محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ} (28)

{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } أي ليحصلوا منافع لهم دينية ودنيوية { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } أي على ما ملكهم منها ، وذللها لهم ، ليجعلوها هديا وضحايا . قال الزمخشري كنى عن النحر والذبح ، بذكر اسم الله . لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا . وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه – زاد الرازي – وأن يخالف المشركون في ذلك . فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها . فكأنه يبدل تلك الشاة بدل مهجته ، طلبا لمرضاة الله تعالى ، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته . والأيام المعلومات أيام العشر . أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده . أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده . أقوال للأئمة .

قال ابن كثير : ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى : { عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } يعني به ذكر الله عند ذبحها . انتهى .

أقول – لا يبعد أن تكون ( على ) تعليلية ، والمعنى : ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه ، لأجل ما رزقهم من تلك البهم . فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها : ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة . وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم . كقوله سبحانه {[5523]} : { أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللنا لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } والسر في إفراده هذه النعمة ، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه ، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم . إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجمالهم . . فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم ، لما قامت لهم قائمة . لأن أرضهم ليست بذات زرع ، وما هم بأهل صناعة مشهورة ، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة . ومن كانوا كذلك ، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم ، ويشكروه ويعرفوا له حقه . من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره . فالاعتبار بها من ذلك ، موجب للاستكانة لرازقها ، والخضوع له والخشية منه . نظير الآية – على ما ظهر لنا - . قوله تعالى {[5524]} : { فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } هذا أولا . وثانيا قد يقال : إنما أفردت لتتبع بما هو البر الأعظم والخير الأجزل . وهو مواساة البؤساء منها . فإن ذلك من أجل ما يرضيه تعالى ، ويثيب عليه . والله أعلم .

{ فَكُلُوا مِنْهَا } أي من لحومها . والأمر للندب . وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه . وقد ثبت {[5525]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه ، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها .

وعن إبراهيم قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم . فرخص للمسلمين . فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .

قال في ( الإكليل ) والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجبا بإطعام الفقراء . وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب ، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر ، وأباحه أحمد ، إلا من جزاء الصيد والنذر . وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكا بعموم الآية . وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب . لظاهر الأمر . وقوم إلى أن التصدق منها ندب ، وحملوا الأمر عليه . ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به لإطلاق الآية . انتهى .

{ وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ } أي الذي أصابه بؤس أي شدة { الْفَقِيرَ } أي الذي أضعفه الإعسار ، والأمر هنا للوجوب . وقد قيل به في الأول أيضا .


[5523]:(36 يس 71 و72).
[5524]:(106 قريش 3 و4).
[5525]:الحديث انفرد به مسلم. أخرجه في: 15 – كتاب الحج، حديث 147 (طبعتنا) عن جابر بن عبد الله. والحديث في بيان حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مفصلة أتم تفصيل، فيحسن دراسته.