قوله تعالى : { ليشهدوا } ليحضروا ، { منافع لهم } قال سعيد بن المسيب ، و محمد بن علي الباقر : العفو والمغفرة . وقال سعيد بن جبير : التجارة ، وهي رواية ابن زيد عن ابن عباس ، قال : الأسواق . وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة . { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين . قيل : لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها . ويروى عن علي رضي الله عنه : أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق . وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني : الهدايا ، والضحايا ، تكون من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . واختار الزجاج أن الأيام المعلومات : يوم النحر وأيام التشريق ، لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدل على التسمية على نحرها ، ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام . { فكلوا منها } أمر إباحة وليس بواجب ، وإنما قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً ، واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنبأنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال في قصة حجة الوداع : " وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة ، فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر ، فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها " . واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئاً مثل دم التمتع والقران والدم الواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد ، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئاً ، وبه قال الشافعي ، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر ، وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ، ويأكل مما سوى ذلك ، وبه قال أحمد و إسحاق ، وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور ، وعند أصحاب الرأي يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما . قوله عز وجل : { وأطعموا البائس الفقير } يعني : الزمن الفقير الذي لا شيء له والبائس : الذي اشتد بؤسه ، والبؤس شدة الفقر .
وقوله : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال بعضهم : هي التجارة ومنافع الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : هي الأسواق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر بن الحكم ، عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : تجارة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي رزين ، في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : أسواقهم .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جُبير : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : التجارة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق عن سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن واقد ، عن سعيد ، مثله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا سنان ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي رزين : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : الأسواق .
وقال آخرون : هي الأجْر في الاَخرة ، والتجارة في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، وسوار بن عبد الله ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : التجارة ، وما يرضي الله من أمر الدنيا والاَخرة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : الأجر في الاَخرة ، والتجارة في الدنيا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل هي العفو والمغفرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال : العفو .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، قال : قال محمد بن عليّ : مغفرة .
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : عني بذلك : ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يَشْهَد له الموسم ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والاَخرة ، ولم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل ، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت .
وقوله : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أيّامِ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنَ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ يقول تعالى ذكره : وكي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبُدْن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم ، في أيّامٍ مَعْلُومَاتٍ وهنّ أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل . وفي قول بعضهم أيام العَشْر . وفي قول بعضهم : يوم النحر وأيام التشريق .
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك بالروايات ، وبيّنا الأولى بالصواب منها في سورة البقرة ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع غير أني أذكر بعض ذلك أيضا في هذا الموضع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أيّامِ مَعْلُوماتٍ يعني أيام التشريق .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : أيّامٍ مَعْلُوماتٍ يعني أيام التشريق ، عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ يعني البدن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فِي أيّامٍ مَعْلُوماتٍ قال : أيام العشر ، والمعدودات : أيام التشريق .
وقوله : فَكلَوا مِنْها يقول : كلوا من بهائم الأنعام التي ذكرتم اسم الله عليها أيها الناس هنالك . وهذا الأمر من الله جلّ ثناؤه أمر إباحة لا أمر إيجاب وذلك أنه لا خلاف بين جميع الحُجة أن ذابح هديه أو بدنته هنالك ، إن لم يأكل من هديه أو بدنته ، أنه لم يضيع له فرضا كان واجبا عليه ، فكان معلوما بذلك أنه غير واجب . ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك من أهل العلم :
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قوله : فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ قال : كان لا يرى الأكل منها واجبا .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مجاهد ، أنه قال : هي رُخصة : إن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل ، وهي كقوله : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ يعني قوله : فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْترّ .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : فَكُلُوا مِنْها قال : هي رخصة ، فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء في قوله : فَكُلُوا مِنْها قال : هي رخصة ، فإن شاء أكلها وإن شاء لم يأكل .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد ، في قوله : فَكُلُوا مِنْها قال : إنما هي رخصة .
وقوله : وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ يقول : وأطعموا مما تذبحون أو تنحرون هنالك من بهيمة الأنعام من هديكم وبُدْنكم البائسَ ، وهو الذي به ضرّ الجوع والزّمانة والحاجة ، والفقيرَ : الذي لا شيء له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ يعني : الزّمِن الفقير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن رجل ، عن مجاهد : البائِسَ الفَقِيرَ : الذي يمد إليك يديه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : البَائِسَ الفَقِيرَ قال : هو القانع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرِمة ، قال : البائسَ : المضطر الذي عليه البؤس ، والفقير : المتعفّف .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : البائِسَ الذي يبسط يديه .
و «المنافع » في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره ، وقال أبو جعفر محمد بن علي : أراد الأجر و { منافع } الآخرة ، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى : { اسم الله } ، يصح أن يريد بالاسم ها هنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب ، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات ، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام
«إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى »{[8359]} ، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحو والذبح ، وقالوا إن في ذكر «الأيام » دليلاً على أن الذبح في الليل لا يجوز ، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وقال ابن عباس «الأيام المعلومات » هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق ، وقال ابن سيرين : بل أيام العشر فقط ، وقالت فرقة : أيام التشريق ، ذكره القتبي ، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه : بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوماً لا معدوداً واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر { اسم الله } هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره ، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات فتأمل هذا ، يبين لك قصدهم ، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله { معلومات } و { معدودات } [ البقرة : 184 ، آل عمران : 24 ] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال : هي مخصوصات فلتغتنم . وقوله ، { فكلوا } ندب ، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق{[8360]} بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل ، و { البائس } الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها ، يقال : بأس الرجل يبؤس{[8361]} وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقراً ، ومنه قوله عليه السلام ، «لكن البائس سعد بن خولة »{[8362]} ، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة .
قوله { ليشهدوا } يتعلق بقوله { يأتوك } فهو علّة لإتيانهم الذي هو مسبب على التأذين بالحجّ فآل إلى كونه علّة في التأذين بالحجّ .
ومعنى { لِيَشهدوا } ليحضروا منافع لهم ، أي ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم إذ يحصّل كلّ واحد ما فيه نفعه . وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب . فكُني بشهود المنافع عن نيلها . ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين . وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه .
وتنكير { منافع } للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس : لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج ، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحاً في الدنيا بالتعارف والتعامل .
وخُص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . وذلك هو النحر والذبح للهدايا . وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها . وقد بيّنْته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا ، وبيّنه الإسلام بما فيه شفاء .
وحرف { على } متعلّق ب { يذكروا ، } وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة ، أي على الأنعام . وهو على تقدير مضاف ، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها .
و ( ما ) موصولة ، و { من بهيمة الأنعام } بيان لمدلول ( ما ) . والمعنى : ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام . وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأنّ الله رزقهم تلك الأنعام ، وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها ، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم ، ولذلك فرع عليه { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } .
فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه السلام فيكون الخطاب في قوله { فكلوا } لإبراهيم ومن معه .
وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ، إلى الخطاب بذلك في قوله : { فكلوا منها وأطعموا البائس } الخ . على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمورٍ به إبراهيم عليه السلام .
وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا .
ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله : { ثم ليقضوا تفثهم } [ الحج : 29 ] .
ويحتمل أن تكون جملة { فكلوا منها } الخ معترضة مفرّعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريعَ الخبر على الخبر تحذيراً من أن يُمنع الأكل من بعضها .
والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلّق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حجّ البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات } [ البقرة : 203 ] .
والبائس : الذي أصابه البؤس ، وهو ضيق المال ، وهو الفقير ، هذا قول جمع من المفسرين . وفي « الموطأ » : في باب ما يكره من أكل الدواب ، قال مالك : سمعت أن البائس هو الفقير اه . وقلت : من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أنّ الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غيرَ مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد . وعن ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير : الذي تكُون ثيابه نقيّة ووجهه وجه غني .
فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع .