الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (4)

قوله : { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على " خَلْقِكم " المجرورِ ب " في " والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : " مررتُ بك أنت وزيدٍ " يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ .

قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } و { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قرأ " آياتٍ " بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ " إنَّ " . فأمَّا { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالكسر فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم " إنَّ " ، والخبرُ قولُه : " وفي خَلْقِكم " . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ " في خَلْقكم " معطوفاً على " في السماوات " كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ تقولَ : " إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً " فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ، كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن البتةَ .

وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " إنَّ " مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة " إنَّ " الأُولى عليها ، وليسَتْ " آيات " معطوفةً على " آيات " الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد ؛ لأنها مِنْ لفظ " آيات " الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : " إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً " ف " دم " الثاني مكررٌ ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه " انتهى .

فقوله : " وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن " وَهَمٌ ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر ؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ " في " ساقطةٌ مِنْ قولِه : " وفي خَلْقِكم " أو اختلطَتْ عليه { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بهذه ؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً .

وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ " في خَلْقِكم " خبراً مقدَّماً ، و " آياتٌ " مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ ب " إنَّ " . والثاني : أَنْ تكون معطوفةً على " آيات " الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ .