قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به ، واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكورة في الآية فقال قوم : هو ما يسبق إلى اللسان على عجلة لصلة الكلام ، من غير عقد وقصد ، كقول القائل : لا والله وبلى والله وكلا والله . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أنا الشافعي أنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسان ، لا والله وبلى والله ، ورفعه بعضهم وإلى هذا ذهب الشعبي وعكرمة وبه قال الشافعي .
ويروى عن عائشة : أيمان اللغو ما كانت في الهزل والمراء والخصومة ، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وقال قوم : هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك ، وهو قول الحسن ، والزهري وإبراهيم النخعي وقتادة ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقالوا : لا كفارة فيه ولا إثم ، وقال علي : هو اليمين على الغضب ، وبه قال طاووس وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية لا يؤاخذه الله بالحنث فيها ، بل يحنث ويكفر . وقال مسروق : ليس عليه كفارة ، أيكفر خطوات الشيطان ؟ وقال الشعبي في الرجل يحلف على المعصية ، كفارته أن يتوب منها ، وكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة ولو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتم ويستمر على قوله . وقال زيد بن أسلم : هو دعاء الرجل على نفسه تقول لإنسان أعمى الله بصري أن أفعل كذا ، فهذا كله لغو لا يؤاخذه الله به ولو آخذهم به لعجل لهم العقوبة ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) ، وقال ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير ) .
قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } . أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين ، وكسب القلب العقد والنية .
قوله تعالى : { والله غفور رحيم } . واعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه ، أو بصفة من صفاته : فاليمين بالله أن يقول : والذي أعبده ، والذي أصلي له ، والذي نفسي بيده ، ونحو ذلك ، واليمين بأسمائه كقوله : والله والرحمن ونحوه ، واليمين بصفاته كقوله : وعزة الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله ونحوها ، فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل فحنث يجب عليه الكفارة ، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن ، أو على أنه لم يكن وقد كان ، إن كان عالماً به حالة ما حلف فهو اليمين الغموس ، وهو من الكبائر ، ويجب فيه الكفارة عند بعض أهل العلم ، عالماً كان أو جاهلاً ، وبه قال الشافعي ، ولا تجب عند بعضهم وهو قول أصحاب الرأي وقالوا إن كان عالماً فهو كبيرة ولا كفارة لها كما في سائر الكبائر ، وإن كان جاهلاً فهو يمين اللغو عندهم ، ومن حلف بغير الله مثلا ، مثل أن قال : والكعبة وبيت الله ونبي الله ، أو حلف بابيه ونحو ذلك ، فلا يكون يميناً ، فلا يجب عليه الكفارة إذا حلف ، وهي يمين مكروهة ، قال الشافعي : وأخشى أن يكون معصية .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " .
{ لاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِالّلغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلََكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لا يُؤَاخُذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمْ وفي معنى اللغو . فقال بعضهم في معناه : لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة ، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين ، وذلك كقول القائل : فعل هذا والله ، أو أفعله والله ، أو لا أفعله والله ، على سبوق المتكلم بذلك لسانه بما وصل به كلامه من اليمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة عن ابن عباس : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هي بلى والله ، ولا والله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن القاسم ، عن عائشة في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن عائشة نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : سألت عائشة عن لغو اليمين ، قالت : هو لا والله ، وبلى والله ، ما يتراجع به الناس .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قول الله لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : لا والله ، وبلى الله ، يصل بها كلامه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها : يا أمّ المؤمنين قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : هو لا والله ، وبلى والله ، ليس مما عقدتم الأيمان .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، قال : أتيت عائشة مع عبيد بن عمير ، فسألها عبيد عن قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ فقالت عائشة : هو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، ما لم يعقد عليه قلبه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثبير ، فسألها عبيد عن لغو اليمين ، فقالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا محمد بن موسى الحرسي ، قال : حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني ، قال : حدثنا إبراهيم الصائغ ، عن عطاء في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هُوَ قَوْلُ الرّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلاّ وَاللّهِ وَبَلى وَاللّهِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : هم القوم يتدارءون في الأمر ، فيقول هذا : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله ، يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، يصل به كلامه ليس فيه كفارة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا المغيرة ، عن الشعبي ، قال : هو الرجل يقول : لا والله ، وبلى والله ، يصل حديثه .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : سألت عامرا عن قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو لا والله ، وبلى والله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي جميعا ، عن ابن عون ، عن الشعبي مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، قال : قال أبو قلابة في «لا والله وبلى والله » : أرجو أن يكون لغة .
وقال يعقوب في حديثه : أرجو أن يكون لغوا . وقال ابن وكيع في حديثه : أرجو أن يكون لغة ، ولم يشك .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد ، قالوا : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، قال : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن مالك ، عن عطاء ، قال : سمعت عائشة تقول في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو قول الناس : لا والله وبلى والله .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الشعبي وعكرمة قالا : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو ، عن عطاء ، قال : دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة ، فسألها ، فقالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن ابن أبي ليلى وأشعث ، عن عطاء ، عن عائشة : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وجرير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن وكيع وهناد ، قالا : حدثنا يعلى ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : قالت عائشة في قول الله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قالت : هو قولك : لا والله ، وبلى والله ، ليس لها عقد الأيمان .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ قال : اللغو : قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، يصل به كلامه ما لم يشكّ شيئا يعقد عليه قلبه .
حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو أن سعيد بن أبي هلال حدثه أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول : سمعت عائشة تقول : لغو اليمين قول الرجل : لا والله ، وبلى والله فيما لم يعقد عليه قلبه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عمرو : وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي ، عن عطاء ، عن عائشة ، بذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : الرجلان يتبايعان ، فيقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا وكذا ، ويقول الاَخر : والله لا أشتريه بكذا وكذا فهذا اللغو لا يؤاخذ به .
وقال آخرون : بل اللغو في اليمين : اليمين التي يحلف بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه ثم يتبين غير ذلك وأنه بخلاف الذي حلف عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرني ابن نافع ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، عن أبي هريرة أنه كان يقول : لغو اليمين : حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه ، فإذا هو غير ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ واللغو : أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقا وليس بحق .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح : قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ هذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله ، فيرى الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير . ومن اللغو أيضا : أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق وقد أخطأ في يمينه ، فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن سليمان بن يسار في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : خطأ غير عمد .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن في هذه الآية : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك فلا يؤاخذه الله ولا كفارة ، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا وكيع ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، قال : هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنه كما حلف .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الحسن : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك ، وليست كذلك .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على الشيء ، وهو يرى أنه كذلك ، فلا يكون كما قال فلا كفارة عليه .
حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع ، قالوا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف عليه ، وليست كذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح في قول الله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ حلف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه فلا يكون كما حلف ، كقوله : إن هذا البيت لفلان وليس له ، وإن هذا الثوب لفلان وليس له .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه فلا يكون كذلك ، قال : فلا يؤاخذ بذلك . قال : وكان يحبّ أن يكفر .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا الجعفي ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : قال إبراهيم : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب ، فذلك اللغو لا يؤاخذ به .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم نحوه ، إلا أنه قال : إن حلفت على الشيء وأنت ترى أنك صادق وليس كذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو إدريس ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك أنه قال : اللغو : الرجل يحلف على الأيمان ، وهو يرى أنه كما حلف .
حدثني إسحاق بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن زياد ، قال : هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : حدثنا بكير بن أبي السميط ، عن قتادة في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الخطأ غير العمد ، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ويونس ، عن الحسن قال : اللغو : الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك فليس عليه فيه كفارة .
حدثنا هناد وابن وكيع قال هناد : حدثنا وكيع وقال ابن وكيع : حدثني أبي ، عن عمران بن حدير قال : سمعت زرارة بن أوفى قال : هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عمر بن بشير ، قال : سئل عامر عن هذه الآية : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : اللغو : أن يحلف الرجل لا يألو عن الحقّ فيكون غير ذلك ، فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ فاللغو : اليمين الخطأ غير العمد ، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه ثم لا يكون كذلك ، فهذا لا كفارة عليه ، ولا مأثم فيه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ أما اللغو : فالرجل يحلف على اليمين ، وهو يرى أنها كذلك فلا تكون كذلك ، فليس عليه كفارة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : اللغو : اليمين الخطأ في غير عمد أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه ، وهذا ما ليس عليه فيه كفارة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق ، فذلك اللغو .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين عن أبي مالك مثله ، إلا أنه قال : الرجل يحلف على الأمر ، يرى أنه كما حلف عليه فلا يكون كذلك ، فليس عليه فيه كفارة ، وهو اللغو .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن يحيى بن سعيد ، وعن ابن أبي طلحة كذا قال ابن أبي جعفر قالا : من قال : والله لقد فعلت كذا وكذا وهو يظن أن قد فعله ، ثم تبين أنه لم يفعله ، فهذا لغو اليمين ، وليس عليه فيه كفارة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن الحسن في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الخطأ غير العمد ، كقول الرجل : والله إن هذا لكذا وكذا وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك . قال معمر : وقاله قتادة أيضا .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو ، قال : سئل سعيد عن اللغو في اليمين ، قال سعيد وقال مكحول : الخطأ غير العمد ، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن مكحول أنه قال : اللغو الذي لا يؤاخذ الله به : أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق ، فإذا هو فيه غير ذلك ، فليس عليه فيه كفارة ، وقد عفا الله عنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق وهو كاذب ، فلا يؤاخذ به ، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به .
وقال آخرون : بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم ، ولكن وُصْلَةً للكلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن خالد ، عن عطاء ، عن وسيم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لغو اليمين : أن تحلف وأنت غضبان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن طاوس ، قال : كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها ، قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ وعلة من قال هذه المقالة ما :
حدثني به أحمد بن منصور المروزي ، قال : حدثنا عمر بن يونس اليمامي ، قال : حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لاَ يمِينَ فِي غَضَبٍ » .
وقال آخرون ، بل اللغو في اليمين : الحلف على فعل ما نهى الله عنه ، وترك ما أمر الله بفعله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الذي يحلف على المعصية ، فلا يفي ويكفر يمينه قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ .
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن جبير ، قال : لغو اليمين أن يحلف الرجل على المعصية لله لا يؤاخذه الله بإيفائها .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن سعيد بن جبير بنحوه ، وزاد فيه : قال : وعليه كفارة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون ، عن داود ، عن سعيد بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن جبير : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله بتركها .
حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند ، قال : حدثنا خالد بن إلياس ، عن أمّ أبيه : أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها ابنة أبي الجهم ، فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير ، فقالوا : لا يمين في معصية ، ولا كفارة عليها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها . قلت : فكيف يصنع ؟ قال : يكفر عن يمينه ويترك المعصية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو الرجل يحلف على الحرام ، فلا يؤاخذه الله بتركه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود ، عن سعيد بن جبير ، قال في لغو اليمين ، قال : هي اليمين في المعصية ، قال : أو لا تقرأ فتفهم ؟ قال الله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمْ الأيمَانَ قال : فلا يؤاخذه بالإيفاء ، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها ، قال : وقال لاَ تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ . . . إلى قوله : وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله بتركها ويُكَفّر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن مسروق في الرجل يحلف على المعصية ، فقال : أيكفر خطوات الشيطان ؟ ليس عليه كفارة .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثل ذلك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبي في الرجل يحلف على المعصية قال : كفارتها أن يتوب منها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الشعبي أنه كان يقول : يترك المعصية ولا يكفر ، ولو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتمّ على قوله .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، عن عامر ، عن مسروق قال : كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها فليس فيها كفارة .
وعلة من قال هذا القول من الأثر ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن الوليد بن كثير ، قال : ثني عبد الرحمن بن الحرث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ نَذَرَ فِيما لا يَمْلِكُ فَلا نَذْرَ لَهُ ، وَمَنْ حَلَفَ على مَعْصِيَةٍ اللّهِ فَلاَ يَمِينَ لَهُ ، وَمَنْ حَلَفَ على قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ » .
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن حارثة بن محمد ، عن عمرة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ على يَمِينِ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أوْ مَعْصِيَةٍ لِلّهِ فَبِرّهُ أنْ يَحْنَثَ بِهَا وَيَرْجِعَ عَنْ يَمِينِهِ » .
وقال آخرون : اللغو من الأيمان : كل يمين وصل الرجل بها كلامه على غير قصد منه إيجابَها على نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا حماد ، عن إبراهيم ، قال : لغو اليمين : أن يصل الرجل كلامه بالحلف ، والله ليأكلنّ ، والله ليشربنّ ، ونحو هذا لا يتعمد به اليمين ولا يريد به حلفا ، ليس عليه كفارة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن حماد ، عن إبراهيم : لغو اليمين : ما يصل به كلامه : والله لتأكلنّ ، والله لتشربن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مجاهد : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هما الرجلان يتساومان بالشيء ، فيقول أحدهما : والله لا أشتريه منك بكذا ، ويقول الاَخر : والله لا أبيعك بكذا وكذا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالت : أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب .
وعلة من قال هذا القول من الأثر ما :
حدثنا به محمد بن موسى الحرسي ، قال : حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي ، قال : حدثنا عوف الأعرابي ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون يعني يرمون ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم ، فقال : أصبت والله وأخطأت فقال الذي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، قال : «كَلاّ أيمَانُ الرّماةِ لَغْوٌ لا كَفّارَةَ فِيها وَلا عُقُوبَةَ » .
وقال آخرون : اللغو من الأيمان : ما كان من يمين بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه إن لم يفعل كذا وكذا ، أو بمعنى الشرك والكفر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا إسماعيل بن مرزوق ، عن يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم في قول الله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : هو كقول الرجل : أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا ، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا . فهو هذا ، ولا يترك الله له مالاً ولا ولدا . يقول : لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئا .
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا إسماعيل ، قال : ثني يحيى بن أيوب ، عن عمرو بن الحارث ، عن زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا إسماعيل بن مرزوق ، قال : ثني يحيى بن أيوب أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ مثل قول الرجل : هو كافر وهو مشرك . قال : لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : اللغو في هذا : الحلف بالله ما كان بالألسن فجعله لغوا ، وهو أن يقول : هو كافر بالله ، وهو إذن يشرك بالله ، وهو يدعو مع الله إلها . فهذا اللغو الذي قال الله في سورة البقرة .
وقال آخرون : اللغو في الأيمان : ما كانت فيه كفارة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله ، فيرى الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير .
حدثني يحيى بن جعفر ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال : اليمين المكفرة .
وقال آخرون : اللغو من الأيمان : هو ما حنث فيه الحالف ناسيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرني مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه يعني في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ .
قال أبو جعفر : واللغو من الكلام في كلام العرب كل كلام كان مذموما وفعلاً لا معنى له مهجورا ، يقال منه : لغا فلان في كلامه يلغو لغوا : إذا قال قبيحا من الكلام ، ومنه قول الله تعالى ذكره : وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقوله : وَإذَا مَرّوا باللّغْوِ مَرّوا كِرَاما ومسموع من العرب لغيت باسم فلان ، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح . فمن قال لغيت ، قال ألْغَى لَغا ، وهي لغة لبعض العرب ، ومنه قول الراجز :
وَرُبّ أسْرابِ حجيجٍ كُظّمِ *** عَنِ اللّغا ورفَثِ التّكلمِ
فإذا كان اللغو ما وصفت ، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل ولقد فعلت كذا وما فعل ، واصلاً بذلك كلامه على سبيل سبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه ، ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام ، والقائل : والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال ، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به ، والقائل : ليفعلنّ كذا والله ، أو لا يفعل كذا والله ، على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام ، وسبوق اللسان للعادة ، على غير تعمد حلف على باطل ، والقائل هو مشرك أو هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا ، أو إن فعل كذا من غير عزم على كفر ، أو يهودية أو نصرانية جميعهم قائلون هُجْرا من القول ، وذميما من المنطق ، وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبهم . كان معلوما أنهم لغاة في أيمانهم لا تلزمهم كفارة في العاجل ، ولا عقوبة في الاَجل لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عباده بما لغوا من أيمانهم ، وأن الذي هو مؤاخذهم به ما تعمدت فيه الإثم قلوبهم . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَنْ حَلَفَ على يمينٍ فرأى غيرَها خيرا مِنْها فَلْيأتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفّرْ عَنْ يَمِينِهِ » فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه ، وكانت الغرامة في المال أو إلزام الجزاء من المجزيّ أبدال الجازين ، لا شك عقوبة كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالاً لخلقه فيما تعدّوا من حدوده ، وإن كان يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه كان بينا أن من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنث فيه ، وإن كانت كفارة لذنبه فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها ، وإن كان ما عجل من عقوبته إياه على ذلك مسقطا عنه عقوبته في آجله . وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها ، فغير جائز لقائل أن يقول : وقد واخذه بها هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله ، فإذ كان ذلك غير جائز ، فبين فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال : اللغو : الحلف على المعصية ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن على الحالف ، على معصية الله كفارة بحنثه في يمينه ، وفي إيجاب سعيد عليه الكفارة دليل واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ لما وصفنا : من أن من لزمه الكفارة في يمينه فليس ممن لم يؤاخذ بها .
فإذا كان اللغو هو ما وصفنا مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به ، وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه فيها الكفارة في العاجل ، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبة عليها في الاَجل ، وإن كان وضع عنه كفارتها في العاجل ، فهي مما كسبته قلوب الحالفين ، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين ، وما عدا ذلك فهو اللغو وقد بينا وجوهه .
فتأويل الكلام إذًا : لا تجعلوا الله أيها المؤمنون عرضة لأيمانكم ، وحجة لأنفسكم في أقسامكم في أن لا تبرّوا ، ولا تتقوا ، ولا تصلحوا بين الناس ، فإن الله لا يؤاخذكم بما لغته ألسنتكم من أيمانكم ، فنطقت به من قبيح الأيمان وذميمها ، على غير تعمدكم الإثم وقصدكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عقد الأيمان التي حلفتم بها ، ولكنه إِنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم ، وعزمتم على الإتمام على ما حلفتم عليه بقصد منكم وإرادة ، فيلزمكم حينئذ إما كفارة في العاجل ، وإما عقوبة في الاَجل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عباده أنه مؤاخذهم به بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله : بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ما تعمدت . فقال بعضهم : المعنى الذي أوعد الله عباده مؤاخذتهم به هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب ، فلا يؤاخذ بها ، وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا حسين الجعفي عن زائدة ، عن منصور ، قال : قال إبراهيم : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ قال : أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَلَكِنْ يُؤاخُذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أن تحلف وأنت كاذب .
3حدثني المثنى ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمْ الأيمَانَ وذلك اليمين الصبر الكاذبة ، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة . فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم ، أو يردّ ذلك المال إلى أهله ، وهو قوله تعالى ذكره : إنّ الّذِين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيمَانِهِمْ ثَمنَا قَلِيلاً إلى قوله : وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ما عقدت عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : لا تؤاخذ حتى تقصد الأمر ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو فتعقد عليه يمينك .
والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلوبُكُمْ في الاَخرة بما شاء من العقوبات ، وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو . وكذلك روي عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوا . فأما ما كسبته القلوب ، وعقدت فيه على الإثم ، فلم يكن يوجب فيه الكفارة . وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل .
وإذ كان ذلك تأويل الآية عندهم ، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة : لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم ، واحفظوا أيمانكم .
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون ، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفا .
وقال آخرون : المعنى الذي أوعد الله تعالى عباده المؤاخذة به بهذه الآية هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلاً ، وبذلك أوجب الله عندهم الكفارة دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطىء في حلفه يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف وليس ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يقول : بما تعمدت قلوبكم ، وما تعمدت فيه المأثم ، فهذا عليك فيه الكفارة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله سواء .
وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل مؤاخذة الله عبده على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة ، إلى أنها مؤاخذة منه له بإلزامه الكفارة فيه . وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر في إيجاب الكفارة على الحالف اليمين الفاجرة ، منهم عطاء والحكم .
حدثنا أبو كريب ويعقوب ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبا متعمدا : يكَفّر .
وقال آخرون : بل ذلك معنيان : أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارة منه ، والاَخر منهما مؤاخذ به في الاَخرة ، إلا أن يعفو . ذكر من قال ذلك :
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلَكِنْ يُؤَاخُذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أما ما كسبت قلوبكم : فما عقدت قلوبكم ، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة إرادة أن يقضي أمره . والأيمان ثلاثة : اللغو ، والعمد ، والغموس ، والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل ثم يرى خيرا من ذلك ، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمْ الأيمَانَ فهذه لها كفارة .
وكأن قائل هذه المقالة وجه تأويل قوله : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ إلى غير ما وجه إليه تأويل قوله : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأيمَانَ وجعل قوله : بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبِكُمْ الغموس من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل ، وقوله : بِمَا عَقّدْتُمْ الأيمَانَ اليمين التي يستأنف فيها الحنث أو البرّ ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرّ فيها .
وقال آخرون : بل ذلك هو اعتقاد الشرك بالله والكفر . ذكر من قال ذلك :
3حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا إسماعيل بن مرزوق ، قال : ثني يحيى بن أيوب ، عن محمد ، يعني ابن عجلان ، أن يزيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم مثل قول الرجل : هو كافر ، هو مشرك ، قال : لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه .
3حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لا يُؤَاخِذُكُمْ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ قال : اللغو في هذا : الحلف بالله ما كان بالألسن فجعله لغوا ، وهو أن يقول : هو كافر بالله ، وهو إذًا يشرك بالله ، وهو يدعو مع الله إلها ، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في سورة البقرة : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم قال : بما كان في قلوبكم صدقا وَاخَذَك به ، فإن لم يكن في قلبك صدقا لم يواخذك به ، وإن أثمت .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان ، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان ، هو ما قصدته ، وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده ، وذلك يكون منها على وجهين :
أحدهما على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثما وبفعله مستحقا المؤاخذة من الله عليها ، وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله ، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله ، قاصدا لقيل الكذب ، وذاكرا أنه قد فعل ما حلف عليه أنه لم يفعله ، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل ، فيكون الحالف بذلك إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله في مشيئة الله يوم القيامة إن شاء واخذه به في الاَخرة ، وإن شاء عفا عنه بتفضله ، ولا كفارة عليه فيها في العاجل ، لأنها ليست من الإيمان التي يحنث فيها ، وإنما الكفارة تجب في الأيمان بالحنث فيها ، والحالف الكاذب في يمينه ليست يمينه مما يتبدأ فيه الحنث فتلزم فيه الكفارة .
والوجه الاَخر منهما : على وجه العزم عل إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك ، فذلك مما لا يواخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه ، فإذا حنث فيه بعد حلفه كان مواخذا بما كان اكتسبه قلبه من الحلف بالله على إثم وكذب في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارة لذنبه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بذلك : والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها ، ولو شاء واخذهم بها ، ولما واخذهم بها فكفروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه ، ولو شاء واخذهم في آجل الاَخرة بالعقوبة عليه ، فساتر عليهم فيها ، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها وغير ذلك من ذنوبهم . حليم في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبة على معاصيهم .
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام غيره ، ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان ، أو تكلم به جاهلا لمعناه كقول العرب : لا والله وبلى والله ، لمجرد التأكيد لقوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه ، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الإيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم . وقال أبو حنيفة : اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب ، والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان ، ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه . { والله غفور } حيث لم يؤاخذ باللغو { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 225 )
{ اللغو } سقط الكلام الذي لا حكم له ، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الإيمان ، تشبيهاً بالسقط من القول ، يقال منه لغا يلغو لغواً ولغى يلغي لغياً ، ولغة القرآن بالواو( {[2137]} ) ، والمؤاخذة هي التناول بالعقوبة ، واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو( {[2138]} ) ، فقال ابن عباس وعائشة وعامر الشعبي وأبو صالح ومجاهد : لغو اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة : لا والله ، وبلى والله ، دون قصد لليمين( {[2139]} ) ، وروي أن قوماً تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فحلف أحدهم : لقد أصبت وأخطأت يا فلان ، فإذا الأمر بخلافه ، فقال رجل : حنث يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أيمان الرماة لغو لا إثم فيها ولا كفارة »( {[2140]} ) ، وقال أبو هريرة وابن عباس أيضاً والحسن ومالك بن أنس وجماعة من العلماء : لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه فكشف الغيب خلاف ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا اليقين هو غلبة ظن أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزاً ، قال مالك : «مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا يشك ، فيحلف ، ثم يجيء غير المحلوف عليه » ، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله وعروة ابنا الزبير : لغو اليمين الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر أو ليقطعن الحرم ، فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه ، وقال سعيد بن جبير مثله ، إلا أنه قال : يكفر ، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغواً ، وقال ابن عباس أيضاً وطاوس : لغو اليمين الحلف في حال الغضب ، وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يمين في غضب »( {[2141]} ) ، وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء : لغو اليمين أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، أو الحلال عليَّ حرام ، وقال بهذا القول مالك بن أنس إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه( {[2142]} ) ، وقال زيد بن أسلم وابنه : لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغِيَة( {[2143]} ) إن فعل كذا ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : لغو اليمين هو المكفرة( {[2144]} ) ، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغواً ، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير ، وقال إبراهيم النخعي : «لغو اليمين ما حنث فيه الرجل ناسياً »( {[2145]} ) ، وحكى ابن عبد البر قولاً إن اللغو أيمان المكره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وطريقة النظر أن يتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب ، ويحكم موقعهما في اللغة ، فكسب المرء ما قصده ونواه ، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط ، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها ، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذاة بالإطلاق في اللغو ، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة ، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة ، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة ، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة ، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة ، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها ، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم .
وقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } قال ابن عباس والنخعي وغيرهما : ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس ، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة ، والكفارة إنما هي فيما يكون لغواً إذا كفر ، وقال مالك وجماعة من العلماء : الغموس لا تكفر ، هي أعظم ذنباً من ذلك ، وقال الشافعي وقتادة وعطاء والربيع : اليمين الغموس تكفر ، والكفارة مؤاخذة ، والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وكذلك اليمين المصبورة : المعنى فيهما واحد ، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم ، المصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي( {[2146]} ) ، وقال زيد بن أسلم : قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } هو في الرجل يقول هو مشرك إن فعل ، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه ، و { غفور حليم } صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة ، إذ هو باب رفق وتوسعة .
استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية ، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن . ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلتَ قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] نهياً عن الحلف .
والمؤاخذة مفاعلة من الأَخذ بمعنى العد والمحاسبة ، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه أو يعاقبه ، قال كعب بن زهير :
لا تأخُذَنِّي بأَقْوال الوْشاةِ ولم *** أُذْنِبْ وإِنْ كَثُرَتْ فيَّ الأَقَاوِيل
فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين . والمؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث ؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث ، إلاّ ما أذن الله في كفّارته ، كما في آية سورة العقود .
واللغو مصدر لغا إذا قال كلاماً خَطَئاً ، يقال : لغا يلغُو لغواً كسعا ، ولغا يلغْى لَغْياً كسَعى . ولغة القرآن بالواو . وفي « اللسان » : « أنه لا نظير له إلاّ قولهم أسوته أسواً وأَسى أصلحتُه » وفي الكواشي : « ولغا يلغو لغواً قال باطلاً » ، ويطلق اللغو أيضاً على الكلام الساقط ، الذي لا يعتد به ، وهو الخطأ ، وهو إطلاق شائع . وقد اقتصر عليه الزمخشري في « الأساس » ولم يجعله مجازاً ؛ واقتصر على التفسير به في « الكشاف » وتبعه متابعوه .
و ( في ) للظرفية المجازية المراد بها الملابسة ، وهي ظرف مستقر ، صفة اللغو أو حال منه ، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى على جعل اللغو بمعنى المصدر ، وهو الأظهر : لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغواً ملابساً للأيمان ، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو ، أي غير المقصود من القول . فإذا جعلتَ اللغو اسماً بمعنى الكلام الساقط الخاطىء ، لم تصح ظرفيته في الأيمان ، لأنه من الأيمان ، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم ، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو ، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو .
والأيمان جمع يمين ، واليمين القسم والحلف ، وهو ذكر اسم الله تعالى ، أو بعض صفاته ، أو بعض شؤونه العليا أو شعائره . فقد كانت العرب تحلف بالله ، وبرب الكعبة ، وبالهدي ، وبمناسك الحج . والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة : الواو والباء والتاء ، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت ، وربما حلفوا بدماء البدن ، وربما قالوا والدماءِ ، وقد يدخلون لاماً على عَمْر الله ، يقال : لَعَمْرُ الله ، ويقولون : عمرَك الله ، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام . فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل ، أو براءة من حق . وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام ، كقولهم وأبيك ولَعَمْرك ولعمري ، ويحلفون بآبائهم ، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله . ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسِم ليُلجىء نفسه إلى عمله ولا يندم عنه ، وهو من قبيل قسم النذر ، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه ، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه ، أكده بالقسم ، قال بلعاء بن قيس :
وفارسٍ في غِمار المَوْت منغَمِس *** إذَا تَأَلَّى على مَكْروهَةٍ صَدَقَا
( أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة ) فصار نطقهم باليمين مؤذناً بالغرم ، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأْكيد ونحوه ، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف ، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر ، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيِّر :
قليل الألايى حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّة بَرَّتِ
فأشبهه جريانُ الحلف على اللسان اللغوَ من الكلام .
وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية ، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان ، لم يقصد المتكلم بها الحلف ، ولكنها جرت مجرى التأكيد أو التنبيه ، كقول العرب : لا والله ، وبلى والله . وقول القائل : والله لقد سمعت من فلان كلاماً عجباً ، وغير هذا ليس بلغو ، وهذا قول عائشة ، رواه عنها في « الموطأ » و« الصِّحاح » ، وإليه ذهب الشعبي ، وأبو قِلابة ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح ، وأخذ به الشافعي ، والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيماً للتي كسبها القلب في هذه الآية ، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله : { ولكن يؤاخذكم بما } [ المائدة : 89 ] فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب ؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبيِّن ، فيحمل عليه مجمل { ما عقدتم } ، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف ، وهي التي تجري على اللسان دون قصد ، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة ؛ لأن نفي الفعل يعم ، فاليمين التي لا قصد فيها لا إثم ولا كفارة عليها ، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة ؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } [ المائدة : 89 ] فيكون في الغموس ، وفي يمين التعليق ، وفي اليمين على الظن ، ثم يتبين خلافه ، الكفارة في جميع ذلك .
وقال مالك : « لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبيّن خلاف ظنه » قال في « الموطأ » : « وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك » وهو مروي في غير « الموطأ » ، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن وإبراهيم وقتادة والسدي ومكحول وابن أبي نجيح . ووجهه من الآية : أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين ، ولا تكون المؤاخذة إلاّ على الحنث لا أصل القسم ؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر ، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث ، فهو الذي فيه المؤاخذة ، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية ، وبينت في آية المائدة بالكفارة ، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث ، فهو اللغو ، فلا مؤاخذة فيه ، أي لا كفارة وأما قول الرجل : لا والله وبلى والله ، وهو كاذب ، فهو عند مالك قسم ليس بلغو ، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق ، والقائل : « لا والله » كاذباً ، لم يتبين حنثه له بعد اليمين ، بل هو غافل عن كونه حالفاً ، فإذا انتبه للحلف وجبت عليه الكفارة ، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث .
وإنما جعلنا تفسير ( ما كسبت قلوبكم ) كسب القلب للحنث ، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] ، إما إذن في الحنث ، أو نهي عن الحلف خشية الحنث ، على الوجهين الماضيين ، وقوله : { لا يؤاخذكم الله } بيان وتعليل لذلك ، وحكم البيان حكم المبين ، لأنه عينه .
وقال جماعة : اللغو ما لم يقصد به الكذب ، فتشمل القسمين ، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في لا والله وبلى والله كان بقصد مع اعتقاد الصدق فتبين خلافه . وممن قال بهذا ابن عباس والشعبي وقال به أبو حنيفة ، فقال : اللغو لا كفارة فيها ولا إثم . واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا ، مقابلاً لما كسبته القلوب ، ونفى المؤاخذة عن اللغو وأثبتها لما كسبه القلب ، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف ، فاللغو هي التي لا حنث فيها ؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضاً حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال : إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلاً لما كسبه القلب ، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس ، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها ، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب ، أريد به الغموس ؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلاً للأيمان المعقودة .
والعقد في الأصل : الربط ، وهو معناه لغة ، وقد أضافه إلى الأيمان ، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق ، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله : { فكفارته إطعام } [ المائدة : 89 ] الخ ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس ، والمنعقدة ، وهو نوعان لا محالة ، وظهر حكم الغموس ، وهي الحلف بتعمد الكذب ، فهو الإثم ، وحكم المنعقدة أنه الكفارة ، فوافق مالكاً في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو ، وهذا تحقيق مذهبه . وفي اللغو غير هذه المذاهب مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة ، لا نطيل بها .
وقوله : { والله غفور حليم } تذييل لحكم نفي المؤاخذة ، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم ، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى ، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم ، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه ، ولا يغضب للغفلة ، ويقبل المعذرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}: وهو الرجل يحلف على أمر يرى أنه فيه صادق وهو مخطئ، فلا يؤاخذه الله بها، ولا كفارة عليه فيها، فذلك العفو.
{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}: يعني بما عقدت قلوبكم من المأثم، يعني اليمين الكاذبة التي حلف عليها، وهو يعلم أنه فيها كاذب، فهذه فيها كفارة،
{والله غفور}: إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها. {حليم} حين لا يوجب فيها الكفارة...
قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا، أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستقين أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"لا يُؤَاخُذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمْ" وفي معنى اللغو؛ فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين، وذلك كقول القائل: فعل هذا والله، أو أفعله والله، أو لا أفعله والله، على سبوق المتكلم بذلك لسانه بما وصل به كلامه من اليمين... عن ابن عباس: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ "قال: هي بلى والله، ولا والله... ما لم يعقد عليه قلبه.
حدثنا محمد بن موسى الحرسي، قال: حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، قال: حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ قَوْلُ الرّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلاّ وَاللّهِ وَبَلى وَاللّهِ».
وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: اليمين التي يحلف بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك وأنه بخلاف الذي حلف عليه. عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به: أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه.
وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلَةً للكلام... عن طاوس، قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها، قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ"، وعلة من قال هذه المقالة ما:
حدثني به أحمد بن منصور المروزي، قال: حدثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يمِينَ فِي غَضَبٍ».
وقال آخرون، بل اللغو في اليمين: الحلف على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله... عن سعيد بن جبير، قال: لغو اليمين أن يحلف الرجل على المعصية لله لا يؤاخذه الله بإيفائها.
وعلة من قال هذا القول من الأثر ما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، قال: ثني عبد الرحمن بن الحرث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَذَرَ فِيما لا يَمْلِكُ فَلا نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ على مَعْصِيَةٍ اللّهِ فَلاَ يَمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ على قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ».
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصل الرجل بها كلامه على غير قصد منه إيجابَها على نفسه... عن إبراهيم، قال: لغو اليمين: أن يصل الرجل كلامه بالحلف، والله ليأكلنّ، والله ليشربنّ، ونحو هذا لا يتعمد به اليمين ولا يريد به حلفا، ليس عليه كفارة.
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: ما كان من يمين بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر... كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا. فهو هذا، ولا يترك الله له مالاً ولا ولدا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئا.
وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة... عن ابن عباس قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْو فِي أيمَانِكُمُ" فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير.
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيا.
واللغو من الكلام في كلام العرب كل كلام كان مذموما وفعلاً لا معنى له مهجورا، يقال منه: لغا فلان في كلامه يلغو لغوا: إذا قال قبيحا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: "وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ" وقوله: "وَإذَا مَرّوا باللّغْوِ مَرّوا كِرَاما" ومسموع من العرب لغيت باسم فلان، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح.
فإذا كان اللغو ما وصفت، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل ولقد فعلت كذا وما فعل، واصلاً بذلك كلامه على سبيل سبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام، والقائل: والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به، والقائل: ليفعلنّ كذا والله، أو لا يفعل كذا والله، على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام، وسبوق اللسان للعادة، على غير تعمد حلف على باطل، والقائل هو مشرك أو هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا، أو إن فعل كذا من غير عزم على كفر، أو يهودية أو نصرانية جميعهم قائلون هُجْرا من القول، وذميما من المنطق، وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبهم. كان معلوما أنهم لغاة في أيمانهم لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الاَجل لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عباده بما لغوا من أيمانهم، وأن الذي هو مؤاخذهم به ما تعمدت فيه الإثم قلوبهم. وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ على يمينٍ فرأى غيرَها خيرا مِنْها فَلْيأتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفّرْ عَنْ يَمِينِهِ» فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامة في المال أو إلزام الجزاء من المجزيّ أبدال الجازين، لا شك عقوبة كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالاً لخلقه فيما تعدّوا من حدوده، وإن كان يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه كان بينا أن من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجل من عقوبته إياه على ذلك مسقطا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغير جائز لقائل أن يقول: وقد واخذه بها هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله، فإذ كان ذلك غير جائز، فبين فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال: اللغو: الحلف على المعصية، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن على الحالف، على معصية الله كفارة بحنثه في يمينه، وفي إيجاب سعيد عليه الكفارة دليل واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ لما وصفنا: من أن من لزمه الكفارة في يمينه فليس ممن لم يؤاخذ بها.
فإذا كان اللغو هو ما وصفنا مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به، وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه فيها الكفارة في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبة عليها في الاَجل، وإن كان وضع عنه كفارتها في العاجل، فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين، وما عدا ذلك فهو اللغو وقد بينا وجوهه.
فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون عرضة لأيمانكم، وحجة لأنفسكم في أقسامكم في أن لا تبرّوا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لغته ألسنتكم من أيمانكم، فنطقت به من قبيح الأيمان وذميمها، على غير تعمدكم الإثم وقصدكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عقد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إِنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمام على ما حلفتم عليه بقصد منكم وإرادة، فيلزمكم حينئذ إما كفارة في العاجل، وإما عقوبة في الاَجل.
"وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ".
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله: "وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" عباده أنه مؤاخذهم به بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله: "بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ": ما تعمدت؛ فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عباده مؤاخذتهم به هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل... والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره: "وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلوبُكُمْ" في الاَخرة بما شاء من العقوبات، وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوا. فأما ما كسبته القلوب، وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجب فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل.
وإذ كان ذلك تأويل الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم، واحفظوا أيمانكم.
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون.
وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عباده المؤاخذة به بهذه الآية هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلاً، وبذلك أوجب الله عندهم الكفارة دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف وليس ذلك كذلك... وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل مؤاخذة الله عبده على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذة منه له بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر في إيجاب الكفارة على الحالف اليمين الفاجرة، منهم عطاء والحكم...
عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبا متعمدا: يكَفّر.
وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارة منه، والاَخر منهما مؤاخذ به في الاَخرة، إلا أن يعفو... وكأن قائل هذه المقالة وجه تأويل قوله: "وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" إلى غير ما وجه إليه تأويل قوله: "وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأيمَانَ" وجعل قوله: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبِكُمْ الغموس من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل، وقوله: بِمَا عَقّدْتُمْ الأيمَانَ اليمين التي يستأنف فيها الحنث أو البرّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرّ فيها.
وقال آخرون: بل ذلك هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.
"وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ": والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء واخذهم بها، ولما واخذهم بها فكفروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، ولو شاء واخذهم في آجل الاَخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها وغير ذلك من ذنوبهم. حليم في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبة على معاصيهم.
قد ذكر الله تعالى اللّغْوَ في مواضع، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام، فقال تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} [الغاشية: 11] يعني: كلمة فاحشة قبيحة. و {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً} [الواقعة: 25] على هذا المعنى. وقال: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} [القصص: 55] يعني: الكفر والكلام القبيح. وقال: {والغوا فيه} يعني: الكلام لا يفيد شيئاً ليشغلوا السامعين عنه. وقال: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [الفرقان: 72] يعني الباطل. ويقال: لَغَا في كلامه يَلْغُو، إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أصل اللغو في كلام العرب ما أسقط فلم يعتد به، واللغو واللغاء في الكلام ما لا خير فيه ولا معنى له.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" والله غفور حليم "فالحلم: الامهال بتأخير العقاب على الذنب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطرٍ في الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيراً فجزاءٌ جميل، وإن كان شراً فعناءٌ طويل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فيه معنيان: أحدهما {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ} أي لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أي اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس.
والثاني: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ} أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أي بما نوت قلوبكم وقصدت من الإيمان، ولم يكن كسب اللسان وحده {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، {غفور حليم} صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة...
أما قوله تعالى: {والله غفور حليم} فقد علمت أن: الغفور، مبالغة في ستر الذنوب، وفي إسقاط عقوبتها، وأما: الحليم، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون، يقال: ضع الهودج على أحلم الجمال، أي على أشدها تؤدة في السير، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون...
ومعنى: الحليم، في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضاً للأيمان، كان ذلك حتماً لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك، لأن العادة جرت لهم بالأيمان، فذكر أن ما كان منها لغواً فهو لا يؤاخذ به، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد...
{والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}. يحتمل أن يرجع « غفور» للغو اليمين و « حليم» لعدم المعاجلة بالعقوبة في اليمين الغموس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم إليهم سبحانه وتعالى في هذا وكانت ألسنتهم قد مرنت على الأيمان من غير قصد بحيث صاروا لا يقدرون على ترك ذلك إلا برياضة كبيرة ومعالجة طويلة وكان مما رحم الله به هذه الأمة العفو عما أخطأت به ولم تتعمده قال في جواب من كأنه سأل عن ذلك: {لا يؤاخذكم} أي لا يعاقبكم، وحقيقته يعاملكم معاملة من يناظر شخصاً في أن كلاًّ منهما يريد أخذ الآخر بذنب أسلفه إليه.
{الله} فكرر في الإطلاق والعفو الاسم الأعظم الذي ذكره في التقييد والمنع إيذاناً بأن عظمته لا تمنع من المغفرة.
{باللغو} وهو ما تسبق إليه الألسنة من القول على غير عزم قصد إليه -قاله الحرالي.
{في أيمانكم} فإن ذلك لا يدل على الامتهان بل ربما دل على المحبة والتعظيم. ولما بين ما أطلقه بين ما منعه فقال:
{ولكن يؤاخذكم} والعبارة صالحة للإثم والكفارة.
ولما كان الحامل على اليمين في الأغلب المنافع الدنيوية التي هي الرزق وكان الكسب يطلق على طلب الرزق وعلى القصد والإصابة عبر به فقال: {بما كسبت} أي تعمدت {قلوبكم} فاجتمع فيه مع اللفظ النية.
قال الحرالي: فيكون ذلك عزماً باطناً وقولاً ظاهراً فيؤاخذ باجتماعهما، ففي جملته ترفيع لمن لا يحلف بالله في عزم ولا لغو، وذلك هو الذي حفظ حرمة الحلف بالله، وفي مقابلته من يحلف على الخير أن لا يفعله...
ولم يبين هنا الكفارة صريحاً إشارة إلى أنهم ينبغي أن يكونوا أتقى من أن يمنعوا من شيء فيقارفوه، وأشار إليها في الإيلاء كما يأتي.
ولما كان ذكر المؤاخذة قطعاً لقلوب الخائفين سكنها بقوله مظهراً موضع الإضمار إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه: {والله} أي مع ما له من العظمة {غفور} أي ستور لذنوب عباده إذا تابوا.
ولما كان السياق للمؤاخذة التي هي معالجة كل من المتناظرين لصاحبه بالأخذ كان الحلم أنسب الأشياء لذلك فقال {حليم} لا يعاجلهم بالأخذ، والحلم احتمال الأعلى للأذى من الأدنى، وهو أيضاً رفع المؤاخذة عن مستحقها بجناية في حق مستعظم- قاله الحرالي...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن. ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلتَ قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] نهياً عن الحلف.
والمؤاخذة مفاعلة من الأَخذ بمعنى العد والمحاسبة، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه أو يعاقبه، المفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين.
والمؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث، إلاّ ما أذن الله في كفّارته، كما في آية سورة العقود...
وقوله: {والله غفور حليم} تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
عبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى:"بما كسبت قلوبكم" وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد، وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه، قد اكتسبه منها، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو.
و الأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها،فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وموضعها، والإصرار عليها لا ينتج إلا خيرا، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير، وإصرارا عليه وإيمانا به، فتشرق بنور الله، وتستنير بذكر الله.
وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم، فإن القلب يكسب منها شرا، إذ ينكث فيه الإثم نكتة سوداء، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته، وتستغرقه سيئاته، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام.
و إن كانت اليمين غير فاجرة، ولكن الإصرار على موضوعها فيه منع للخير، يكون الكسب شرا إن أصر عليها، ويغفر الله إن اتخذ السبيل الذي يكون به تحلة الأيمان، وهو الكفارة السهلة الميسرة لكل إنسان.
هذا بعض ما يشير إليه التعبير الكريم السامي {بما كسبت قلوبكم}. {و الله غفور حليم} ذيل الله سبحانه هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو،و لبيان أنه سبحانه يأخذ عباده بالرفق، ويسهل لهم سبيل العودة إلى الجادة المستقيمة إن حادوا عنها، وتنكبوا سبيل المؤمنين، ويرشدهم إلى ما يخرجون به مما يلقون بأنفسهم فيه من أقوال وأفعال، فهو يبين طريق التحلل من الأيمان إن حلفوا ليتركوا خيرا، أو ليرتكبوا شرا، وهو بحلمه وتدبيره وحكمته يبين لهم الحق والسبيل إليه، وإن سبقت الأيمان محاجزة دون الخير طلب إليهم ألا يستمسكوا بها ويفعلوا الخير. و أن رحمة الله سبحانه وتعالى في الأيمان وغفرانه وحلمه قد بدا في الإعفاء من يمين اللغو، وعدم اعتبارها، وفي المؤاخذة على ما تكسبه القلوب مع تسهيل العودة إلى فعل الخير، وفي بيان التحلل من اليمين إن حالت بين صاحبها والبر والتقوى والإصلاح بين الناس.
وكان من المناسب أن تأتي هذه الآية بعد كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي لا تقع وكأنه قال لنا: ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا في فعل الخير. وقوله الحق: {بما كسبت قلوبكم} هو المعنى نفسه لقوله تعالى:
{ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان} (من الآية 89 سورة المائدة)... أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك، لكن الشيء الذي يمر على اللسان فلا يؤاخذنا الله به. {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}...