قوله تعالى : { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } ولداً { وأصلحنا له زوجه } أي جعلناها ولوداً بعدما كانت عقيماً ، قال أكثر المفسرين ، وقال بعضهم : كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق . { إنهم } يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة { كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً } طمعاً ، { ورهباً } خوفاً ، رغباً في رحمة الله ، ورهباً من عذاب الله ، { وكانوا لنا خاشعين } أي متواضعين ، قال قتادة : ذللاً لأمر الله . قال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم في القلب .
يقول الله جلّ ثناؤه : فاستجبنا لزكريا دعاءه ، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه ، وأصلحنا له زوجه .
واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي عناه الله جلّ ثناؤه بقوله : وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَه فقال بعضهم : كانت عقيما فأصلحها بأن جعلها وَلُودا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن حميد بن صخر ، عن عمار ، عن سعيد ، في قوله : وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ قال : كانت لا تلد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ قال : وهبنا له ولدها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأصلْحْنَا لَهُ زَوْجَهُ كانت عاقرا ، فجعلها الله وَلودا ، ووهب له منها يحيى .
وقال آخرون : كانت سيئة الخُلق ، فأصلحها الله له بأن رزقها حُسن الخُلُق .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أصلح لزكريا زوجه ، كما أخبر تعالى ذكره بأن جعلها ولودا حسنة الخُلُق لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها . ولم يخصُصِ الله جلّ ثناؤه بذلك بعضا دون بعض في كتابه ولا على لسان رسوله ، ولا وضع على خصوص ذلك دلالة ، فهو على العموم ما لم يأت ما يجب التسليم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض .
وقوله : إنّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ يقول الله : إن الذين سميناهم يعني زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون في الخيرات في طاعتنا ، والعمل بما يقرّبهم إلينا . ) وقوله : وَيَدْعُونَنا رَغَبا وَرَهَبا يقول تعالى ذكره : وكانوا يعبدوننا رغبا ورهَبا . وعَنَى بالدعاء في هذا الموضع : العبادة ، كما قال : وأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وأدْعُو رَبّي عَسى أن لا أكُونَ بدُعاءِ رَبّي شَقِيّا ويعني بقوله : رَغَبا أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله . وَرَهَبايعني رهبة منهم من عذابه وعقابه ، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : إنّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنا رَغَبا وَرَهبَا قال : رغبا في رحمة الله ، ورهبا من عذاب الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَدْعُونَنا رَغَبا وَرَهَبا قال : خوفا وطمعا . قال : وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الاَخر .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : رَغَبا وَرَهبا بفتح الغين والهاء من الرغَب والرهَب . واختلف عن الأعمش في ذلك ، فرُويت عنه الموافقة في ذلك للقرّاء ، ورُوي عنه أنه قرأها : «رُغْبا » «ورُهْبا » بضم الراء في الحرفين وتسكين الغين والهاء .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك الفتح في الحرفين كليهما .
وقوله : وكانُوا لَنا خاشِعِينَ يقول : وكانوا لنا متواضعين متذللين ، ولا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا .
{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو ل { زكريا } بتحسين خلقها وكانت حردة . { إنهم } يعني المتوالدين أو المذكورين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . { كانوا يسارعون في الخيرات } يبادرون إلى أبواب الخير . { ويدعوننا رغبا ورهبا } ذوي رغب ورهب ، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة ، أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية . { وكانوا لنا خاشعين } مخبتين أو دائبين الوجل ، والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاستجبنا له} دعاءه {ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} يعني: امرأته فحاضت، وكانت لا تحيض من الكبر.
{إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} يعني: أعمال الصالحات، يعني: زكريا وامرأته. {ويدعوننا رغبا} في ثواب الله، عز وجل، {ورهبا} من عذاب الله، عز وجل. {وكانوا لنا خاشعين} يعني لله سبحانه متواضعين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول الله جلّ ثناؤه: فاستجبنا لزكريا دعاءه، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه، وأصلحنا له زوجه... بأن جعلها ولودا حسنة الخلق...
"إنّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ": إن الذين سميناهم، يعني زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون في الخيرات في طاعتنا، والعمل بما يقرّبهم إلينا.
"وَيَدْعُونَنا رَغَبا وَرَهَبا": وكانوا يعبدوننا رغبا ورهَبا. وعَنَى بالدعاء في هذا الموضع: العبادة... ويعني بقوله: "رَغَبا "أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله، "وَرَهَبا "يعني: رهبة منهم من عذابه وعقابه، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته...
وقوله: "وكانُوا لَنا خاشِعِينَ" يقول: وكانوا لنا متواضعين متذللين، ولا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ووهبنا له يحيى} قال الحسن: إنه كان يحيى على ما سماه الله في الطاعة والعبادة، وفي الآخرة يحيى في الكرامات والثواب الجزيل...
{وأصلحنا له زوجه} يخرج على وجهين: أحدهما: أن جعلناها بحيث يرغب فيها زوجها ذات هيئة ومنظر لأنه ذكر في القصة أنها بلغت في السن مئة غير شيء. والعرف في النساء أنهن إذا بلغن المبلغ الذي ذكر أنها بلغت زوجة زكريا يكن من القواعد اللاتي لا يرغب فيها أحد، فأخبر أنه أصلحها، وصيرها بحيث يرغب فيها ذات هيئة ومنظر...
{إنهم كانوا يسارعون في الخيرات}. ثم المسارعة في الخيرات أنه كان لا يمنعهم شيء عن فعل الخيرات. وهكذا المؤمن، هو يرغب في الخيرات كلها إلا أن يمنعه شيء من شهوة أو سهو...
{وكانوا لنا خاشعين} قال بعضهم: الخشوع هو الخوف الدائم الملازم للقلب، لا يفارقه...
تفسير الخشوع ما ذكر بقوله: {ويدعوننا رغبا ورهبا}...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِنَّهُمْ} يعني الأنبياء الذين سمّاهم في هذه السورة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا} وفي هذه بشارة لجميع المؤمنين، لأن المؤمن لا يخلو من حالة من أحوال الرغبة أو الرهبة؛ إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطاً والقنوط كفر، ولو لم تكن رهبة لكان أمناً والأمن كفر. قوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الخشوع قشعريرة القلب عند اطلاع الربِّ، وكان لهم ذلك على الدوام.
{ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب لأن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ وبين تعالى مصداق ما ذكرناه فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} وأراد بذلك زكريا وولده وأهله فبين أنه آتاهم ما طلبوه وعضد بعضهم ببعض من حيث كانت طريقتهم أنهم يسارعون في الخيرات، والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة...
{ويدعوننا رغبا ورهبا}... هو كقوله: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين: أحدهما: الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة في عقابه. والثاني: الخشوع وهو المخافة الثابتة في القلب، فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الإثم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... ثم استأنف البيان لخيرية الموروث والوارث والمصلحة للولادة فقال، مؤكداً ترغيباً في مثل أحوالهم وأنها مما يلتذ بذكره ويعجب من أمره: {إنهم كانوا} مجبولين في أول ما خلقناهم جبلة خير، مهيئين لأنهم {يسارعون في الخيرات} أي يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} النبي الكريم، الذي لم يجعل الله له من قبل سميا...
{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} بعدما كانت عاقرا، لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل، لأجل نبيه زكريا، وهذا من فوائد الجليس، والقرين الصالح، أنه مبارك على قرينه، فصار يحيى مشتركا بين الوالدين...
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مُدِلُّون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكانت الاستجابة سريعة ومباشرة: (فاستجبنا له، ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) وكانت عقيما لا تصلح للنسل.. ويختصر السياق تفصيلات هذا كله ليصل مباشرة إلى استجابة الله للدعاء.
(إنهم كانوا يسارعون في الخيرات).. فسارع الله في استجابة الدعاء.
(ويدعوننا رغبا ورهبا).. رغبة في الرضوان ورهبة للغضب. فقلوبهم وثيقة الصلة دائمة التطلع. (وكانوا لنا خاشعين).. لا متكبرين ولا متجبرين..
بهذه الصفات في زكريا وزوجه وابنهما يحيى استحق الوالدان أن ينعم عليهما بالابن الصالح. فكانت أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين، وما أوتوه من النصر، واستجابة الدعوات، والإنجاء من كيد الأعداء، وما تبع ذلك، ابتداءً من قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} [الأنبياء: 48]. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها. وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبَهم وهجِّيراهم. والمسارعة: مستعارة للحرص وصرف الهمة والجِدّ للخيرات، أي لفعلها، تشبيهاً للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
"الفاء" عاطفة تدل على الترتيب والتعقيب، أي أجبناه عقب سؤاله، والتعدية باللام تدل على كمال الاختصاص بالداعي والعناية به،... وقوله {له} "اللام" معناها لأجله وتكريما له، وعناية به واستجابة لدعائه،... وكانت التعدية ب {في} للإشارة إلى أنهم يسارعون يسابق بعضهم بعضا في دائرة الخيرات لا يخرجون عنها، فالخيرات أحاطت بهمه إحاطة الدائرة، و {الخيرات} الأعمال النافعة التي قصد بها وجه الله والعبادة الخالصة له سبحانه، {ويدعوننا رغبا ورهبا}، الرغب معناه السعة، والمعنى يدعون ربهم في حال السعة والرخاء، والرهب الخوف مع الاضطراب والانزعاج، والمعنى يدعونه سبحانه وتعالى في حال رخائهم، وحال شدتهم وانزعاجهم، فهم يدعونه في كل الأحوال، لا كأولئك المشركين الذين يدعون الله في الشدة، فإذا ذهبت إذا هم يشركون.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراَتِ} لأن الخير لم يكن في حياتهم حالة طارئة، أو انفعالاً سريعاً، بل كان قيمةً روحيةً تتحرك في خط العقيدة وحركة الرسالة على أساس المسؤولية المنفتحة على الناس كلهم، الذين يحتاجون الخدمات على كافة مستوياتها الفكرية والروحية والحياتية... وكان هذا الخير الذي يتحرك في عمق شخصيتهم، نتيجةً للإيمان بالله، والانفتاح عليه... وذلك في أجواء اللقاء الكامل بالله، حتى يستلهم الإنسان روحيته في كل حال، في أوقات الرغبة والرهبة، لأن ذلك هو التعبير الحيّ عن الانشداد إلى الله في كل الأمور، بحيث يشعر الإنسان بأن الله هو مصدر القوّة والحياة.