اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ} (83)

قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } الآية .

" رَجَعَ " يتعدَّى كهذه الآية الكريمة ، ومصدرُهُ : " الرَّجْع " ، كقوله { والسماء ذَاتِ الرجع } [ الطارق : 11 ] . ولا يتعدَّى ، نحو : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل . والمصدر : الرُّجوعُ ، كالدُّخُولِ .

والمعنى : فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة ، ومعنى " الرجع " مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه ، يقال : رجعته رجعاً ، كقولك : رددته رداً .

وقوله : { إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } إنَّما خصَّصَ ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان بعضهم مخلصين معذورين ، { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } معك في غزوة أخرى { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } في سفر ، { وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم ، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم ؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عليه الصلاة والسلام ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان ، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام ، ونظيره قوله تعالى { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم } [ الفتح : 15 ] { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } [ الفتح : 15 ] ، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ } أي : لأنكم رضيتم { بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ } في غزوة تبوك .

قال أبُو البقاءِ : " أوَّل مرَّةٍ " ظرف . قال أبُو حيَّان{[18010]} " يعني ظرف زمان وهو بعيد " .

قال شهابُ الدِّين{[18011]} " لأنَّ الظَّاهر منصوبةٌ على المصدر . وفي التفسير : أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أول مرَّة من الخروج " .

قال الزمخشريُّ " فإن قلت : " مَرَّةٍ " نكرة ، وضعت موضع المرات ، للتفضيل ، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها ، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ ؟ قلت : أكثرُ اللُّغتين : أن يقال هند أكبرُ النساء ، وهي أكبرهنَّ ، ثم إنَّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا يكادُ يُعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة " .

والمعنى : أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم ؛ فبعد ذلك لا نقبلكم ، ولا نلتفتُ إليكم .

قوله : " مَعَ الخالفين " هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً ب " اقْعُدُوا " ، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حال من فاعل " اقْعُدُوا " . والخَالِفُ : المتخلِّفُ بعد القوم .

قال الأخفشُ ، وأبو عبيده : " الخَالِفُونَ " جمع ، واحدهم " خالف " ، وهو من يخلف الرجل في قومه . والمعنى : مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت ، فلا يبرحون .

وقال الفرَّاءُ : المراد : ب " الخَالِفينَ " " المخالفين " ، يقالُ : عبد خالف ، إذا كان مخالفاً . وقال الأخفشُ : فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم ، وقال الليثُ : يقال هذا رجل خالفةٌ ، أي : مخالف كثير الخلاف ، فإذا جمع قلت : الخالفُونَ . وقال الأصمعيُّ : الخالفُ : هو الفاسد ، يقال : خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً ، إذا فسد ومنه " خُلُوف فَمِ الصَّائمِ " ، والمراد بهم : النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون ؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب . وقال قتادةُ : الخَالِفُونَ : النِّسَاء " {[18012]} وهو مردودٌ ، لأجْلِ الجمع . وقرأ عكرمة ، ومالكُ{[18013]} بن دينارٍ " مَعَ الخَلِفينَ " مَقصُوراً من " الخَالِفِينَ " ؛ كقوله : [ الرجز ]

مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ{[18014]}

وقوله : [ الرجز ]

. . . عَرِدَا *** . . . بَرِدَا{[18015]}

يريد : " الظِّلال " و " عَرِدّا " : بَارِداً .


[18010]:ينظر: البحر المحيط 5/82.
[18011]:ينظر: الدر المصون 3/488.
[18012]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/318).
[18013]:ينظر: الكشاف 2/297، المحرر الوجيز 3/67، الدر المصون 3/488.
[18014]:ينظر: المحتسب 1/181، 299، والخصائص 3/134، واللسان (طلل)، والبحر المحيط 5/83.
[18015]:ينظر: الخصائص 2/365، والمحتسب 1/299، واللسان (برد)، (عرد).