قوله تعالى : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات } قرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب : آيات وتصريف الرياح آيات بكسر التاء فيهما رداً على قوله : لآيات وهو في موضع النصب ، وقرأ الآخرون برفعهما على الاستئناف ، على أن العرب تقول : إن عليك مالاً وعلى أخيك مال ، ينصبون الثاني ويرفعونه ، { لقوم يوقنون } أنه لا إله غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ مِن دَابّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وفي خلق الله إياكم أيها الناس ، وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدبّ عليها من غير جنسكم آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني : حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء ، فيقرّون بها ، ويعلمون صحتها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة آياتٌ رفعا على الابتداء ، وترك ردّها على قوله : لآياتٍ للْمُؤْمِنِينَ ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة «آياتٍ » خفضا بتأويل النصب ردّا على قوله : لآياتٍ للْمُؤْمِنِينَ . وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك ، لأنه في قراءة أُبيّ في الايات الثلاثة «لاياتٍ » باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلاً لهم على صحة قراءة جميعه بالخفض ، وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة ، لأن لا رواية بذلك عن أُبي صحيحة ، وأبيّ لو صحّت به عنه رواية ، ثم لم يُعلم كيف كانت قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرأه خفضا ، بأولى من الحكم عليه بأنه كان يقرأه رفعا ، إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة كلام تامّ قد عملت في ابتدائها «إن » ، مع ابتدائهم إياه ، كما قال حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ :
إنّ الخِلافَةَ بَعْدَهُمْ لَذَميمَةٌ *** وَخَلائِفٌ طُرُفٌ لَمَمّا أحْقُرُ
فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه «إن » إذ كان الكلام ، وإن ابتدىء منويا فيه إن .
والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال : إن الخفض في هذه الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وفي خلقكم} يعني وفي خلق أنفسكم إذ كنتم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما [ثم] لحما، ثم الروح.
{وما يبث من دابة}: وما يخلق من دابة.
{آيات لقوم يوقنون} بتوحيد الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وفي خلق الله إياكم أيها الناس، وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدبّ عليها من غير جنسكم "آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "يعني: حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء، فيقرّون بها، ويعلمون صحتها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم بين تعالى ان في خلقنا آيات، والوجه في الدلالة في خلقنا ضروب كثيرة: منها خلق النفس على ما هو به من وضع كل شيء موضعه لما يصلح له. وفي ذلك دلالة على أن صانعه عالم؛ لأنه فعل الحواس الخمس على البنية التي تصلح له مما يختص كل واحد منها بإدراك شيء بعينه، لا يشركه فيه الآخر؛ لأن العين لا تصلح إلا لإدراك المبصرات وكذلك الفم يصلح للذوق، والأنف للشم، والبشرة للمس، وكل شيء من ذلك يختص بما لا يشركه فيه الآخر.
وفي ذلك أوضح دلالة على أن صانعها عالم بها، وأنه لا يشبهه شيء، ولو لم يكن إلا خلق العقل الذي يهدي إلى كل أمر، ويتميز به العاقل من كل حيوان، ولا يشبهه شيء في جلالته وعظم منزلته لكان فيه كفاية على جلالة صانعه وعظم خالقه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا أنعم العبدُ نَظَرَه في استواء قدِّه وقامته، واستكمال عقله وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه، ثم فكَّرَ فيما عداه من الدواب؛ في أجزائها وأعضائها.. ثم وقف على اختصاص وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان ووجوهِ خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان -عَرَفَ تخصُّصَهم بمناقبهم، وانفرادَهم بفضائلهم، فاستيقن أن الله كَرَّمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قدَّمَهُم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ذكر تعالى خلق البشر والحيوان، وكأنه أغمض مما أحال عليه أولاً وأكثر تلخيصاً، فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه بالنظر في آيات الآفاق، أتبعها آيات الأنفس فقال: {وفي خلقكم} أي المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار.
{وما يبث} أي ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية بثاً على سبيل التجدد والاستمرار.
{من دآبة} مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم في الحركة بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزئيات ومخالفتكم في الصورة والعقل، وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والمنافع والطبائع ونحوها.
{آيات} أي- على صفات الكمال ولا سيما العزة والحكمة، وهي على قراءة حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب هنا، وفي الذي بعده عطف الآيتين على حيز إن في- الآية الأولى من الاسم والخبر، فلهذه الآية نظر إلى التأكيد، وهو على قراءة الجماعة مبتدأ بالعطف على "إن "وما في حيزها، وهي أبلغ؛ لأنها تشير إلى أن ما في تصوير الحيوان وجميع شأنه من عجيب الصنع ظاهر الدلالة على الله فهو بحيث لا ينكره أحد، فهو غني عن التأكيد...
ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف، قال: {لقوم} أي فيهم أهلية القيام بما يحاولونه.
{يوقنون} أي يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان، فلا يخالطهم شك في وحدانيته؛ قال الحرالي في تفسير {أو كالذي مر على قرية}: آية النفس منبهة على آية الحس، وآية الحس منبهة على آية النفس، إلا أن آية النفس أعلق، فهي لذلك أهدى، غاية آية الآفاق الإيمان، وغاية آية النفس اليقين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم؛ وهي أقرب إليهم، وهم بها أكثر حساسية: وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة. خارقة. خارقة نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا! ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة واستهوالاً لهذا التركيب العجيب! إن الحياة في أبسط صورها معجزة. في الإميبا ذات الخلية الواحدة. وفيما هو أصغر من الإميبا! فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد؟ وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي! وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعاً وأجناساً، وأشكالاً وأحجاماً، لا يحصيها إلا الله. وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه. معجز في تصريفه. معجز في تناسب حيواته على هذه الأرض، بحيث لا يزيد جنس عن حدود معينة، تحفظ وجوده وامتداده، وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء. واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير؛ وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً.. النسور جارحة ضارية وعمرها مديد. ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير.. ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير؟ وكيف كانت تقضي على جميع الطيور! والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية. فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء؟ إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء.. ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدوداً بالقدر المطلوب! وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم. والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف.. وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين. فكيف لو افلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنين؟ لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون؟ ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير دقيق محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف. وهكذا وهكذا. في الخلق ذاته. وفي خصائصه. وفي تدبيره وتقديره. في عالم الناس وعالم الدواب.. في هذا كله آيات. آيات ناطقة. ولكن لمن؟ من الذي يراها ويتدبرها ويدركها؟
(لقوم يوقنون).. واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس، وكي تتأثر، وكي تنيب.. اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن؛ وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة، وفي راحة من القلق والحيرة والزعزعة. فتصوغ من أقل ما تحصل، أكبر النتائج وأعظم الآثار في هذا الوجود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البث: التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة، والمعنى: أن المؤمنين والذين يُوقنون، أي يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً. فالمعنى: أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض...