قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } . قرأ علقمة و إبراهيم النخعي ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) واختلفوا في إتمامهما . فقال بعضهم : هو أن يتمها بمناسكهما وحدودهما وسننهما ، وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وأركان الحج خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة ، وطواف الزيارة ، والسعي بين الصفا والمروة ، وحلق الرأس أو التقصير . وللحج تحللان ، وأسباب التحلل ثلاثة : رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق ، فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول ، وبالثلاث حصل التحلل الثاني ، وبعد التحلل الأول يستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء ، وبعد الثاني يستبيح الكل ، و أركان العمرة أربعة : الإحرام ، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق ، وقال سعيد بن جبير وطاووس : تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين ، مستأنفين من دويرة أهلك ، وسئل علي بن أبي طالب عن قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } قال : أن تحرم بهما من دويرة أهلك . ومثله عن ابن مسعود ، قال قتادة : تمام العمرة أن تعتمر في غير أشهر الحج ، فإن كانت في أشهر الحج ثم أقام حتى حج فهي تمتعه ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلها حتى لا يلزمه عما ترك دم بسبب قران ولا متعة . وقال الضحاك : إتمامهما أن تكون النفقة حلالاً ، وينتهي عما نهى الله عنه ، وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج من أهلك ، ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة . قال عمر بن الخطاب : الوفد كثير والحاج قليل ، واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً ، واختلفوا في وجوب العمرة ، فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر .
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : والله أن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله ، قال الله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد والحسن ، وقتادة ، سعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوري والشافعي في أصح قوليه ، وذهب قوم إلى أنها سنة ، وهو قول جابر ، وبه قال الشعبي وإليه ذهب مالك وأهل العراق وتأولوا قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) على معنى ، أتموهما إذا دخلتم فيهما ، أما ابتداء الشروع فيها فتطوع ، واحتج من لم يوجبها بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ " فقال : لا وأن تعتمروا خير لكم " والقول الأول أصح ، ومعنى قوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) أي ابتدئوهما ، فإذا دخلتم فيهما فأتموهما ، فهو أمر بالابتداء والإتمام ، أي أقيموهما كقوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) أي ابتدئوه وأتموه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا ابن أبي شيبة ، أخبرنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة " وقال ابن عمر : " ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً كما قال الله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع " ، واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه : الإفراد والتمتع والقران .
فصورة الإفراد : أن يفرد الحج ، ثم بعد الفراغ منه يعتمر ، وصورة التمتع : أن يعتمر في أشهر الحج ، ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة ، يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام ، وصورة القران : أن يحرم بالحج والعمرة معاً ، يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً ، واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه : فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ، ثم التمنع ثم القران . وهو قول مالك والشافعي لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، فأما من أهل بالعمرة فحل ، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا مسلم ، عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وهو يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج ، ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة " ، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القرآن أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ، واحتجوا بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا محمد بن هشام بن ملا بن النميري ، أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري ، أخبرنا حميد قال : قال أنس بن مالك : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لبيك بحج وعمرة " . وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل ، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث ، عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت ، بين الصفا والمروة ، ويقصر وليتحلل ، ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، فطاف حين قدم مكة ، واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أشواط ، ومشى أربعاً ، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم فانصرف ، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس " .
وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : قد اختلفت الرواة في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب ، اختلاف الأحاديث ، كلاماً موجزاً أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد ، والقارن والمتمتع ، وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه ، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر به وأذن فيه ، فيجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به ، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له ، كما يقال بنى فلان داراً ، وأريد أنه أمر ببنائها ، وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم " رجم ماعزاً " ، وإنما أمر برجمه ، واختار الشافعي لرواية جابر ، وعائشة ، وابن عمرو ، وقدمها على رواية غيرهم لتقدم صحبة جابر النبي صلى الله عليه وحسن سياقه لابتداء قصة حجة الوداع وآخرها ، ولفضل حفظ عائشة ، وقرب ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم . ومال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع ، وقال : ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح ، لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافاً ، يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج ، وإفراد الحج والقرآن ، واسع كله أي التمتع والإفراد والقرآن . وقال : من قال إنه أفرد الحج يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدركوا دور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا لا يكون مقيما على الحج وقد ابتدأ إحرامه بالحج . قال شيخنا الإمام : ومما يدل على أنه كان متمتعاً أن الرواية عن ابن عمر وعائشة متعارضة ، وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وقال ابن شهاب عن عروة إن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج ، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر وقال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه عمرة استمتعنا بها " . وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة : صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه . قال شيخنا الإمام : وما روي عن جابر أنه قال : خرجنا لا ننوي إلا الحج ، لا ينافي التمتع ، لأن خروجهم كان لقصد الحج ، ثم منهم من قدم العمرة ، ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة . قوله تعالى : { فإن أحصرتم } . اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه ، فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمضي في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة ، يبيح له التحلل ، وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، وأهل العراق وقالوا : إن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض ، وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال : منه أحصر فهو محصر ، وما كان من حبس عدو ، أو سجن يقال : منه حصر محصور ، وإنما جعل هاهنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض إذ كان في معناه ، واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل " .
قال عكرمة : فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا : صدق . وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قول ابن عباس وقال لا حصر إلا حصر العدو ، وروي معناه عن ابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ، وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد . وقال ثعلب تقول العرب : حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور ، وأحصره العدو إذا منعه عن السير فهو محصر ، واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وكان ذلك حبساً من جهة العدو ، ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ( فإذا أمنتم ) والأمن يكون من الخوف ، وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو ، وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج ، إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني " . ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس ، والهدي شاة وهو المراد من قوله تعالى ( فما استيسر من الهدي ) ، ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها ، وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ، ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل ، وهو قول أهل العراق . واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هدايا ، ففي قول لا بد له فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجد ، والقول الثاني : له بدل ، فعلى هذا اختلف القول فيه ، ففي قول عليه صوم التمتع ، وفي قول تقوم الشاة بدراهم ، ويجعل الدراهم طعاما فيتصدق به ، فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد من الطعام يوما . كما في فدية الطيب واللبس ، فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص ، أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل ، وعليه الفدية ، وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاماً فيتصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوماً . ثم المحصر إن كان إحرامه بغرض قد استقر عليه فلذلك الفرض في ذمته ، وإن كان بحج تطوع ، فهل عليه القضاء ؟ اختلفوا فيه ، فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك و الشافعي ، وذهب قوم إلى أن عليه القضاء ، وهو قول مجاهد والشعبي والنخعي وأصحاب الرأي .
قوله تعالى : { فما استيسر } . أي فعليه ما تيسر من الهدي ، ومحله رفع وقيل : ما في محل النصب أي فاهد ما استيسر والهدي جمع هدية وهي اسم لكل ما يهدي إلى بيت الله تقرباً إليه ، وما استيسر من الهدي شاة ، قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأنه أقرب إلى اليسر ، وقال الحسن و قتادة : أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة .
قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } . اختلفوا في المحل الذي يحل المحصر ببلوغ هديه إليه فقال بعضهم : هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم ، ومعنى محله : حيث يحل ذبحه فيه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتى تنحر بذلك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً أي ازدحاما غماً .
وقال بعضهم : محل هدي المحصر الحرم ، فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر ، وإن كان معتمراً فمحله يوم يبلغ هديه الحرم .
قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } . معناه لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع .
قوله تعالى : { ففدية } . فيه إضمار ، أي : فحلق فعليه فدية ، نزلت في كعب بن عجرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن خلف أخبرنا إسحاق بن يوسف عن أبي بشر ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : حدثني عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال : " أيؤذيك هوامك ؟ " قال نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { ففدية من صيام } . أي ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { أو صدقة } . أي ثلاثة آصع على ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع .
قوله تعالى : { أو نسك } . واحدتها نسيكة ، أي ذبيحة ، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة ، أيتها شاء ذبح ، فهذه الفدية على التخيير ، والتقدير ، ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق ، وكلهدي أو طعام ، يلزم المحرم يكون بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم ، إلا هديا يلزم المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر ، وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء .
قوله تعالى : { فإذا أمنتم } . أي من خوفكم وبرأتم من مرضكم .
قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } . اختلفوا في هذه المتعة ، فذهب عبد الله بن الزبير إلى أن معناه : فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك ، بتلك العمرة إلى السنة المقبلة ، ثم حج فيكون متمتعاً بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل ، وقال بعضهم : معناه فإذا أمنتم ، وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، فاعتمرتم في أشهر الحج ، ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ، ثم أحرمتم بالحج ، فعليكم ما استيسر من الهدي ، وهو قول علقمة وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ، وقال ابن عباس وعطاء وجماعة : هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج ، فقضى عمرته وأقام حلالاً بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعاً بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظوراً عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحج . ولوجوب هدي التمتع أربع شرائط : أحدها : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، والثاني أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة ، والثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه . الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي ، وهو دم شاة ويذبحها يوم النحر فلو ذبحها قبله بعد ما أحرم بالحج يجوز عند بعض أهل العلم ، كدماء الجنايات ، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز قبل يوم النحر كدم الأضحية .
قوله تعالى : { فمن لم يجد } . الهدي .
قوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام في الحج } . أي صوموا ثلاثة أيام ، يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية ، ويوم عرفة ، ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج جاز ، ولا يجوز يوم النحر ، ولا أيام التشريق ، عند أكثر أهل العلم ، وذهب بعضهم إلى جواز صوم الثلاث أيام التشريق . يروى ذلك عن عائشة ، وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق .
قوله تعالى : { سبعة إذا رجعتم } . أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم ، فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز ، وهو قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج ، وهو المراد من الرجوع المذكور في الآية .
قوله تعالى : { تلك عشرة كاملة } . ذكرها على وجه التأكيد ، لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب ، فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح ، وزيادة بيان ، وقيل : فيه تقدم وتأخير ، يعني : فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم ، فهي عشرة كاملة . وقيل : كاملة الثواب والأجر ، وقيل : كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي وقيل : كاملة بشروطها وحدودها ، وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها .
قوله تعالى : { ذلك } . أي هذا الحكم .
قوله تعالى : { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } . واختلفوا في حاضري المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك ، وقيل : هم أهل الحرم وبه قال طاووس . وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلتان ، وقال الشافعي : كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام ، وقال عكرمة : هم من دون الميقات ، وقيل : هم أهل الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرأي ، ودم القران كدم التمتع ، والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه ، قال عكرمة : سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة ، فإن الله أنزل في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . ومن فاته الحج ، وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر ، فإنه يتحلل بعمل العمرة ، وعليه القضاء من قابل والفدية ، وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقرآن .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع . عن سليمان بن يسار أن هناد بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال : يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد ، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة ، فقال له عمر : اذهب إلى مكة ، فطف أنت ومن معك بالبيت ، واسعوا بين الصفا والمروة ، وانحروا هدياً إن كان معكم ، ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا ، فإذا كان العام القابل فحجوا واهدوا ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع " .
قوله تعالى : { واتقوا الله } . في أداء الأوامر .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله شديد العقاب } . على ارتكاب المناهي .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَتِمّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتّىَ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مّن رّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك أتموا الحج بمناسكه وسننه ، وأتموا العمرة بحدودها وسننها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : هو في قراءة عبد الله : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » . قال : لا تجاوزوا بالعمرة البيت . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ : «وأقِيمُوا الحَج والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قرأ : «وأقِيمُوا الحَج والعُمْرَةَ إلى البَيْت » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وأتموا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ يقول : من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحلّ حتى يتمها تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل من إحرامه كله ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، فقد حل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : ما أمروا فيهما .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال : «الحج » : مناسك الحج ، و«العمرة » : لا يجاوز بها البيت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : قال تقضي مناسك الحجّ : عرفة والمزدلفة ومواطنها ، والعمرة للبيت أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحلّ .
وقال آخرون : تمامهما أن تحرم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله ابن سلمة ، عن عليّ أنه قال : جاء رجل إلى عليّ فقال له في هذه الآية : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه ، فقال : أرأيت قول الله عز وجل : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ ؟ قال : أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، قال : من تمام العمرة أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن ثور بن يزيد ، عن سليمان بن موسى ، عن طاوس ، قال : تمامهما : إفرادهما مؤتنفتين من أهلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سفيان ، عن ثور ، عن سليمان بن موسى ، عن طاوس : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : تفردهما مؤقتتين من أهلك ، فذلك تمامهما .
وقال آخرون : تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحجّ ، وتمام الحجّ أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحجّ . وما كان في أشهر الحجّ ، ثم أقام حتى يحجّ فهي متعة عليه فيها الهدي إن وجد ، وإلا صام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : ما كان في غير أشهر الحجّ فهي عمرة تامة ، وما كان في أشهر الحجّ فهي متعة وعليه الهدي .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة . قال : فقيل له : العمرة في المحرّم ؟ قال : كانوا يرونها تامة .
وقال آخرون : إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني رجل ، عن سفيان ، قال : هو يعني تمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد إلا الحجّ والعمرة ، وتهلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت . وذلك يجزىء ، ولكن التمام أن تخرج له لا تخرج لغيره .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أتموا الحجّ والعمرة لله إذا دخلتم فيهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ليست العمرة واجبة على أحد من الناس . قال : فقلت له : قول الله تعالى : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ ؟ قال : ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمه ، فإذا دخل فيها لم ينبغ له أن يهلّ يوما أو يومين ثم يرجع ، كما لو صام يوما لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرا العمرة ، قال : فقال الشعبي : تطوّع : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ وقال أبو بردة : هي واجبة : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن عون ، عن الشعبي أنه كان يقرأ وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
وقد رُوي عن الشعبي خلاف هذا القول ، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا . وذلك ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، قال : العمرة واجبة .
فقراءة من قال : العمرة واجبة نَصْبها بمعنى أقيموا فرض الحج والعمرة . كما :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق ، يقول : سمعت مسروقا يقول : أمرتم في كتاب الله بأربع : بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحجّ ، والعمرة قال : ثم تلا هذه الآية : وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ إلى الْبَيْتِ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يروي عن الحسن ، عن مسروق ، قال : أمرنا بإقامة أربعة : الصلاة ، والزكاة ، والعمرة ، والحجّ ، فنزلت العمرة من الحجّ منزلة الزكاة من الصلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : أنبأنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال عليّ بن حسين وسعيد بن جبير ، وسئلا : أواجبة العمرة على الناس ؟ فكلاهما قال : ما نعلمها إلا واجبة ، كما قال الله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضة هي أم تطوّع ؟ قال : فريضة . قال : فإن الشعبي يقول : هي تطوّع . قال : كذب الشعبي وقرأ : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : هما واجبان : الحجّ ، والعمرة .
فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ أنهما فرضان واجبان من الله تبارك وتعالى ( أمر ) بإقامتهما ، كما أمر بإقامة الصلاة ، وأنهما فريضتان ، وأَوجب العمرة وجوب الحجّ . وهم عدد كثير من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم . وقالوا : معنى قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ وأقيموا الحجّ والعمرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ يقول : أقيموا الحجّ والعمرة .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، عن أبيه ، عن عليّ : «وَأَقِيمُوا الحجّ والعُمْرَةَ للبيْتِ » ثم هي واجبة مثل الحجّ .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا ثوير ، عن أبيه ، عن عبد الله : «وَأَقِيمُوا الحجّ وَالْعُمْرَةَ إلى الْبَيْتِ » ثم قال عبد الله : والله لولا التحرّج وأني لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئا ، لقلت إن العمرة واجبة مثل الحجّ .
وكأنهم عنوا بقوله : أقيموا الحجّ والعمرة : ائتوا بهما بحدودهما وأحكامهما على ما فرض عليكم .
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب العمرة : العمرة تطوّع . ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نصبهم العمرة في القراءة ، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبد عمله وإتمامه بدخوله فيه ، ولم يكن ابتداء الدخول فيه فرضا عليه ، وذلك كالحجّ التطوّع لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أن عليه المضيّ فيه وإتمامه ولم يكن فرضا عليه ابتداء الدخول فيه . وقالوا : فكذلك العمرة غير فرض واجب الدخول فيها ابتداء ، غير أن على من دخل فيها وأوجبها على نفسه إتمامها بعد الدخول فيها .
قالوا : فليس في أمر الله بإتمام الحجّ والعمرة دلالة على وجوب فرضها .
قالوا : وإنما أوجبنا فرض الحجّ بقوله عزّ وجل : ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً . وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : الحجّ فريضة ، والعمرة تطوّع .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، عن ابن مسعود مثله .
وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، قال : العمرة ليست بواجبة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، قال : سألت إبراهيم عن العمرة فقال : سنة حسنة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن الشعبي ، قال : العمرة تطوّع .
فأما الذين قرءوا ذلك برفع العمرة فإنهم قالوا : لا وجه لنصبها ، فالعمرة إنما هي زيارة البيت ، ولا يكون مستحقا اسم معتمر إلا وهو له زائر ، قالوا : وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته ، وهو متى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة ، فلا عمل يبقى بعده يؤمر بإتمامه بعد ذلك ، كما يؤمر بإتمامه الحاج بعد بلوغه والطواف به وبالصفا والمروة بإتيان عرفة والمزدلفة ، والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها وعمل سائر أعمال الحجّ الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت ، لم يكن لقول القائل للمعتمر أتمّ عمرتك وجه مفهوم ، وإذا لم يكن له وجه مفهوم فالصواب من القراءة في العمرة الرفع على أنه من أعمال البرّ لله ، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها ، وهو قوله : لله .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ بنصب العمرة على العطف بها على الحج ، بمعنى الأمر بإتمامهما له . ولا معنى لاعتلال من اعتلّ في رفعها بأن العمرة زيارة البيت ، فإن المعتمر متى بلغه ، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه ، وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمام العمل الذي أمره الله به في اعتماره ، وزيارته البيت وذلك هو الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، وتجنب ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك ، وذلك عمل وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه غير الزيارة . هذا مع إجماع الحجة على قراءة العمرة بالنصب ، ومخالفة جميع قرّاء الأمصار قراءة من قرأ ذلك رفعا ، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعا .
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله : والعُمْرَةَ لِلّهِ على قراءة من قرأ ذلك نصبا فقول عبد الله بن مسعود ، ومن قال بقوله من أن معنى ذلك : وأتموا الحجّ والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أن ذلك أمر من الله عزّ وجل بابتداء عملهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه بهذه الآية ، وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا من أن يكون أمرا من الله عزّ وجل بإقامتهما ابتداء وإيجابا منه على العباد فرضهما ، وأن يكون أمرا منه بإتمامهما بعد الدخول فيهما ، وبعد إيجاب موجبهما على نفسه ، فإذا كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا ، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الاَخر ، إلا وللاَخر عليه فيها مثلها . وإذا كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبر عن الحجة للعذر قاطعا ، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة ، لم يكن لقول قائل هي فرض بغير برهان دالّ على صحة قوله معنى ، إذ كانت الفروض لا تلزم العباد إلا بدلالة على لزومها إياهم واضحة .
فإن ظنّ ظانّ أنها واجبة وجوب الحجّ ، وأن تأويل من تأوّل قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ بمعنى : أقيموا حدودهما وفروضهما أولى من تأويلنا بما :
حدثني به حاتم بن بكير الضبي ، قال : حدثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن جحادة ، عن رجل ، عن زميل له ، عن أبيه ، وكان أبوه يكنى أبا المنتفق ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فدنوت منه ، حتى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته ، فقلت : يا رسول الله أنبئني بعمل ينجيني من عذاب الله ويدخلني جنته قال : «اعْبُدِ اللّهَ وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَا ، وأقِمِ الصّلاةَ المَكْتُوبَةَ ، وأدّ الزكاةَ المَفُرُوضَةَ ، وحُجّ واعْتَمِرْ » قال أشهل : وأظنه قال : «وصم رمضان ، وانظر ماذا تحبّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم ، وما تكره من الناس أن يأتوه إليك فذرهم منه » .
وما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ومحمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال : قلت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، وقد أدركه الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال : «حُجّ عَنْ أبِيكَ واعْتَمِرْ » .
وما حدثني به يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «اعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا ، وأقِيمُوا الصّلاةَ ، وآتُوا الزّكاةَ ، وحُجّوا وَاعَتَمِرُوا واسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ » . وما أشبه ذلك من الأخبار ، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لوَهْيِ أسانيدها ، وأنها مع وهي أسانيدها لها في الأخبار أشكال تنبىء عن أن العمرة تطوع لا فرض واجب . وهو ما :
حدثنا به محمد بن حميد ، ومحمد بن عيسى الدامغاني ، قالا : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ ، فقال : «لا ، وأنْ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا شريك ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحَجّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوّعٌ » .
وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صح عنده أن العمرة واجبة بأنه لم يجد تطوعا إلا وله إمام من المكتوبة فلما صح أن العمرة تطوع وجب أن يكون لها فرض ، لأن الفرض إمام التطوّع في جميع الأعمال .
فيقال لقائل ذلك : فقد جعل الاعتكاف تطوعا ، فما الفرض الذي هو إمام متطوّعه ؟ ثم يسئل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب ؟ فإن قال : واجب ، خرج من قول جميع الأمة ، وإن قال : تطوع ، قيل : فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعا والعمرة فرضا من الوجه الذي يجب التسليم له ؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .
وبما استشهدنا من الأدلة ، فإن أولى القراءتين بالصواب في العمرة قراءة من قرأها نصبا . وإن أولى التأويلين في قوله وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ تأويل ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمر من الله بإتمام أعمالهما بعد الدخول فيهما وإيجابهما على ما أمر به من حدودهما وسننهما .
وإن أولى القولين في العمرة بالصواب قول من قال : هي تطوّع لا فرض . وإن معنى الآية : وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم على ما أمركم الله من حدودهما .
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صدّ فيها عن البيت معرفه والمؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خلي بينهم وبين البيت ، ومبينا لهم فيها ما المخرج لهم من إحرامهم إن أحرموا ، فصدّوا عن البيت وبذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم ، افتتح بقوله : يَسْألُونَكَ عَن الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجّ . وقد دللنا فيما مضى على معنى الحجّ والعمرة بشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ أُحْصِرُتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي .
اختلف أهل التأويل في الإحصار الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي ، فقال بعضهم : هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : الحصر : الحبس كله . يقول : أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس . قال : وقال مجاهد في قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فإن أحصرتم : يمرض إنسان أو يكسر أو يحبسه أمر فغلبه كائنا ما كان ، فليرسل بما استيسر من الهدي ، ولا يحلق رأسه ، ولا يحل حتى يوم النحر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الإحصار كل شيء يحبسه .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن سعيد ، عن قتادة أنه قال : في المحصر : هو الخوف والمرض والحابس إذا أصابه ذلك بعث بهديه ، فإذا بلغ الهدي محله حل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه عن البيت يبعث بهديه ، فإذا بلغ محله صار حلالاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن إبراهيم ، قال أبو جعفر : أحسبه عن شريك ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن إبراهيم : فإنْ أُحْصِرْتُمْ قال : مرض أو كسر أو خوف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْي يقول : من أحرم بحجّ أو بعمرة ، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده ، أو عذر يحبسه فعليه قضاؤها .
وعلة من قال بهذه المقالة أن الإحصار معناه في كلام العرب : منع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة ، أو ذهاب نفقة ، أو كسر راحلة . فأما منع العدوّ ، وحبس حابس في سجن ، وغلبة غالب حائل بين المحرم والوصول إلى البيت من سلطان ، أو إنسان قاهر مانع ، فإن ذلك إنما تسميه العرب حصرا لا إحصارا .
قالوا : ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا يعني به : حاصرا : أي حابسا .
قالوا : ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا يسمى إحصارا لوجب أن يقال : قد أحصر العدوّ . قالوا : وفي اجتماع لغات العرب على «حوصر العدوّ » و«العدوّ محاصر » ، دون «أحصر العدوّ » و«هم محصرون » ، و«أحصر الرجل » بالعلة من المرض والخوف ، أكبر الدلالة على أن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ بمرض أو خوف أو علة مانعة .
قالوا : وإنما جعلنا حبس العدوّ ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى حصر المرض قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت ، لا بدلالة ظاهر قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ، إذ كان حبس العدوّ والسلطان والقاهر علة مانعة ، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر .
وقال آخرون : معنى قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإن حبسكم عدوّ عن الوصول إلى البيت ، أو حابس قاهر من بني آدم . قالوا : فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها ، فإن ذلك غير داخل في قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس أنه قال : الحصر : حصر العدوّ ، فيبعث الرجل بهديته ، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو ، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة ، فإنه يبعث بها ويحرم قال محمد بن عمرو ، قال أبو عاصم : لا ندري قال يحرم أو يحلّ من يوم يواعد فيه صاحب الهدي إذا اشترى ، فإذا أمن فعليه أن يحجّ أو يعتمر ، فإذا أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي ، فإنه يحلّ حيث يحبس ، فإن كان معه هدي فلا يحلّ حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بعث به فليس عليه أن يحجّ قابلاً ، ولا يعتمر إلا أن يشاء .
حُدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا حصر إلا من حبس عدوّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم ، إلا أنه قال : فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعد فيه صاحب الهدية إذا اشترى . ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
وقال مالك بن أنس : «بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رؤوسهم ، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء » .
حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب عنه . قال : وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت ؟ فقال : يحلّ من كلّ شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث يحبس ، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط ، فعليه أن يحجّ حجة الإسلام . قال : والأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ بمرض أو ما أشبهه ، أن يبدأ بما لا بدّ منه ، ويفتدي ، ثم يجعلها عمرة ، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي .
وعلة من قال هذه المقالة أعني من قال قولَ مالك أن هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، فأمر الله نبيه ومن معه بنحر هداياهم والإحلال . قالوا : فإنما أنزل الله هذه الآية في حصر العدوّ ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلت فيه .
قالوا : وأما المريض ، فإنه إذا لم يطق لمرضه السير حتى فاتته عرفة ، فإنما هو رجل فاته الحجّ ، عليه الخروج من إحرامه بما يخرج به من فاته الحج ، وليس من معنى المحصر الذي نزلت هذه الآية في شأنه .
وأولى التأويلين بالصواب في قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحصركم خوف عدوّ أو مرض أو علة عن الوصول إلى البيت ، أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم ، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحجّ والعمرة . فلذا قيل «أحصرتم » ، لما أسقط ذكر الخوف والمرض . يقال منه : أحصرني خوفي من فلان عن لقائك ، ومرضي عن فلان ، يراد به : جعلني أحبس نفسي عن ذلك . فأما إذا كان الحابس الرجل والإنسان ، قيل : حصرني فلان عن لقائك ، بمعنى حبسني عنه .
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوّل من قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت ، لوجب أن يكون : فإن حُصِرتم .
ومما يبين صحة ما قلناه من أن تأويل الآية مراد بها إحصار غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدوّ ، قوله : فإنْ أمِنْتُمْ فمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ ، والأمن إنما يكون بزوال الخوف . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمن .
وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن حبس الحابس الذي ليس مع حبسه خوف على النفس من حبسه داخلاً في حكم الآية بظاهرها المتلّو ، وإن كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه ، كالسلطان غير المخوفة عقوبته ، والوالد وزوج المرأة ، إن كان منهم أو من بعضهم حبس ، ومنع عن الشخوص لعمل الحجّ ، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام ، غير داخل في ظاهر قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ لما وصفنا من أن معناه : فان أحصركم خوف عدوّ ، بدلالة قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجّ . وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال : الحصر : حصر العدوّ .
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا ، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت ، فكل مانع عرض للمحرم فصدّه عن الوصول إلى البيت ، فهو له نظير في الحكم .
ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فقال بعضهم : هو شاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد عن ابن عباس ، مثله .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن مالك ، قال : تمتعت فسألت ابن عباس فقال : مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : قلت شاة ؟ قال : شاة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق . عن النعمان بن مالك ، قال : سألت ابن عباس عما استيسر من الهدي ؟ قال : من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال الزهري : أخبرنا وسئل عن قول الله جل ثناؤه : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : كان ابن عباس يقول : من الغنم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : ما استيسر من الهدي : من الأزواج الثمانية .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد ، قال : قيل للأشعث : ما قول الحسن : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ؟ قال : شاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ؟ قال : شاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله ، إلا أنه كان يقال : أعلاه بدنة ، وذكر سائر الحديث مثله .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس ، قال : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا محمد بن نَقِيع ، عن عطاء ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : المحصر يبعث بهدي شاة فما فوقها .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : إذا أهلّ الرجل بالحج فأحصر ، بعث بما استيسر من الهدى شاة . قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ما استيسر من الهدي : شاة فما فوقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة ، قال : حدثنا أبو جمرة ، عن ابن عباس ، قال : ما استيسر من الهدي : جزور أو بقرة أو شاة ، أو شرك في دم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن ابن عباس كان يرى أن الشاة ما استيسر من الهدي .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سهل بن يوسف قال : حدثنا حميد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : قال ابن عباس : الهدي : شاة ، فقيل له : أيكون دون بقرة ؟ قال : فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة ما في الظبي ؟ قالوا : شاة ، قال : هَدْيا باِلغَ الكَعْبَةِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : شاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن دلهم بن صالح ، قال : سألت أبا جعفر ، عن قوله ما استيسر من الهدي : فقال : شاة .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك بن أنس حدثه عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مطرّف بن عبد الله ، قال : حدثنا مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال مالك : وذلك أحبّ إلي .
حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : عليه ، يعني المحصر هدي إن كان موسرا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : ما استيسر من الهدي : شاة ، وما عظمت شعائر الله ، فهو أفضل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : أخبرنا ابن لهيعة أن عطاء بن أبي رباح حدثه أن ما استيسر من الهدي : شاة .
وقال آخرون : «ما استيسر من الهدي » : من الإبل والبقر ، سنّ دون سنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، قال : سمعت عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : «ما استيسر من الهدي » : البقرة دون البقرة ، والبعير دون البعير .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي مجلز ، قال : سأل رجل ابن عمر : ما استيسر من الهدي ؟ قال : أترضى شاة ؟ كأنه لا يرضاه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن القاسم بن محمد ونافع ، عن ابن عمر قال : ما استيسر من الهدي : ناقة أو بقرة ، فقيل له : ما استيسر من الهدي ؟ قال : الناقة دون الناقة ، والبقرة دون البقرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر أنه قال : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : جزور ، أو بقرة .
حدثنا أبو كريب ويعقوب ، قالا : حدثنا هشيم ، قال الزهري أخبرنا ، وسئل عن قول الله : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : قال ابن عمر : من الإبل والبقر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : الناقة دون الناقة ، والبقرة دون البقرة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن القاسم ، عن ابن عمر في قوله : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : الإبل والبقر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان : «ما استيسر من الهدي » : من الإبل والبقر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا الوليد بن أبي هشام ، عن زياد بن جبير ، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير ، قال : سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي ؟ فقال : ناقة ، قلت : ما تقول في الشاة ؟ قال : أكلكم شاة أكلكم شاة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد وطاوس ، قالا : ما استيسر من الهدي : بقرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال في قول ابن عمر : بقرة فما فوقها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني أبو معشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : «ما استيسر من الهدي » : قال : بدنة أو بقرة ، فأما شاة فإنها هي نسك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : البدنة دون البدنة ، والبقرة دون البقرة ، وإنما الشاة نسك ، قال : تكون البقرة بأربعين وبخمسين .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : ثني أسامة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، كان يقول : ما استيسر من الهدي : بقرة .
وحدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : ثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه ، قال : رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عما استيسر من الهدي ويقولون : الشاة الشاة قال : فيردّ عليهم : الشاة الشاة يحضهم إلا أن الجزور دون الجزور ، والبقرة دون البقرة ، ولكن ما استيسر من الهدي : بقرة .
وأولى القولين بالصواب قول من قال : ما استيسر من الهدي شاة لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي ، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي . إلا أن يكون الله جل ثناؤه خصّ من ذلك شيئا ، فيكون ما خصّ من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل ، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحقّ اسم هدي .
فإن قال قائل : فإن الذي أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي بأنه لا يستحقّ اسم هدي كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا ؟ قيل : لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف نحو الذي في المهدي الشاة لكان سبيلهما واحدة في أن كل واحد منهما قد أدّى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهَدْيَيْن يخرجه من أن يكون مؤديا بإهدائه ما أهدى من ذلك مما أوجبه الله عليه في إحصاره . ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته بالحجة القاطعة العذر ، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة ، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله : فمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا .
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثنيّ من المعز ، كان مجزئا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل ، لأنه مما استيسر من الهدي .
فإن قال قائل : فما محلّ «ما » التي في قوله جل وعز : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ؟ قيل : رفع .
فإن قال : بماذا ؟ قيل : بمتروك ، وذلك «فعليه » لأن تأويل الكلام : وأتموا الحجّ والعمرة أيها المؤمنون لله ، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدوّ فعليكم لإحلالكم إن أردتم الإحلال من إحرامكم ما استيسر من الهدي .
وإنما اخترنا الرفع في ذلك ، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره ، وذلك كقوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيامٍ وكقوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ وما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب ، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه . ولو قيل موضع «ما » نصب بمعنى : فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي ، لكان غير مخطىء قائله .
وأما الهدي فإنه جمع واحدها هَدِيّة ، على تقدير جَدِيّة السرج ، والجمع الجَدْي مخفف .
حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، عن يونس ، قال : كان أبو عمرو بن العلاء يقول : لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه .
وبتخفيف الياء وتسكين الدال من «الهدي » قرأه القراء في كل مصر ، إلا ما ذكر عن الأعرج ، فإن .
أبا هشام الرفاعي ، حدثنا ، قال : حدثنا يعقوب ، عن بشار ، عن أسد ، عن الأعرج أنه قرأ : «هَدِيّا بالِغَ الكَعْبَةِ » بكسر الدال مثقلاً ، وقرأ : «حتّى يَبْلُغَ الهَدِيّ مَحِلّه » بكسر الدال مثقلة .
واختلف في ذلك عن عاصم ، فرُوي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءة سائر القراء . والهدي عندي إنما سمي هديا لأنه تقرّب به إلى الله جل وعزّ مهديه بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقرّبا بها إليه ، يقال منه : أهديت الهدي إلى بيت الله فأنا أهديه إهداء ، كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره : أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها . ويقال للبدنة هدية ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى يذكر رجلاً أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تُهْدَى :
فَلَمْ أرَ مَعْشَرا أسَرُوا هَدِيّا *** ولَمْ أرَ جارَ بَيْتٍ يُسْتَباءُ
القول في تأويل قوله تعالى : وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّه .
يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي ، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه ، محله ، وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه ، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه ، حتى يبلغ الهدي الذي أباح الله له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه محله .
ثم اختلف أهل العلم في محل الهدي الذي عناه الله جل اسمه الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه .
فقال بعضهم : محلّ هدي المحصر الذي يحلّ به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه ، إذا كان إحصاره من خوف عدوّ منعه ذبحه إن كان مما يذبح ، أو نحره إن كان مما ينحر ، في الحلّ ذبح أو نحر أو في الحرم ( حيث حبس ) ، وإن كان من غير خوف عدوّ فلا يحلّ حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة . وهذا قول من قال : الإحصار إحصار العدوّ دون غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم ، وحلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي . ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ، ولا أن يعودوا لشيء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن نافع : أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة ، فقال : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأهلّ بعمرة من أجل أن النبيّ كان أهلّ بعمرة عام الحديبية . ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال : ما أمرهما إلا واحد . قال : فالتفت إلى أصحابه فقال : ما أمرهما إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت الحجّ مع العمرة . قال : ثم طاف طوافا واحدا ، ورأى أن ذلك مُجْز عنه وأهدى . قال يونس : قال ابن وهب : قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدوّ كما أحصر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . فأما من أحصر بغير عدوّ فإنه لا يحلّ دون البيت . قال : وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت ، فقال : يحلّ من كل شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط ، فعليه أن يحجّ حِجة الإسلام .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا مالك ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار : أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي ، وصُرع في الحج ببعض الطريق ، أن يبدأ بما لا بد منه ويفتدي ، ثم يجعلها عمرة ، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي . قال يونس : قال ابن وهب : قال مالك : وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ . قال : وقال مالك : وكل من حبس عن الحجّ بعد ما يحرم إما بمرض ، أو خطأ في العدد ، أو خفي عليه الهلال ، فهو محصر ، عليه ما على المحصر يعني من المقام على إحرامه حتى يطوف أو يسعى ، ثم الحجّ من قابل والهدي .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره : أنه حجّ مرة فاشتكى ، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة ، فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك ، وأن عطاء كتب إليه : أن أهرق دما .
وعلة من قال بقول مالك في أن محل الهدي في الإحصار بالعدوّ نحره حيث حبس صاحبه ، ما :
حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي ، قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، قال : أخبرني أبو مرّة مولى أم هانىء ، عن ابن عمر ، قال : لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون فردّوا وجهه . قال : فنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه ، وهي الحديبية ، وحلق ، وتأسّى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق ، وتربص آخرون فقالوا : لعلنا نطوف بالبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللّهُ المُحَلّقِين » . قيل : والمقصرين قال : «رَحِمَ اللّهُ المُحَلّقِينَ » قيل : والمقصرين قال : «والمُقَصّرِين » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا : لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية بينه وبين مشركي قريش ، وذلك بالحديبية عام الحديبية ، قال لأصحابه : «قُومُوا فانْحَرُوا وَاحْلِقُوا » . قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر ذلك لها ، فقالت أم سلمة : يا نبيّ الله اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاّقك فتحلق فقام فخرج فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما .
قالوا : فنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم هديه حين صدّه المشركون عن البيت بالحديبية ، وحل هو وأصحابه . قالوا : والحديبية ليست من الحرم ، قالوا ، ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله : حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّهُ حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله ، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره ، كما رُوي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم أتته بريرة من صدقة كان تصدّق بها عليها ، فقال : «قَرّبُوهُ فَقَدْ بَلَغَ مَحِلّهُ » يعني : فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة .
وقال بعضهم : محل هدي المحصر الحرم لا محلّ له غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد : أن عمرو بن سعيد النخعي أهلّ بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها ، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشرّفون الناس ، فإذا هم بابن مسعود ، فذكروا ذلك له ، فقال : ليبعث بهدي ، واجعلوا بينكم يوم أمارة ، فإذا ذبح الهدي فليحل ، وعليه قضاء عمرته .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن سليمان بن مهران ، عن عمارة بن عمير وإبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال : خرجنا مهلّين بعمرة فينا الأسود بن يزيد ، حتى نزلنا ذات الشقوق ، فلدغ صاحب لنا ، فشقّ ذلك عليه مشقة شديدة ، فلم ندر كيف نصنع به ، فخرج بعضنا إلى الطريق ، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود ، فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ ، فكيف نصنع به ؟ قال : يبعث معكم بثمن هدي ، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة ، فإذا نحر الهدي فليحل ، وعليه عمرة في قابل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ ، فمرّ علينا عبد الله فسألناه ، فقال : اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار ، فيبعث بثمن الهدي ، فإذا نحر حلّ وعليه العمرة .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت إبراهيم النخعي يحدّث عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : أهلّ رجل منا بعمرة ، فلدغ ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود ، فسألوه ، فقال : يبعث بهدى ، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا ، فإذا كان ذلك اليوم فليحلّ . وقال عمارة بن عمير : وكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : وعليه العمرة من قابل .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : خرجنا عمارا ، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا ، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به ، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب ، فقلنا له : لدغ صاحب لنا ، فقال : اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما . وليرسل بالهدي ، فإذا نحر الهدي فليحلل ، ثم عليه العمرة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن الحجاج ، قال : حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن ابن مسعود : أن عمرو بن سعيد النخعي أهلّ بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها ، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوّفون الناس ، فإذا هم بابن مسعود ، فذكروا ذلك له ، فقال : ليبعث بهدي ، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار ، فإذا ذبح الهدي فليحلّ ، وعليه قضاء عمرته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ يقول : من أحرم بحج أو عمرة ، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه ، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي ، شاة فما فوقها يذبح عنه . فإن كانت حجة الإسلام ، فعليه قضاؤها ، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه . ثم قال : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ فإن كان أحرم بالحجّ فمحله يوم النحر ، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فهو الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس عن البيت فيهدي إلى البيت ، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه ، فأتمّ الله له حجه . والاحصار أيضا : أن يحال بينه وبين الحجّ ، فعليه هدي إن كان موسرا من الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . ويجعل حجه عمرة ، ويبعث بهديه إلى البيت ، فإذا نحر الهدي فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل عليّ رضي الله عنه عن قول الله عزّ وجل : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي ، فإذا نحر عنه حلّ ، ولا يحلّ حتى ينحر هديه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت عطاء يقول : من حبس في عمرته ، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدّق بشيء أو يصوم ، ومن اعترض لهديته ، وهو حاجّ ، فإن محلّ الهدي والإحرام يوم النحر ، وليس عليه شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ الرجل يحرم ثمّ يخرج فيحصر ، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير ، وإما تنكسر راحلته ، فإنه يقيم ، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها . فإن هو صحّ فسار فأدرك فليس عليه هدي ، وإن فاته الحجّ فإنها تكون عمرة ، وعليه من قابل حجة . وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر . فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر ، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة ، فنحر عنه بمكة ويحلّ ، وعليه من قابل حجة وعمرة . ومن الناس من يقول عمرتان . وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه ، فعليه من قابل عمرتان ، وأناس يقولون : لا بل ثلاث عُمَرٍ نحو مما صنعوا في الحج حين صنعوا ، عليه حجة وعمرتان .
حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو ، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة ، فإنه يبعث بها مكانه ، ويواعد صاحب الهدي . فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر . فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي ، فإنه يحل حيث يحبس ، وإن كان معه هدي فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به ، وليس عليه أن يحج قابلاً ولا يعتمر إلا أن يشاء .
وعلة من قال هذه المقالة ، أن محل الهدايا والبدن الحرم أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ ، فجعل محلها الحرم ، ولا محلّ للهدي دونه .
قالوا : وأما ما ادّعاه المحتجون بنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم هداياه بالحديبية حين صدّ عن البيت فليس ذلك بالقول المجتمع عليه ، وذلك أن :
الفضل بن سهل حدثني ، قال : حدثنا مخوّل بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي ، عن أبيه ، عن ناجية بن جندب الأسلمي ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم حين صدّ عن الهدي ، فقلت : يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم قال : «كَيْفَ تصْنَعُ بهِ » ؟ قلت : آخذ به أودية فلا يقدرون عليه . فانطلقت به حتى نحرته بالحرم .
قالوا : فقد بين هذا الخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر هداياه في الحرم ، فلا حجة لمحتجّ بنحره بالحديبية في غير الحرم .
وقال آخرون : معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا . وقالوا : إنما معنى ذلك : فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم فمنعتم من المضيّ لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدوّ وأداء اللازم لكم وحجكم حتى فاتكم الوقوف بعرفة ، فإن عليكم ما استيسر من الهدي لما فاتكم من حجكم مع قضاء الحجّ الذي فاتكم . فقال أهل هذه المقالة : ليس للمحصر في الحجّ بالمرض والعلل غيره الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحجّ . قالوا : فأما إن أطاق شهود المشاهد فإنه غير محصر . قالوا : وأما العمرة فلا إحصار فيها ، لأن وقتها موجود أبدا . قالوا : والمعتمر لا يحلّ إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه . قالوا : ولم يدخل المعتمر في هذه الآية ، وإنما عنى بها الحاج .
ثم اختلف أهل هذه المقالة ، فقال بعضهم : لا إحصار اليوم بعدوّ كما لا إحصار بمرض يجوّز لمن فاته أن يحلّ من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبر اهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن طاوس ، قال : قال ابن عباس : لا إحصار اليوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت : لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا حصر إلا من حبسه عدو ، فيحل بعمرة ، وليس عليه حج ولا عمرة .
وقال آخرون منهم : حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم ، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم . ذكر من قال ذلك : وقال : ومعنى الآية : فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبري يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، قال : كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج ، ويقول : أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلاً ، ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت ويقيم على إحرامه كما هو إلا أن تصيبه جراحة أو جرح ، فيتداوى بما يصلحه ويفتدي . فإذا وصل إلى البيت ، فإن كانت عمرة قضاها ، وإن كانت حجة فسخها بعمرة ، وعليه الحج من قابل والهدي ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع : أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا ، فرأى به كسرا فاستفتاه ، فأمره أن يقف كما هو لا يحلّ من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي . وكان أهلّ بالحج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ، قال : من أحصر بعد أن يهلّ بحجّ ، فحبسه خوف أو مرض أو خلا له ظهر يحمله أو شيء من الأمور كلها ، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بدّ له منه ، غير أنه لا يحلّ من النساء والطيب ، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيامٍ أو صدقة أو نسك . فإن فاته الحجّ وهو بمحبسه ذلك ، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة ، فقد فاته الحجّ ، وصارت حجته عمرة يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة . فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من المسجد الحرام ، ثم حلق رأسه ، أو قصر ، ثم حلّ من النساء والطيب وغير ذلك . ثم عليه أن يحجّ قابلاً ويهدي ما تيسر من الهدي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : المحصر لا يحلّ حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة . وإن اضطّر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بدّ له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى .
فهذا ما رُوي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه ، وأما في المحصر بالعدوّ فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله .
حدثني تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال : أخبرنا عبيد الله ، عن نافع : أن ابن عمر أراد الحجّ حين نزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله ، فقالا : لا يضرّك أن لا تحجّ العام ، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت . قال : إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع .
وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم إنه لا إحصار فيها ولا حصر ، فإنه :
حدثني به يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر ، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهلّ بعمرة فأحصر ، قال : فكتب إلى ابن عباس وابن عمر ، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي ، ثم يقيم حتى يحلّ من عمرته . قال : فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يعقوب ، عن أبي العلاء بن الشخير ، قال : خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري فكسرت رجلي . فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما ، فقالا : إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحجّ ، لا تحلّ حتى تطوف بالبيت ، قال : فأقمت بالدّثِينَةِ أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال : خرجت إلى مكة ، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس ، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس ، فلم يرخص لي أحد أن أحلّ ، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر ، قال : يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة ، ويحلق أو يقصر ، وليس عليه شيء .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال : إن الله عزّ وجل عنى بقوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوُسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ كل محصر في إحرام بعمرة كان إحرام المحصر أو بحجّ ، وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه ، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله . وتأول بالمحل المنحر أو المذبح ، وذلك حين حلّ نحرُه أو ذبحُه في حرم كان أو في حلّ ، وألزمه قضاء ما حلّ منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلاً ، وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صدّ عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة ، فنحر هو وأصحابه بأمره الهديَ ، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت ، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده . ولم يدّع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة ، ولا يخفى وصول هديه إلى الحرم .
فأولى الأفعال أن يقتدى به ، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يأت بحظره خبر ، ولم تقم بالمنع منه حجة . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك ، فمن متأوّل معنى الآية تأويلنا ، ومن مخالف ذلك ، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية ، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذٍ نزلت ، وفي حكم صدّ المشركين إياه عن البيت أوحيت .
وقد رُوي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : ثني الحجاج بن أبي عثمان ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه ، قال : حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلّ وَعَلَيْهِ حَجّةٌ أُخْرَى » قال : فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك ، فقالا : صدق .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا مروان ، قال : حدثنا حجاج الصوّاف ، وحدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن الحجاج الصوّاف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه ، وعن ابن عباس وأبي هريرة .
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حلّ منها نظير فعل النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية .
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدوّ إذا حلّ من إحرامه التطوّع فلا قضاء عليه ، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء ، ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء وأسقطت عن الاَخر ، وكلاهما قد حلّ من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة ؟
فإن قال : لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو ، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه قيل له : قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم ، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك ، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما ، وإن اختلفت أسباب منعهما ، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه ، والاَخر بمنع مانع ؟ ثم يسئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
وأما الذين قالوا : لا إحصار في العمرة ، فإنه يقال لهم : قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت ، وهو محرم بالعمرة ، فحل من إحرامه ؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها ؟ أو رأيتم إن قال قائل : لا إحصار في حج ، وإنما فيه فوت ، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحجّ سنة ؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين . فأما العمرة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّ فيها ما سنّ ، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بين من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم ، ففيها الإحصار دون الحجّ هل بينها وبينه فرق ؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ .
يعني بذلك جل ثناؤه فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ، وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ إلا أن يضطرّ إلى حلقه منكم مضطرّ ، إما لمرض ، وإما لأذى برأسه ، من هوامّ أو غيرها ، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به ، وإن لم يبلغ الهدي محلّه ، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك ، فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما أذًى من رأسه ؟ قال : القمل وغيره ، والصداع ، وما كان في رأسه .
وقال آخرون : لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحجّ بالنسك أو الإطعام إلا بعد التكفير ، وإن أراد أن يفتدي بالصوم حلق ثم صام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن ، قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة ، أو يطعم المساكين ، وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : إذا أهلّ الرجل بالحجّ فأحصر بعث بما استيسر من الهدي شاة ، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محلّه ، فحلق رأسه ، أو مسّ طيبا أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي ، ولا يحلق رأسه ، ولا يحلّ حتى يوم النحر . فمن كان مريضا ، أو اكتحل ، أو ادّهن ، أو تداوى ، أو كان به أذى من رأسه ، فحلق ، ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ هذا إذا كان قد بعث بهديه ، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض ، وإلى طيب ، وإلى ثوب يلبسه ، قميص أو غير ذلك ، فعليه الفدية .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، قال : حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : من أحصر عن الحجّ فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه ، فحلق رأسه في محبسه ذلك ، فعليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قال : من أحصر بعد أن يهلّ بحجّ ، فحبسه مرض أو خوف ، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه ، غير أنه لا يحلّ له النساء والطيب ، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها : صيامٍ ، أو صدقة ، أو نسك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني بشر بن السريّ ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل عليّ رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ قال : هذا قبل أن ينحر الهدي ، إن أصابه شيء فعليه الكفارة .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحِلاق إذا أراد حلاقه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فمن اشتدْ مرضه أو آذاه رأسه وهو محرم ، فعليه صيام أو إطعام أو نسك ، ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك . وعلة من قال هذه المقالة ما .
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يعقوب ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فقال : إن كعب بن عجرة مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير ، فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام : «هَلْ عِنْدَكَ شاةٌ » ؟ فقال كعب : ما أجدها . فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنْ شِئْتَ فأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين ، وإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، ثُم احْلِقْ رأسَكَ » .
فأما المرض الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس ، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه ، وما أشبه ذلك ، والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان .
وأما الأذى الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه ، فنحو الصداع والشقيقة ، وما أشبه ذلك ، وأن يكثر صئبان الرأس ، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرّة الحالّة به ، فيكون ذلك له بعموم قول الله جل وعزّ : أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة ، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه ، وذلك عام الحديبية . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة ، قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان ، فقال : «إن هَذَا لأذًى » ، قلت : أجل يا رسول الله شديد ، قال : «أمَعَكَ دَمٌ » ؟ قلت : لا . قال : «فإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، وَإنْ شِئْتَ فَتصَدّقْ بِثَلاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ على سِتّةِ مَساكِين ، على كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاع » .
حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي ، قال : حدثنا خالد الطحان ، عن داود ، عن عامر ، عن كعب بن عجرة ، عن النبيّ بنحوه .
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أسد بن عمرو ، عن أشعث ، عن عامر ، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة ، قال : خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر ، قد قملت وأكلني الصئبان . فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «احْلِقْ » ففعلت ، فقال : «هَلْ لَكَ هَدْيٌ ؟ » فقلت : ما أجد . فقال : «إنّهُ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ » ، فقلت : ما أجد . فقال : «صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ » . قال : ففيّ نزلت هذه الآية : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ إلى آخر الآية .
وهذا الخبر ينبىء عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق ، وفساد قول من قال : يفتدي ثم يحلق لأن كعبا يخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالفدية بعد ما أمره بالحلق فحلق .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل ، عن كعب بن عجرة أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام ، أو فَرْق من طعام بين ستة مساكين .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل ، قال : قعدت إلى كعب وهو في المسجد ، فسألته عن هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقةٍ أوْ نُسُكٍ فقال كعب : نزلت فيّ كان بي أذى من رأسي ، فحمُلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : «ما كُنْتُ أرَى أنّ الجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ ما أرَى ، أتجِدُ شاةً ؟ » فقلت : لا فنزلت هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ . قال : فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة .
حدثني تميم ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، قال : سمعت عبد الله بن معقل المري ، يقول : سمعت كعب بن عجرة يقول : حججت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي ، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليّ فقال : «ما كُنْتُ أرَى هَذَا أصَابَكَ » ، ثم قال : «ادْعُوا لي حَلاّقا » فدعوه ، فحلقني . ثم قال : «أعِنْدَكَ شَيْء تَنْسُكُهُ عَنْكَ ؟ » قال : قلت لا . قال : «فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعامٍ » . قال كعب : فنزلت هذه الآية فيّ خاصة : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك ، ثم كانت للناس عامّة .
حدثني نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثني أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : «أتُؤْذِيكَ هَوَامّ رأسِكَ ؟ » قال : قلت نعم قال : «احْلِقْهُ وَصم ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين ، أوِ اذْبَحْ شاةً » .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، إلا أنه قال : والقمل يتناثر عليّ ، أو قال : على حاجبيّ . وقال أيضا : «أو انسك نسيكة » . قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ، قال : فيّ أنزلت هذه الآية ، قال : فقال لي : «ادْنُه » فدنوت ، فقال : «أيؤذِيكَ هوامّك ؟ قال : أظنه قال نعم . قال : فأمرني بصيام ، أو صدقة ، أو نسك ما تيسر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح بن أبي الخليل عن مجاهد ، عن كعب بن عجرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوامّ رأسه تتناثر على وجهه ، فقال : «أتُؤْذِيكَ هَوَامّكَ ؟ » قال : نعم . قال : «احْلِقْ رأسْكَ وَعَلَيْكَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ ، تذبَحُ ذَبيحَةً أوْ تَصُومُ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ تُطْعِمُ سِتّةَ مَساكِينَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن أبي الخليل ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : ذكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية ، ثم ذكر نحوه .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : وأخبرني سيف ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً ، فقال : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّكَ ؟ » قال قلت : نعم . قال : «فاحْلِقْ » قال : ففيّ نزلت هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صدَقَةِ أوْ نُسُك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتهافت عليّ ، فقال : «أتُؤْذِيكَ هَوَامّكَ » ؟ قال : قلت : نعم قال : «فاحْلِق ، وَانْسُكْ نَسِيكَةٍ ، أوْ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ فَرَقا بَيْنَ سِتّة مَساكِين » . قال أيوب : انسك نسيكة . وقال ابن أبي نجيح : اذبح شاة . قال سفيان : والفرق ثلاثة آصع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه ، فقال : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّكَ ؟ » قال : نعم . فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة . فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون ، وقد حصرنا المشركون . قال : وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوامّ تساقط على وجهي . فمرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّ رأسِكَ ؟ » قال : قلت نعم . ونزلت هذه الآية : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن كعب بن عجرة ، قال : لفيّ نزلت وإياي عنى بها : فَمَنْ كانَ منكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية ، وهو عند الشجرة ، وأنا محرم : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّهُ ؟ » قلت : نعم ، أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك . فأنزل الله جل وعز : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك والنسك . شاة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، قال : قال كعب بن عجرة : والذي نفسي بيده ، لفيّ نزلت هذه الآية ، وإياي عنى بها ، ثم ذكر نحوه ، قال : وأمره أن يحلق رأسه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال : «صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينُ مُدّيْنِ مُدّيْن لِكلّ إنْسانٍ ، أوِ أنْسُكْ بِشاةٍ ، أيّ ذلك فعلت أجزأك » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، ( عن ابن أبي ليلى ) عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «لَعَلّهُ آذَاكَ هَوَامّكَ ؟ » يعني القمل ، قال : فقلت : نعم يا رسول الله . فقال رسول الله : «احْلِقْ رأسَكَ ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينَ ، أوِ أنْسُكْ بِشاة » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك بن أنس حدّثه ، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال : أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة ، عن كعب بن عجرة أنه قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي ، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملاً ، فأخذ بجبهتي ، ثم قال : «احْلِقْ هَذَا ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكيِن » ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن نافع ، قال : حدثني أسامة بن زيد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن كعب بن عجرة ، قال كعب : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي ، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا روح ، عن أسامة بن زيد ، عن محمد بن كعب ، قال : سمعت كعب بن عجرة يقول : أمرني ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن أحلق وأفتدي بشاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن الزبير بن عدي ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق ، فسألته عن حلق رأسه ؟ فقال : أحرمتُ فآذاني القمل . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي ، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «احْلِقْهُ وأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريح ، قال : أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها ، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أتُؤْذِيكَ هَذِهِ الهَوَامّ ؟ » قال : نعم . قال : «فاحْلِقْ وَاجْزُزْ ثُمّ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينَ مُدّيْنِ مُدّيْنِ » . قال : قلت أسمى النبي صلى الله عليه وسلم مدّين مدّين ؟ قال : نعم ، كذلك بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك لكعب ، ولم يسمّ النسك . قال : وأخبرني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحلق والنحر ، لا يدري عطاء كم بين الحلق والنحر .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني الليث ، عن ابن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن فضالة بن محمد الأنصاري ، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه : أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه ، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله ، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو الأسود ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، عن مخرمة ، عن أبيه ، قال : سمعت عمرو بن شعيب يقول : سمعت شعيبا يحدّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة : «أيُؤْذِيَكَ دَوَابّ رأسِكَ ؟ » قال : نعم ، قال : «فاحْلِقْهُ وَافْتَدِ إمّا بِصَوْم ثَلاثَةِ أيّامٍ ، وإمّا أنْ تُطْعِمَ سِتّةَ مَساكِين ، أوْ نُسُكِ شاةٍ » ففعل .
وقد بينا قبل معنى الفدية ، وأنها بمعنى الجزاء والبدل .
واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه ، فقال بعضهم : الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام ، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع . واعتلّوا بالأخبار التي ذكرناها قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : الصيام : ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله : فَفِدّيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا : الصيام ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة فصاعدا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن معقل ، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : الصيام ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة فصاعدا إلا أنه قال في إطعام المساكين : ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فمَنْ كانَ مِنكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك إن صنع واحدا فعليه فدية ، وإن صنع اثنين فعليه فديتان ، وهو مخير أن يصنع أيّ الثلاثة شاء . أما الصيام فثلاثة أيام ، وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، وأما النسك فشاة فما فوقها . نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه ، فحلقه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فمن كان مريضا أو اكتحل ، أو ادّهن ، أو تداوى ، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق ، ففدية من صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة فرق بين ستة مساكين ، أو نسك ، والنسك : شاة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حّتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ قال : فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق ، ففدية من صيام أو صدقة ، أو نسك . قال : فالصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : إطعام ستة مساكين ، بين كل مسكينين صاع . والنسك : شاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما ، قال : مدّا لطعامه ، ومدّا لإدامه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة بإسناده مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل عليّ رضي الله عن قول الله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين ، والنسك : شاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يزيد بن أبي حبيب ، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب ، وهو يذكر الرجل الذي نزل فيه : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأسِهِ قال : فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما الصيام : فثلاثة أيام ، وأما المساكين فستة ، وأما النسك فشاة .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : إذا أهلّ الرجل بالحجّ فأحصر بعث بما استيسر من الهدي شاة ، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله حلق رأسه ، أو مسّ طيبا ، أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . والصيام : ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، والنسك : شاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا : الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين ، والنسك : شاة .
وقال آخرون : الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى ، أو تطيب لعلة من مرض ، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم من الصوم : صيام عشرة أيام ، ومن الصدقة : إطعام عشرة مساكين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي عمران ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه ، حلق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء فالصيام : عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كل مسكين مكّوكين ، مكوكا من تمر ، ومكوكا من برّ ، والنسك : شاة .
حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي ، قال : حدثنا بشر بن عمرو ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : إطعام عشرة مساكين .
وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه ، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلاً من دم على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي . وقالوا : جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده ، قالوا : فكل صوم وجب مكان دم فمثله ، قالوا : فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان . قالوا : فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره ، فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق .
وقال آخرون : بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده ، فإن لم تكن عنده قوّمت الشاة دراهم والدراهم طعاما ، فتصدّق به ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : ذكر الأعمش ، قال : سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فأجابه بقوله : يحكم عليه إطعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، فإن لم تكن قوّمت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدّق ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما . فقال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر . قال : لما قال لي سعيد بن جبير : هذا ما أظرفه قال : قلت : هذا إبراهيم قال : ما أظرفه كان يجالسنا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت «يجالسنا » ، انتفض منها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يحكم على الرجل في الصيد ، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما ، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما ، وكذلك الفدية .
وقال آخرون : بل هو مخير بين الخلال الثلاث يفتدي بأيها شاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » ، فهو بالخيار ، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود ، فأيهما خرج أخذته .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » فصاحبه بالخيار ، يأخذ الأولى فالأولى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : كل ما كان في القرآن «كذا فمن لم يجد فكذا » فالأول فالأول ، وكل ما كان في القرآن «أو كذا أو كذا » ، فهو فيه بالخيار .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وسئل عن قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فقال مجاهد : إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء «أو أو » ، فإن شئت فخذ بالأول ، وإن شئت فخذ بالاَخر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال لي عطاء وعمرو بن دينار في قوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا : له أيتهنّ شاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : كل شيء في القرآن «أو أو » ، فلصاحبه أن يختار أيه شاء .
قال ابن جريج : قال لي عمرو بن دينار : كل شيء في القرآن أو أو ، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا : ما كان في القرآن «أو كذا أو كذا » ، فصاحبه بالخيار ، أيّ ذلك شاء فعل .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن ليث ومجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كلّ شيء في القرآن «أو أو » ، فهو مخير فيه ، فإن كان «فمن فمن » ، فالأولَ فالأولَ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » ، فليتخير أيّ الكفارات شاء ، فإذا كان «فمن لم يجد » ، فالأول فالأول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قال : حدثت عن عطاء ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » فهو خيار .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ويفتدي إن شاء بنسك شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع . وللمفتدي الخيار بين أيّ ذلك شاء لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها ، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها ، بل جعل إليه فعل أيّ الثلاث شاء . ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له : ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير إذا كان موسرا في أن يكفر بأيّ الكفارات الثلاث شاء ؟ فإن قال : لا ، خرج من قول جميع الأمة ، وإن قال بلى ، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به ، ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله . على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة ، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق ، فإنه يقال لهم : أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده ؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم : وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين . فإن زعموا أن ذلك كذلك ، خرجوا من قول الأمة . وإن قالوا : ذلك غير جائز . قيل : وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة الحلق قبل الحلق وهدي المتعة قبل التمتع ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين ؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
فإن اعتلّ في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة ، قيل له فردّ الأخرى قياسا عليها إن كان فيها اختلاف .
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى من الصيام : عشرة أيام ، ومن الإطعام : عشرة مساكين فمخالفون نصّ الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقال لهم : أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام ، أتسوّون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام ، أم تفرّقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر ؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سوّوا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية من الإطعام والصيام وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف . وإن قالوا : بل نخالف بين ذلك ، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام . قيل : فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم ، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي ، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة ، وإنما هو تارك عملاً من الأعمال ، وتركتم ردّ الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه ، ومخير بين الكفارات الثلاث ، نظير مصيب الصيد ، الذي هو بإصابته إياه له متلف ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث ؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد ، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا ، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقولوا في ذلك قولاً إلا ألزموا في الاَخر مثله ، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره ، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقياس عليه بالفساد شاهد ؟
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته ، فقال بعضهم : النسك والإطعام بمكة لا يجزىء بغيرها من البلدان . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : ما كان من دم أو صدقة فبمكة ، وما سوى ذلك حيث شاء .
حدثني يحيى بن طلحة ، حدثنا فضيل ، عن ليث ، عن طاوس ، قال : كل شيء من الحجّ فبمكة ، إلا الصوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن النسك ، قال : النسك بمكة لا بد .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : الصدقة والنسك في الفدية بمكة ، والصيام حيث شئت .
حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا ليث ، عن طاوس أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبل ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : النسك بمكة أو بمنى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : النسك بمكة أو بمنى ، والطعام بمكة .
وقال آخرون : النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، قال : أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حجّ عثمان ومعه عليّ والحسين بن علي رضوان الله عليهم ، فارتحل عثمان قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر قال : فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلنا له : أيها النائم فاستيقظ ، فإذا الحسين بن عليّ . قال : فحمله ابن جعفر حتى أتى به السّقْيا . قال : فأرسل إلى عليّ ، فجاء ومعه أسماء بنت عميس . قال : فمرّضناه نحوا من عشرين ليلة . قال : فقال عليّ للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ إلى رأسه . قال : فأمر به عليّ فحلق رأسه ، ثم دعا ببدنة فنحرها .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر ، يحدث : أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان ، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن عليّ ، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس . قال أبو أسماء : فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر ، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع ، فقال عبد الله بن جعفر : إن هذه لراحلة حسين . فلما دنا منه قال له : أيها النائم وهو يظنّ أنه نائم فلما دنا منه وجده يشتكي ، فحمله إلى السقيا ، ثم كتب إلى عليّ فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة . ثم إن عليا قيل له : هذا حسين يشير إلى رأسه ، فدعا عليّ بجزور فنحرها ، ثم حلق رأسه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، قال : أقبل حسين بن عليّ مع عثمان حراما ، حسبت أنه اشتكى بالسقيا . فذكر ذلك لعليّ ، فجاء هو وأسماء بنت عميس ، فمرّضوه عشرين ليلة ، فأشار حسين إلى رأسه ، فحلقه ونحر عنه جزورا . قلت : فرجع به ؟ قال : لا أدري .
وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر عليّ عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه ، ثم حلقه رأسه بعد النحر إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن الحجّ بالمرض الذي أصابه ، وإن كان على ما رواه يعقوب عن هشيم من نحر عليّ عنه الناقة بعد حلقه رأسه أن يكون على وجه الافتداء من الحلق ، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزىء نحره دون مكة والحرم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الفدية حيث شئت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن الحكم ، عن إبراهيم في الفدية في الصدقة والصوم والدم : حيث شاء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبيدة ، عن إبراهيم أنه كان يقول ، فذكر مثله .
وقال آخرون : ما كان من دم نسك فبمكة ، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، وعبد الملك وغيرهما ، عن عطاء أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وعلة من قال : الدم والإطعام بمكة ، القياس على هدي جزاء الصيد وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة فقال : يَحكُمُ بهَ ذَوا عَدْلٍ منكُم هدْيا بالغَ الكعبْةِ . قالوا : فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام ، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة . قالوا : وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله ، لأنها واجبة لمن وجب عليه الهدي ، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم ، فحكمهما واحد .
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدّق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا ، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما ، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم ، وإذا دخل في عداد من يستحقّ ذلك الاسم كان مؤدّيا ما كلفه الله ، لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة لشرط ذلك عليه ، كما شرط في جزاء الصيد ، وفي ترك اشتراط ذلك عليه دليل واضح ، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ .
وأما علة من قال : النسك بمكة والصيام والإطعام حيث شاء ، فالنسك دم كدم الهدي ، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد .
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان دون مكان ، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة ، فليس لأحد أن يدّعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان ، إذْ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه ، كما ليس لأحد أن يدّعى أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم ، إذ كان الله قد خصّ أن ذلك لمن به من أهل المسكنة .
والصواب من القول في ذلك ، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان ، بل أبهم ذلك وأطلقه ، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام فيجزي عن المفتدي ، وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يجب أن يكنّ مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها ، فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز ردّ حكمها على المفسرة قياسا ، ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه ، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول ، إذ كان هو المبين عن مراد الله . وأجمعوا على أن الصيام مجزىء عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد .
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق ، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا ؟ فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه ، ولكن عليه أن يتصدّق بجميعه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك ، عن عطاء ، قال : ثلاث لا يؤكل منهنّ : جزاء الصيد ، وجزاء النسك ، ونذر المساكين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن عطاء قال : لا تأكل من فدية ، ولا من جزاء ، ولا من نذر ، وكل من المتعة ، ومن الهدي التطوّع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن مجاهد ، قال : جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها ، ويأكل من التطوّع والتمتع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن الحجاج ، عن عطاء ، قال : لا تأكل من جزاء ، ولا من فدية ، وتصدّق به .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما ، عن عطاء أنه كان يقول : لا يؤكل من جزاء الصيد ، ولا من النذر ، ولا من الفدية ، ويؤكل مما سوى ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا : لا يؤكل من الفدية . وقال مرة : من هدي الكفارة ، ولا من جزاء الصيد .
وقال بعضهم : له أن يأكل منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر قال : لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ، ويؤكل مما سوى ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، قال : من الفدية وجزاء الصيد والنذر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، قال : الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء ، ويتصدّق على ستة مساكين .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني عبد الملك ، قال : ثني من سمع الحسن ، يقول : كل من ذلك كله ، يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا الأشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين .
وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية ، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين : إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره ، فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه ، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له أو يكون له وحده ، وما وجب له فليس عليه لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال : وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة ، وإنما يجب له على غيره ، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه . أو يكون وجب عليه له ولغيره ، فنصيبه الذي وجب له من ذلك غير جائز أن يكون عليه لما وصفنا . وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك ، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله .
قالوا : وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول .
وعلة من قال له أن يأكل من ذلك أن الله أوجب على المفتدي نسكا ، والنسك في معاني الأضاحي وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية .
قالوا : ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين . قالوا : فإذا ذبح فقد نسك ، وفعل ما أمره الله ، وله حينئذ الأكل منه ، والصدقة منه بما شاء ، وإطعام ما أحبّ منه من أحب ، كما له ذلك في أضحيته .
والذي نقول به في ذلك : أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك ، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره ، أو ذبحه والتصدّق به . فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه ، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه ، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا ، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله ، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به فإن كان ذلك عليه ، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدّق به ، كما لو لزمته زكاة في ماله لم يكن له أن يأكل منها ، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم . ففي إجماعهم على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره ، دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره .
ومعنى النسك : الذبح لله في لغة العرب ، يقال : نسك فلان لله نسيكة ، بمعنى : ذبح لله ذبيحة يَنْسكها نَسكا . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : النسك : أن يذبح شاة .
القول في تأويل قوله تعالى : فإذَا أمِنْتُمْ .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : فإذَا أمِنْتُمْ فإذا برأتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ يقول : فإذا أمنت حين تحصر إذا أمنت من كسرك من وجعك ، فعليك أن تأتي البيت فيكون لك متعة ، فلا تحل حتى تأتي البيت .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا أمنتم من وجع خوفكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإذَا أمِنْتُمْ لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فإذَا أمِنْتُمْ قال : إذا أمن من خوفه ، وبرأ من مرضه .
وهذا القول أشبه بتأويل الآية ، لأن الأمن هو خلاف الخوف ، لا خلاف المرض ، إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك ، فيقال : فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته ، وذلك معنى بعيد .
وإنما قلنا : إن معناه الخوف من العدو لأن هذه الاَيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون ، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج ، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك ، فزال عنهم خوفهم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ .
يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أحصرتم أيها المؤمنون ، فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التمتع الذي عنى الله بهذه الآية ، فقال بعضهم : هو أن يحصره خوف العدو ، وهو محرم بالحج أو مرض أو عائق من العلل حتى يفوته الحج ، فيقدم مكة ، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة ، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة ، ثم يحج ويهدي ، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأوّل إلى إحرامه الثاني من القابل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى البصري ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، قال : سمعت ابن الزبير وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحجّ كما تصنعون ، إنما التمتع أن يهلّ الرجل بالحجّ فيحصره عدوّ أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحجّ فيقدم فيجعلها عمرة ، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحجّ ويهدي هديا ، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحجّ .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : كان ابن الزبير يقول : المتعة لمن أحصر . قال : وقال ابن عباس : هي لمن أحصر ومن خليت سبيله .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرني ابن جريج قال : قال عطاء : كان ابن الزبير يقول : إنما المتعة للحصر وليست لمن خلي سبيله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة : فإنْ أُحْصِرْتُمْ قال : إذا أهلّ الرجل بالحجّ فأحصر . قال : يبعث بما استيسر من الهدي شاة . قال : فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله ، وحلق رأسه ، أو مسّ طيبا ، أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . فإذَا أمِنْتُمْ : فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت حلّ من حجه بعمرة وكان عليه الحجّ من قابل . وإن هو رجع ولم يتمّ إلى البيت من وجهه ذلك ، فإنّ عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة . فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحجّ ، فإن عليه ما استيسر من الهدي شاة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس في ذلك كله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي قال : هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه ، فإذا بلغت محلها صار حلالاً . فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة وأحل وعليه الحجّ عاما قابلاً . وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله ، فعليه عمرة وحجة وهدي . قال قتادة : والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ إلى : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال : هذا المحصر إذا أمن فعليه المتعة في الحجّ وهدي المتمتع ، فإن لم يجد فالصيام ، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحجّ فعليه فيها هدي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السريّ ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن عليّ : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي .
وقال آخرون : عَنَى بذلك المحصر وغير المحصر . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرني ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول : المتعة لمن أحصر ، ولمن خلي سبيله . وكان ابن عباس يقول : أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن فسخ حجه بعمرة ، فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه ، فعليه ما استيسر من الهدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ أما المتعة فالرجل يحرم بحجة ، ثم يهدمها بعمرة . وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين حاجا ، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أحَبّ مِنْكمْ أنْ يَحِلّ فَلْيَحِلّ » ، قالوا : فما لك يا رسول الله ؟ قال : «أنَا مَعِي هَدْيٌ » .
وقال آخرون : بل ذلك الرجل يقدم معتمرا من أفق من الاَفاق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشىء منها الحج ، فيحج من عامه ذلك ، فيكون مستمتعا بإحلال إلى إحرامه بالحج . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ من يوم الفطر إلى يوم عرفة ، فعليه ما استيسر من الهدي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : قدم ابن عمر مرة في شوال ، فأقمنا حتى حججنا ، فقال : إنكم قد استمتعتم إلى حجكم بعمرة ، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد ، ومن لا فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله .
حدثنا ابن بشار ، وعبد الحميد بن بيان قال ابن بشار : حدثنا ، وقال عبد الحميد : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن نافع ، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال ، فأدركهما الحج وهما بمكة ، فقال ابن عمر : من اعتمر معنا في شوال ثم حج ، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحجّ ، فساق هديا تطوّعا ، فقدم مكة في أشهر الحجّ ، قال : إن لم يكن يريد الحجّ ، فلينحر هديه ثم ليرجع إن شاء ، فإن هو نحر الهدي وحلّ ، ثم بدا له أن يقيم حتى يحجّ ، فلينحر هديا آخر لتمتعه ، فإن لم يجد فليصم .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، مثل ذلك .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول : من اعتمر في شوّال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحجّ ، فهو متمتع ، عليه ما على المتمتع .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، عن عطاء مثل ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ يقول : من أحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ، فما استيسر من الهدي .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع ، قال : أخبرني ابن جريج ، قال : كان عطاء يقول : المتعة لخلق الله أجمعين ، الرجل ، والمرأة ، والحرّ ، والعبد ، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحجّ ثم أقام ولم يبرح حتى يحجّ ، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت المتعة من أجل أنه اعتمر في شهور الحجّ فتمتع بعمرة إلى الحجّ ، ولم تسمّ المتعة من أجل أنه يحلّ بتمتع النساء .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عَنَى بها : فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حلّ من إحرامه بالحجّ بسبب الإحصار بعمرة اعتمرها لفوته الحجّ في السنة القابلة في أشهر الحجّ إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ، ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحجّ ، فعليه ما استيسر من الهدي ، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحجّ وقضاها ثم حلّ من عمرته وأقام حلالاً حتى يحجّ من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ هو ما وصفنا من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحجّ والعمرة من الأحكام في إحصاره ، فكان مما أخبر تعالى ذكره أنه عليه إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحجّ ما استيسر من الهدي ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، كان معلوما بذلك أنه معنيّ به اللازم له عند أمنه من إحصاره من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ . }
يعني بذلك جل ثناؤه : فما استيسر من الهدي ، فهَدْيه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حلّ منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته ، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ في حجه وسبعة إذا رجع إلى أهله .
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهنّ في الحجّ أي أيّ أيام الحجّ هن ؟ فقال بعضهم : هن ثلاثة أيام من أيام حجه ، أيّ أيام شاء بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا حميد بن الأسود ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر في قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وإذا فاته صامها أيام منى .
حدثنا الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا حميد بن الأسود ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : المتمتع يصوم قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرهن يوم عرفة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج ، قال : يصوم قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ أنه قال : آخرها يوم عرفة .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا بشير ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي : صام يوما قبل يوم التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، وهارون عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر إلى يوم عرفة . قال : وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان : إذا صامهن في أشهر الحجّ أجزأه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صوم ثلاثة أيام للمتمتع ، إذا لم يجد ما يهدي يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه ، فإن صام الرجل في شوّال أو ذي القعدة أجزأه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : ثني يعقوب بن عطاء ، أن عطاء بن أبي رباح ، كان يقول : من استطاع أن يصومهنّ فيما بين أوّل يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : قبل يوم التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : فآخرها يوم عرفة .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قطر ، عن عطاء : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : عرفة وما قبلها من العشر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا : صيام ثلاثة أيام في الحج في العشر آخرهن عرفة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن خير ، قال : سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج ، قال : آخرهن يوم عرفة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ إلى : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ قبل يوم عرفة ، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تمّ صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
وقال آخرون : بل آخرهن انقضاء يوم منى . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عليا كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحجّ صامهنّ أيام التشريق .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : قالت عائشة : يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : قال ابن عمر : من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحجّ ، فليصم أيام التشريق فإنهنّ من الحج .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمر بن محمد أن نافعا حدّثه أن عبد الله بن عمر قال : من اعتمر في أشهر الحجّ فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق ، فليصم أيام منى .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدّث عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وعن سالم ، عن عبد الله بن عمر أنهما قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا هشام ، عن عبيد الله ، عن نافع عن ابن عمر قال : إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق ، فإنها من أيام الحجّ .
وذكر هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قال :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد عن هشام بن عروة ، عن أبيه في هذه الآية : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : هي أيام التشريق .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . قال : وقال عبيد بن عمير : يصوم أيام التشريق .
وعلة من قال : آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهنّ في الحجّ على من لم يجد الهدي من المتمتعين يوم عرفة ، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهنّ في الحجّ بقوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قالوا : وإذا انقضى يوم عرفة فقد انقضى الحجّ ، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام .
قالوا : وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر قالوا : فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز من أجل أنه ليس من أيام الحجّ ، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحجّ لأن أيام الحجّ متى انقضت من سنة ، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها . أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز من أجل أنه يوم عيد ، فأيام التشريق التي بعده في معناه لأنها أيام عيد ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صومهن كما نهى عن صوم يوم النحر .
قالوا : وإذا كان يفوت صومهن بمضيّ يوم عرفة لم يكن إلى صيامهن في الحجّ سبيل لأن الله شرط صومهن في الحجّ ، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته .
وعلة من قال : آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى ، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي ، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلاً .
قالوا : وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر ، ولو كان له واجدا قبل ذلك . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلاً . قالوا : والوقت الذي يلزمه فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر ، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره . قالوا : فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك ، وإنما لزمه يوم النحر فإنما لزمه الصوم يوم النحر ، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده ، فوجب عليه الصوم .
قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر ، وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر ، ومن ذلك الوقت إذا لم يجده يكون له الصوم . قالوا : وإذا طلع فجر يوم ولم يلزمه صومه قبل ذلك إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب ، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق .
قالوا : ولا معنى لقول القائل : إن أيام منى ليست من أيام الحج لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحجّ كما ينسك غير ذلك من أعمال الحجّ في الأيام قبلها .
قالوا : هذا مع شهادة الخبر الذي :
حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر ، أن يصوم أيام التشريق مكانها .
لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثني هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس ، فنادى في أيام التشريق ، فقال : إن هذه أيام أكل وشرب وذكر لله ، إلا من كان عليه صوم من هدي .
واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ والوقت الذي يجوز له فيه صومهن ، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن . فقال بعضهم : له أن يصومهن من أول أشهر الحج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وطاوس أنهما كانا يقولان : إذا صامهنّ في أشهر الحج أجزأه . قال : وقال مجاهد : إذا لم يجد المتمتع ما يهدي فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة ، متى ما صام أجزأه ، فإن صام الرجل في شوّال أو ذي القعدة أجزأه .
حدثني أحمد بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : من صام يوما في شوّال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة ، أجزأه عنه من صوم التمتع .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إن شاء صام أوّل يوم من شوّال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : إن شاء صامها في العشر ، وإن شاء في ذي القعدة ، وإن شاء في شوّال .
وقال آخرون : يصومهنّ في عشر ذي الحجة دون غيرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول : من استطاع أن يصومهنّ فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن الحجاج ، عن أبي جعفر ، قال : لا يصام إلا في العشر .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا الربيع ، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحجّ ، قال : في تسع من ذي الحجة أيها شئت ، فمن صام قبل ذلك في شوّال وفي ذي القعدة ، فهو بمنزلة من لم يصم .
وقال آخرون : له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال .
وقال آخرون : لا يجوز أن يصومهنّ إلا بعد ما يحرم بالحج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لا يصومهنّ إلا وهو حرام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو متمتع إلا أن يحرم . وقال مجاهد : يجزيه إذا صام في ذي القعدة .
والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهنّ لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر ، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة .
وإنما قلنا : له صوم أيام التشريق ، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قَبْلُ ، فإن صامهنّ قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزىء صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه ، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم متمتع بعمرته إلى حجه ، وإنما يقال له قبل إحرامه معتمر حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة ، فإذا دخل في الحج محرما به بعد قضاء عمرته في أشهر الحج ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالاً حتى حج من عامه سمي متمتعا . فإذا استحقّ اسم متمتع لزمه الهدي ، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده . فأما إن صامه قبل دخوله في الحجّ وإن كان من نيته الحج ، فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه ، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها ، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزىء من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث .
فإن ظن ظانّ أن صوم المعتمر بعد إحلاله من عمرته أو قبله وقبل دخوله في الحج مجزىء عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج ، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ لأن الله جعل ثناؤه جعل لليمين تحليلاً هو غير تكفير ، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها محلل غير مكفر . والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم تكفيرا لما يظنّ أنه يلزمه ولما يلزمه ، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله ، وعن تطيب قبل تطيبه .
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج ، قيل له : ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة ، وهو ينوي ترك الجمرات ، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات ، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك ؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه ، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحجّ التي أوجب الله في تضييعه على المحرم أو في فعله كفارة ، فإن سوّى بين جميع ذلك فاد قوله ، وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان ، وهو مقيم صحيح إذا كفر قبل دخول الشهر ، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك ، وكذلك يسئل عمن أراد أن يظاهر من امرأته ، فإن فاد قوله في ذلك ، خرج من قول جميع الأمة . وإن أبى شيئا من ذلك ، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحجّ ، ثم عكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتمْ . }
يعني جل ثناؤه بذلك : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره .
فإن قال لنا قائل : أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحجّ إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله ؟ قيل : بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته ، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه ، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدّة ما أفطر من الأيام من أيام أخر . ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه ، أو صامهنّ بمكة ، كان مؤدّيا ما عليه من فرض الصوم في ذلك ، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه ، مختارا للعسر على اليسر . وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : هي رخصة إن شاء صامها في الطريق .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : هنّ رخصة إن شاء صامها في الطريق ، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إن شاء صامها في الطريق ، وإنما هي رخصة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إن شئت صم السبعة في الطريق ، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن قطر ، عن عطاء ، قال : يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحبّ إليّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إن شئت في الطريق ، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك .
فإن قال : وما برهانك على أن معنى قوله : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه : إذا رجعتم من منى إلى مكة ؟ قيل : إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إذا رجعت إلى أهلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أمصاركم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إلى أهلك .
القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : كامِلَةٌ فقال بعضهم : معنى ذلك : فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال : كاملة من الهدي .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن الحسن ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كملت لكم أجر من أقام على إحرامه ولم يحلّ ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج .
وقال آخرون : معنى ذلك الأمر وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، وإنما عنى بقوله : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها ، لأنه فرض عليكم صومها .
وقال آخرون : بل قوله : كامِلَةٌ توكيد للكلام ، كما يقول القائل : سمعته بأذني ورأيته بعيني ، وكما قال : فَخَرّ عَلَيهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ولا يكون الخرّ إلا من فوق ، فأما من موضع آخر فإنما يجوز على سعة الكلام .
وقال آخرون : إنما قال : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وقد ذكر سبعة وثلاثة ، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة وليس يخبر عن عدّتها ، وقالوا : ألا ترى أن قوله : «كاملة » إنما هو وافية ؟ .
وأولى هذه الأقوال عندي قول من قال : معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها . وذلك أنه جل ثناؤه قال : فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ثم قال : تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج . فأخرج ذلك مخرج الخبر ، ومعناه الأمر بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ } . يعني جلّ ثناؤه بقوله ذَلِكَ أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني المتعة أنها لأهل الاَفاق ، ولا تصلح لأهل مكة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى ، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به ، وأنه لا متعة لهم . فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : أهل الحرم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا عن ابن عباس في قوله : حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : هم أهل الحرم ، والجماعةُ عليه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة إنه لا متعة لكم أحلت لأهل الاَفاق وحرّمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : ثني يحيى بن سعيد الأنصاري : أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون ، فيقدمون في أشهر الحجّ ثم يحجون ، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام أرخص لهم في ذلك ، لقول الله عزّ وجل : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أهل الحرم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : المتعة للناس ، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم ، وذلك قول الله عزّ وجل : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ . قال : وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : من كان دون المواقيت .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله ، إلا أنه قال : ما كان دون المواقيت إلى مكة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله من دون المواقيت ، فهو كأهل مكة لا يتمتع .
وقال بعضهم : بل عنى بذلك أهل الحرم ، ومن قرب منزله منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : عرفة ، ومرّ ، وعرنة ، وضَجنان ، والرجيع ، ونخلتان .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : عرفة ومرّ ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري في هذه الآية قال : اليوم واليومين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، قال : سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء : أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : أهل مكة وفَجّ وذي طوى ، وما يلي ذلك فهو من مكة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال : إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات لأن حاضر الشيء في كلام العرب هو الشاهد له بنفسه . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان لا يستحق أن يسمى غائبا إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه ، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة ، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم غائب عن وطنه ومنزله ، كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة غير مستحقّ أن يقال : هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته .
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام من أجل أن التمتع إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحجّ مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشىء منه الإحرام بالحجّ ، وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحجّ ثم انصرف إلى وطنه ، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة ، ثم حجّ من عامه ذلك ، بطل أن يكون مستمتعا لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع من ترك العود إلى الميقات والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم ، وكان المكيّ من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم ، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ . }
يعني بذلك جل اسمه : واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده ، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بيّن لكم من مناسككم ، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم . واعْلَمُوا : تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه .
{ وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ { وأقيموا الحج والعمرة لله } ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه " أنه قيل يارسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك " فمعارض بما روي " أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك " ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس . وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا . { فإن أحصرتم } منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل " وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير " حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني " { فما استيسر من الهدي } فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر . أو فاهدوا ما استيسر . والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل يذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر . لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على المكان والزمان . والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ { من الهدى } جمع هدية كمطى في مطية { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحلق . { أو به أذى من رأسه } كجراحة وقمل . { ففدية } فعليه فدية إن حلق . { من صيام أو صدقة أو نسك } بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة " لعلك آذاك هوامك ، قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة " والفرق ثلاثة آصع { فإذا أمنتم } الإحصار . أو كنتم في حال سعة وأمن . { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره . وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج . { فما استيسر من الهدي } فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية { فمن لم يجد } أي الهدي . { فصيام ثلاثة أيام في الحج } في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل . قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه . ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين . { وسبعة إذا رجعتم } إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وقرئ { سبعة } بالنصب عطفا على محل { ثلاثة أيام } . { تلك عشرة } فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين . وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي . { ذلك } إشارة إلى الحكم المذكور عندنا . والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قرآن لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية . { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه . ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك . { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان .