قوله تعالى : { فإن رجعك الله } أي : ردك يا محمد من غزوة تبوك ، { إلى طائفة منهم } ، يعني : من المخلفين . وإنما قال : { طائفة منهم } لأنه ليس كل من تخلف عن غزوة تبوك كان منافقا ، { فاستأذنوك للخروج } ، معك في غزوة أخرى ، { فقل } ، لهم { لن تخرجوا معي أبداً } في سفر ، { ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } ، في غزوة تبوك { فاقعدوا مع الخالفين } ، أي : مع النساء والصبيان ، وقيل مع الزمنى والمرضى . وقال ابن عباس : مع الذين تخلفوا بغير عذر . وقيل : { مع الخالفين } . قال الفراء يقال : صاحب خالف إذا كان مخالفا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ } .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن ردّك الله يا محمد إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه ، فاستأذنوك للخروج معك في أخرى غيرها ، فقل لهم : لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعيَ عَدُوّا إنّكُمْ رَضِيُتمْ بالقُعُودِ أوّلَ مَرّةٍ وذلك عند خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ يقول : فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنكم منهم ، فاقتدوا بهديهم واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله ، فإن الله قد سخط عليكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفر في الحرّ وذلك في غزوة تبوك ، فقال الله : قُلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فأمره الله بالخروج ، فتخلف عنه رجال ، فأدركتهم نفوسهم ، فقالوا : والله ما صنعنا شيئا فانطلق منهم ثلاثة ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أتوه تابوا ثم رجعوا إلى المدينة ، فأنزل الله : فَإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ . . . إلى قوله : وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلَكَ الّذِينَ تَخَلّفُوا » فأنْزَلَ اللّهُ عُذْرَهُمْ لَما تابُوا ، فقال : لَقَدْ تابَ اللّهُ على النّبِيّ والمُهاجِرِينَ والأنْصَارِ . . . إلى قوله : إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ . وقال : إنّه بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ منْهُمْ . . . إلى قوله : فاقْعُدُوا مَعَ الخالفينَ : أي مع النساء . ذُكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، فقيل فيهم ما قيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ والخالفون : الرجال .
قال أبو جعفر : والصواب من التأويل في قوله الخالِفِينَ ما قال ابن عباس . فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء ، فقول لا معنى له لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهنّ رجال بالياء والنون ، ولا بالواو والنون . ولو كان معنيا بذلك النساء ، لقيل : «فاقعدوا مع الخوالف » ، أو «مع الخالفات » ، ولكن معناه ما قلنا من أنه أريد به : فاقعدوا مع مرضى الرجال وأهل زمانتهم والضعفاء منهم والنساء . وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر ، فإن العرب تغلّب الذكور على الإناث ، ولذلك قيل : فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ والمعنى ما ذكرنا . ولو وجّه معنى ذلك إلى : فاقعدوا مع أهل الفساد ، من قولهم : خلف الرجال عن أهله يخلف خلوفا ، إذا فسد ، ومن قولهم : هو خلف سوء كان مذهبا . وأصله إذا أريد به هذا المعنى من قولهم خَلَف اللبن يخَلُف خلوفا إذا خَبُث من طول وضعه في السقاء حتى يفسد ، ومن قولهم : خَلَف فَمُ الصائم : إذا تغيرت ريحه .
{ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين ، أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلا . { فاستأذنوك للخروج } إلى غزوة أخرى بعد تبوك { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدواً } إخبار في معنى النهي للمبالغة . { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و{ أول مرة } هي الخرجة إلى غزوة تبوك . { فاقعدوا مع الخالفين } أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان . وقرئ مع " الخلفين " على قصر { الخالفين } .
الفاء للتفريع على ما آذن به قوله : { قل نار جهنم أشد حراً } [ التوبة : 81 ] إذ فرّع على الغضب عليهم وتهديدهم عقاب آخر لهم ، بإبعادهم عن مشاركة المسلمين في غزواتهم .
وفعل رجع يكون قاصراً ومتعدّياً مرادفاً لأرجع . وهو هنا متعدّ ، أي أرجعك الله .
وجعل الإرجاع إلى طائفة من المنافقين المخلّفين على وجه الإيجاز لأنّ المقصود الإرجاع إلى الحديث معهم في مثل القصة المتحدّث عنها بقرينة قوله : { فاستئذنوك للخروج } ولمّا كان المقصود بيان معاملته مع طائفة ، اختُصر الكلام ، فقيل : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } ، وليس المراد الإرجاع الحقيقي كما جرت عليه عبارات أكثر المفسّرين وجعلوه الإرجاع من سفَر تبوك مع أنّ السورة كلّها نزلت بعد غزوة تبوك بل المراد المجازي ، أي تكرّر الخوض معهم مرّة أخرى .
والطائفة : الجماعة وتقدّمت في قوله تعالى : { يغشى طائفة منكم } في سورة آل عمران ( 154 ) . أو قوله : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) .
والمراد بالطّائفة هنا جماعة من المخلّفين دل عليها قوله : فاستئذنوك للخروج } أي إلى طائفة منهم يبتغون الخروج للغزو ، فيجوز أن تكون هذه الطائفة من المنافقين أرادوا الخروج للغزو طمعاً في الغنيمة أو نحو ذلك . ويجوز أن يكون طائفة من المخلّفين تابوا وأسلموا فاستأذنوا للخروج للغزو . وعلى الوجهين يحتملُ أنّ منعهم من الخروج للخوف من غدرهم إن كانوا منافقين أو لمجرّد التأديب لهم إن كانوا قد تابوا وآمنوا .
وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم صالح للوجهين .
والجمع بين النفي ب { لن } وبين كلمة { أبداً } تأكيد لمعنى لن لانتفاء خروجهم في المستقبل إلى الغزو مع المسلمين .
وجملة : { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } مستأنفة للتعداد عليهم والتوبيخ ، أي إنّكم تحبّون القعود وترضون به فقد زدتُكم منه .
وفعل : { رضيتم } يدلّ على أنّ ما ارتكبوه من القعود عمل من شأنه أن يأباه الناس حتّى أطلق على ارتكابه فعل رَضِي المشعرُ بالمحاولة والمراوضة . جُعلوا كالذي يحاول نفسه على عمل وتأبى حتّى يرضيها كقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] وقد تقدّم ذلك .
وانتصب { أول مرة } هنا على الظرفية لأنّ المرّة هنا لمّا كانت في زمن معروف لهم وهو زمن الخروج إلى تبوك ضمنت معنى الزمان . وانتصاب المصدر بالنيابة عن اسم الزمان شائع في كلامهم ، بخلاف انتصابها في قوله : { وهم بدأوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] وفي قوله : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } [ التوبة : 80 ] كما تقدّم . و { أول مرة } هي غزوة تبوك التي تخلّفوا عنها .
وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة اقتصر على الإفراد والتذكير ولو كان المضاف إليه غير مفرد ولا مذكر لأنّ في المضاف إليه دلالة على المقصود كافية .
والفاء في { فاقعدوا } تفريع على { إنكم رضيتم بالقعود } ، أي لمَّا اخترتم القعود لأنفسكم فاقعدوا الآن لأنّكم تحبّون التخلّف .
و { الخالفين } جمع خالف وهو الذي يخلُف الغازي في أهله وكانوا يتركون لذلك .