعدوّكم ولقيلكم وقيل جميع خلقه، "عليم" بذلك كله وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده، وغير ذلك من الأشياء محيط به، فاتقوه وأطيعوا أمره وأمر رسوله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (فلم تقتلوهم) الآية يخرج على وجوه:
أحدها: أن العبد لا صنع له في القتل واستخراج الروح منه، إنما ذلك فعل الله، وإليه ذلك، وهو المالك لذلك، لأن الضربة والجرح قد يكون، ولا موت هنالك. وكذل الرمي؛ ليس كل من أرسل شيئا من يده، فهو رمي، إنما يصير رميا بالله إنشاء السهم حتى يصل بطبعه المبلغ الذي يبلغ، فكأنه لا صنع له في الرمي. والثاني: قتلوا بمعونة الله ونصره كما يقول الرجل لآخر: إنك لم تقتله، وإنما قتله فلان؛ أي بمعونة فلان قتله...
وقوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) أي ما أصاب رميك المقصد الذي قصدت، ولكن الله بالغ ذلك المقصد الذي قصدت.
والثالث:"فلم تقتلوهم" أي لم تطمعوا بخروجكم إليهم قتلهم؛ لأنهم كانوا بالمحل الذي وصفهم من الضعف وشدة الخوف والذلة (كأنما يساقون إلى الموت) فإذا كانوا بالمحل الذي ذكر، فيقول، والله أعلم: لم تطمعوا بخروجكم إليه وقصدكم إياهم قتلهم لما كان فيكم من الضعف وقوة أولئك، ولكن الله أذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى قتلوهم. وكذلك قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) لا يطمع الإنسان برمي كف من تراب النكبة بأعدائه (ولكن الله رمى) حيث بلغ ذلك، غطى أبصارهم وأعينهم بذلك الكف من التراب على ما ذكر في القصة أنه رمى كفا من تراب، فغشى أبصار المشركين، فانهزموا لذلك. ويحتمل أن تكون نسبة هذه الأفعال إلى نفسه وإضافتها إليه كما نسب، وأضاف كل خير ومعروف إلى نفسه. من ذلك قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) الآية [الحجرات: 17] وقوله تعالى: (ولكن الله يهدي من يشاء) [البقرة: 272] وقوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) [الفاتحة: 6] وغير ذلك من الآيات التي فيها إضافة الأفعال التي خلصت إلى الله وصفت له، فعلى ذلك نسب فعلهم إلى نفسه لخلوصه وصفائه له. وقوله تعالى: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) أي نعمة عظيمة حيث نصرهم على عدوهم مع ضعف أبدانهم وعدتهم، وهو ما ذكر في هلاك فرعون وقومه أنه بلاء من ربكم عظيم بقوله تعالى: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) [البقرة: 49] فعلى ذلك هذا، والله أعلم. وقوله تعالى: (إن الله سميع) لدعائكم الذي دعوتم وتضرعكم الذي تضرعتم إليه، وأن يقول: (سميع)، أي مجيب لدعائكم (عليم) بأقوالكم وأفعالكم (ما يسرون وما تعلنون) [النحل: 19 و التغابن: 4] والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذي نَفَى عنهم من القتل، هو إماتة الروح وإثبات الموت، وهو من خصائص قدرته -سبحانه، والذي يُوصَفُ به الخلق من القتل هو ما يفعلونه في أنفسهم، ويحصل ذهاب الروح عقيبه. وفائدة الآية قطع دعاواهم في قول كل واحد على جهة التفاخر: قتلتُ فلاناً، فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبتدئ هو الله عزَّ وجل. وصَانَهم بهذه الآية وصان نَبِيَّه- عليه السلام -عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم. قوله جلّ ذكره: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}. أي ما رَمَيْتَ بنفسك ولكنك رميْت بنا، فكان منه (صلوات الله عليه) قبضُ التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب، وكَسْبُهُ مُوجَدٌ من الله بقدرته، وكان التبليغ والإصابة مِن قِبَل الله خَلْقاً وإبداعاً، وليس الذي أثبت ما نفي ولا نفي ما أثبت إلا هو، والفعلُ فِعْلُ واحدٍ ولكن التغاير في جهة الفعل لا في عينه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم {ولكن الله قَتَلَهُمْ} لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع {وَمَا رَمَيْتَ} أنت يا محمد {إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلاً...
{وَلِيُبْلِىَ المؤمنين} وليعطيهم {بَلاء حَسَنًا} عطاء جميلاً... والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لدعائهم {عَلِيمٌ} بأحوالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليسوا هم مستبدين بالقتل، لأن القتل بالإقدار عليه، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده...
{وليبلي} أي ليصيبهم ببلاء حسن، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء، وغيرهم، {إن الله سميع} لاستغاثتكم، {عليم} بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو..
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم؛ ولهذا قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي: ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي: بل هو الذي أظفركم [بهم ونصركم] عليهم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]} [آل عمران: 123]. وقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] يعلم -تبارك وتعالى- أن النصر ليس عن كثرة العدد، ولا بلبس اللأمة والعدد، وإنما النصر من عند الله تعالى كما قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب، التي حصب بها وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال:"شاهت الوجوه". ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال [تعالى] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أي: هو الذي بلغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأما قوله {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} فهو وصل للنهي عن التولي بما هو حجة على جدارتهم بالانتهاء، فإن كانت الآية التي قبله قد نزلت بعد انتهاء القتال في غزوة بدر كسائر السورة كما عليه الجمهور فوجه الوصل بالفاء ظاهر جلي، كأنه يقول يا أيها المؤمنون لا تولوا الكفار ظهوركم في القتال أبدا، فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، فها أنتم أولاء قد انتصرتم عليهم على قلة عددكم وعددكم وكثرتهم واستعدادهم، وإنما ذلك بتأييد الله تعالى لكم، وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذريع بمحض قوتكم واستعدادكم المادي ولكن الله قتلهم بأيديكم بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب في قلوبهم، فهو قوله عز وجل {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} [التوبة: 14] الآية، والمؤمن أجدر بالصبر الذي هو الركن الأعظم للنصر من الكافر، لأنه أقل حرصا على متاع الدنيا، وأعظم رجاء بالله والدار الآخرة كما قال تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [النساء: 104] وقال حكاية لرد المؤمنين بهذا الرجاء، على الخائفين من كثرة الأعداء {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].
ثم التفت عن خطاب المؤمنين المقاتلين بأيديهم، والمجندلين لصناديد المشركين بسيوفهم، إلى خطاب قائدهم وهو الرسول المؤيد منه تعالى بالآيات صلى الله عليه وسلم ومنها أنه رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب قائلا (شاهت الوجوه) فأعقبت رميته هزيمتهم، روي عن أبي معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي بالمعنى وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في استغاثته يوم بدر (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا) قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم – ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين. وروى السدي أنه صلى الله عليه وسلم طلب من علي أن يعطيه حصبا من الأرض فناوله حصبا عليه تراب فرماهم به الخ. وعن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة أيضا أن الآية في رميه صلى الله عليه وسلم في بدر.
فإذا لم تكن رواية من هذه الروايات وصلت إلى درجة الصحيح فمجموعها مع القرينة حجة على ذلك، وروي مثل هذه الرمية في غزوة حنين فحمل الآية بعضهم على ذلك وهو شاذ وحملها بعضهم على رميه صلى الله عليه وسلم لأمية بن خلف بالحربة يوم أحد وهو مقنع بالحديد فقتله وهو شاذ أيضا فالآية بل السورة نزلت في غزوة بدر.
والمعنى {وما رميت إذ رميت...} رميت أيها الرسول أحدا من أولئك المشركين في الوقت الذي رميت به تلك القبضة من التراب بإلقائها في الهواء فأصابت وجوههم فإن ما أوتيته كأمثالك من البشر من استطاعة على الرمي لا يبلغ هذا التأثير الذي هو فوق الأسباب الممنوحة لهم {ولكن الله رمى} وجوههم كلهم بما أوصل التراب الذي ألقيته في الهواء إليها مع قلته، أو بعد تكثيره بمحض قدرته، وحذف مفعول الرمي للدلالة على عمومه في كل من الإثبات والنفي كما قدرنا فيهما وفاقا لما تقرر في علم المعاني- وقد علم من هذا التفسير المتبادر من اللفظ بغير تكلف وجه الفرق بين قتل المؤمنين للكفار الذي هو فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب الذي ليس بسبب لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقلته وبعدهم عن راميه وكونهم غير مستقبلين كلهم له، ولأجل هذا الفرق ذكر مفعول القتل مثبتا ومنفيا- وهو ضمير المشركين- فنفى القتل المحسوس مطلقا وأثبت المعقول مطلقا لعدم تعارضهما فالمراد من كل منهما ظاهر بغير شبهة، ولو أثبت لهم القتل مع نفيه عنهم بأن قال: إذ قتلتموهم –لكان تناقضا ظاهرا يخفى وجه جعل المثبت من غير المنفي. وقتلهم لهم مشاهد لا يحتاج إلى إثبات من حيث كان سببا ناقصا، وإنما الحاجة إلى بيان نقصه وعدم استقلاله بالسببية، ثم بيان ما لولاه لم يكن وهو إعانة الله ونصره.
وأما رمي النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه القوم فلم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين ولا غير مشاهد، والجمع بين نفيه وإثباته لا يوهم التناقض للعلم بعدم السببية. ولم يذكر مفعول الرمي بأن يقال (وما رميت وجوههم) إذ لا شبهة هنا في عدم استطاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا استقلالا بكسبه العادي، وأما هنالك فالظاهر أن القتل من كسبهم الاستقلالي. والحقيقة أنه لولا تأييد الله تعالى ونصره بما تقدم بيانه لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل، وقد علمنا ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال ومجادلة النبي صلى الله عليه وسلم فيه {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} فلو ظلوا على هذه الحالة المعنوية مع قلتهم وضعفهم لكل مقتضى الأسباب أن يمحقهم المشركون محقا.
وأما الفرق بين فعله تعالى في القتل وفعله في الرمي فالأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل التي تقدم بيانها كما هو الشأن في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة، كقوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما} [الواقعة: 63- 65] فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البزر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بالتراب المختلف العناصر، ولا دفع الجوائح عنه. ولا يستقل إيجاد الزرع وبلوغ ثمرته صلاحها بكسبه وجده. وأما الثاني فهو من فعله تعالى وحده بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلم في تأثيره فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فمثله في ذلك كمثل أخيه موسى عليه السلام في إلقائه العصا {فإذا هي حية تسعى} [طه: 20] فخاف منها أولا كما ورد في سورتي طه والنمل...
وأما قوله تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} فهو معطوف على تعليل مستفاد مما قبله، أي أنه فعل ما ذكر لإقامة حجته وتأييد رسوله {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} بالنصر والغنيمة وحسن السمعة. والبلاء الاختبار بالحسن أو بالسيئ كما قال تعالى في بني إسرائيل {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168] وتقدم بيانه بالتفصيل وختم الآية بقوله: {إن الله سميع عليم} وهو تعليل مستأنف للبلاء الحسن والمراد أنه تعالى سميع لما كان من استغاثة المؤمنين مع الرسول ربهم ودعائهم إياه وحده، عليم بصدقهم وإخلاصهم، وبما يترتب على استجابته لهم من تأييد الحق الذي هم عليه وخذلان الشرك، كما أنه سميع لكل نداء وكلام، عليم بالنيات الباعثة عليه، والعواقب التي تنشأ عنه، وبكل شيء.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
..."وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا" أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا. "إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ": يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها، فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم؛ وتقتل لهم أعداءهم، وترمي لهم وتصيب... وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه: (فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، وما رميت -إذ رميت- ولكن الله رمى. وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا. إن الله سميع عليم)..
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [صلى الله عليه و سلم] في وجوه الكفار، وهو يقول:"شاهت الوجوه. شاهت الوجوه" فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله.. ولكن دلالة الآية أعم. فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي [صلى الله عليه و سلم] والعصبة المسلمة معه. ولذلك تلاها قول الله تعالى: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا).. أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر، بعد أن يكتب لهم به النصر. فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً. (إن الله سميع عليم).. يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم؛ ويجعلكم ستارا لقدرته، متى علم منكم الخلوص له؛ ويعطيكم النصر والأجر.. كما أعطاكم هذا وذاك في بدر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دل قوله: {إذ رميت} على أن المراد بالنفي في قوله: {وما رميت} هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله: {فلم تقتلوهم} لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله: {ولكن الله رمى} كالقول في {ولكن الله قتلهم}... {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا، إن الله سميع عليم}... فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسناً أي يعطيهم عطاءً حسناً يشكرونه عليه، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}... وهذا هو خط الإيمان الذي يريد الله من المؤمن أن يعيشه في فكره وشعوره، في كل حالات النصر والنجاح، في حركة الحياة وفي ساحة الصراع، وذلك بأن لا يعتقد في نفسه القوّة الذاتية المستقلّة عن الله، في ما يمدّه به من عناصر القوة، بل يعتقد بأنه يتصرف عن أمره، ويتقلّب في تدبيره، ويتحرك بقوّته، فإذا قتل العدو فإنما يقتله بنصر الله وقوته التي أمده بها، فكأن الله هو الذي قتله؛ وإذا رماه بسهم، فكأن الله رماه، فهو سبحانه الفاعل الحقيقي للأشياء والقوة الحقيقية التي تتحرك بها، لا بمعنى إلغاء الاختيار والإرادة الإنسانية في الفعل، بل بمعنى إلغاء الذاتية المستقلة للإنسان في أعماله، في ما تنطلق به من عوامل القوة. وقد كانت المعركة في بدر مظهراً من مظاهر الإمداد الإلهي الغيبي في ما أثاره الله في أجواء المعركة، وفي مشاعر المسلمين، وفي امتلاء قلوب الكافرين بالرعب، مما جعل من موقف المسلمين فيها موقف قوة، بعد أن كان موقف ضعف في ما كانوا يعانونه من أحوالٍ نفسية أمام قلة العدد والعدة، مما يجعل من اختيارهم ظلاًّ لإرادة الله واختياره بشكل واضحٍ، وهذا ما أراده القرآن في أسلوب التربية القرآنية من ربط الأشياء الصغيرة والكبيرة والسلبية والإيجابية في واقع الكون وفي حركة الحياة والإنسان بالله، لتتأكد من خلال ذلك عقيدة التوحيد الخالص التي لا تتصور شيئاً إلا وتتصور الله معه، لتحس بأن الكون كله هو الظل، وأنّ الله هو النور، وهو الحقيقة، وهو الذي يكفي من كل شيءٍ ولا يكفي منه شيء، وهو على كل شيء قدير... {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا}، في ما يمتحنهم به من النصر الكبير الذي أمدّهم به بلطفه وبقوته. وهذا البلاء الحسن هو الذي يوحي لهم بنعمة الإيمان ودوره في بناء شخصيتهم على أساس العزّة والحرّية، بالإضافة إلى الغنائم التي غنموها، والمكاسب التي حصلوا عليها. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع استغاثتهم ودعواتهم وابتهالاتهم في حالات الشدة، ويعلم ضعفهم وبلواهم وحاجتهم إليه في أوقات الاهتزاز والخوف...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهذه الإِشارة لأجل هدف تربوي، وهو إِزالة الغرور وآثاره، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الانتصارات... لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل، وهذه الموهبة الإِلهية كانت اختبارا لهم جميعاً، وإلاّ أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الانتصار أبداً، فتكون النتيجة سلبية، وذلك بأن يروا عدوهم حقيراً وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الاعتماد على الله. لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة (إنّ الله سميع عليم). أي أنّ الله سمعَ صوت استغاثة النّبي والمؤمنين، واطلع على صدق نياتهم، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيراً، والمراؤون المدعون ينهزمون ويفشلون...