الآية 196 وقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) اختلفوا في تأويله وفي قراءته : قال بعض الناس : العمرة فريضة بهذه الآية لأنه أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج ، وقيل : هي الحجة الصغرى . وأما عندنا ليست بفريضة ، وليس في قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) دليل فرضيتها{[2247]} لأنا لم نعرف فرضية الحج بهذه الآية ، ولكن إنما عرفناه بقوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) [ آل عمران : 97 ] .
أحدها : أنهم كانوا [ يفتخون الحج والعمرة ]{[2248]} ، فأمروا بإتمامها على ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : ( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما ، وأعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء ) .
والثاني : أنهم كانوا لا يجعلون العمرة لله ، فأمروا بجعلها لله . وعلى ذلك روي في حرف ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ ( وأتموا الحج ) والعمرة{[2249]} لله [ وعن علي وأبي هريرة رضي الله عنه ]{[2250]} [ أنهما قالا : ( إن ){[2251]} من تمامهما أن تحرم من دويرة أهلك ) .
واحتج أصحابنا ، رحمهم الله ، أيضا بما روي عن جابر رضي الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله " العمرة واجبة هي ؟ قال : لا ، وإن تعتمر خير لك " [ الترمذي : 931 ] ، وروي أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحج مكتوب ، والعمرة تطوع " [ نصب الراية : 3/ 149 ] ، وفي بعضها قال : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " [ ابن ماجه : 2989 ] وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " الحج فريضة والعمرة تطوع " [ نصب الراية 3/149 وعن عائشة رضي الله عنها [ أنها ]{[2252]} قالت : قلت : يا رسول الله{[2253]} أكل أهلك يرجح بحجة وعمرة غيري ؟ قال : " انفري فإنه يكفيك " [ البخاري : 1561ٍ . إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا .
والأصل : احتج أصحابنا أيضا بشيء من النظر ؛ وذلك أن الله تعالى فرض الصلاة{[2254]} والزكاة والصيام في أوقات خصها بها ، واجمع أهل العلم أن المتطوع بالصدقة والصلاة والصيام{[2255]} يفعل ذلك متى شاء ، ثم أجمعوا أن العمرة لا وقت لها ، فدل ذلك على أنها تطوع ؛ إذ لو كانت فريضة كانت لها وقت مخصوص تفعل فيه كغيرها من الفرائض . فإن قيل : إن الحج : التطوع مخصوص بوقت كمخصوص المفروض منه ، فكما لا يدل الخصوص الذي في الحج التطوع على وجوبه ، فكذلك العموم الذي في العمرة لا يدل أنها تطوع . قيل : وجدنا الفرض كله مخصوصا لوقت ، ووجدنا التطوع على ضربين : منه ما هو مخصوص كالحج ، ومنه ما هو غير مخصوص كالصلاة والصيام والصدقة . فلما لم نجد في الفرض ما ليس بمخصوص بوقت ، [ فالعمرة تطوع ]{[2256]} غير فرض .
واحتجوا أيضا بأنا وجدنا العمرة تفعل في أشهر الحج ، ولم نجد صلاتين تفعلان بوقت واحد فريضتين ، ولكن تفعل الصلاة التطوع في وقت الفريضة . فثبت لما جاز أن يجمع بين فعل الحج والعمرة في وقت واحد أنها تطوع كالصلاة التي تفعل في وقت الظهر وغيرها .
واحتج من جعلها فرضا بأن قال : لم نجد شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض ، فلو كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل{[2257]} في الفرض . قيل : العمرة إنما هي الطواف والسعي ، ولذلك أصل في الفرض : فرض الحج مع ما أنا وجدنا الاعتكاف تطوعا ، وليس له أصل في الفرض . فعلى ذلك العمرة .
والأصل أن{[2258]} كل ما يبتدئ الله إيجابه على عباده فإنه يوجب فعله{[2259]} بأوقات ، أو يجعل [ لأدائه أوقاتا ]{[2260]} ، والعمرة ليس لوجوبها وقت ولا لأدائها ، ثبت أنها ليست مما أوجبها الله .
وقوله : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) الآية على الإضمار ، كأنه قال ، والله أعلم ( فإن أحصرتم ) عن الحج فأردتم أن تحلوا ، فاذبحوا ( فما استيسر من الهدى ) إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي ، لكنه إذا أراد الخروج منه يخرج بهدي . وعلى ذلك يخرج قوله : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ) [ البقرة : 183 ] كأنه قال ، والله أعلم ، من ( كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ) البقرة : 183 ] كأنه قال ، والله أعلم ، من ( كان منكم مريضا أو على سفر ) فأفطر{[2261]} ( فعدة من أيام أخر ) وقوله{[2262]} : ( أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) معناه ، والله أعلم ( أو به أذى من رأسه ففديه ) وإلا كون الأذى من رأسه لا يوجب عليه الفداء حتى يزول{[2263]} ، وقوله{[2264]} : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) [ البقرة : 173 ] أي من ( اضطر ) فأكل منها ( غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) ، والاضطرار نفسه لا يوجب الإثم .
ثم اختلف أهل العلم في الإحصار ، ما هو ؟ وبكم ؟ وهل يحل ؟ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " إذا أحصر الرجل من مرض أو حبس أو كسر أو شبه ذلك بعث الهدي ، وواعد يوم النحر ، ومكث على إحرامه على أن ( تبلغ الهدي محله ) وعليه الحج والعمرة جميعا من قابل " [ الموطأ : 1/362 ] . وروي مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه أن قال : " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل " [ الترمذي : 940 ] وروي مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل " [ الترمذي : 940 ] . ومعنى قوله : " فقد حل " أي جاز له أن يحل بغير دم ، لأن الله تعالى أذن له في الإحلال بدم ، وهذا عندنا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل ، وأدبر النهار ، وغابت الشمس ، فقد أفطر السائم " [ مسلم 1100 ] فمعناه : فقد حل له الإفطار . فعلى ذلك الأول : حل له أن يحل .
ثم قال بعض أهل اللغة من نحو الكسائي وأبي معاذ ، قالوا : إن الإحصار من المرض ، والحصر من العدو . فإن قيل روي عن ابن عباس [ وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا ]{[2265]} : ( لا حصر إلا عن حصار العدو ) . ولكن في هذا نسخ الكتاب بقولهما ، إن ثبت ، وهو{[2266]} لا يرى نسخ الكتاب بالسنة فضلا أن يراه بقول واحد من الصحابة رضوان الله عليهم مع ما ترك قولهما ، لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( ذهب الحصر ) .
ثم يقال للشافعي : رحمه الله ، إذ أجاز أن يجعل المرأة بمنزلة المحضر من غير أن تخاف عدوا ، لكنها لما منعها من له أن يمنعها ، جعلتها محصرة ، فهلا جعلت المريض مثلها ، وإن كان النص في القرآن جاء في المحصر من العدو على زعمك ؟ فقال : لأن المرأة حبسها من له أن يحبسها ، فهي أشد حالا ممن [ حبسه عدو ، وليس له أن يحبسه ]{[2267]} ، فيقال له : المريض أمرضه من له أن يمرضه ، فاجعله أشد حالا من الذي حبسه عدو ، وليس له أن يحبسه ، أو فرق بين{[2268]} المرأة والمريض فقال : بل بينهما فرق ؛ وذلك أن الخائف بعدو يخاف القتل على نفسه ، وقد أباح الله للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة ، فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن . قيل له : كما رخص للخائف في ذلك فقد رخص للمريض ألا يحضر القتال ، فالرخصة له أكثر من الرخصة للخائف . فإن قال : إن المريض لا يبرأ بالقعود ، والخائف يأمن ، قيل له : إن الرخص{[2269]} التي جعلت للأعذار لا تجعل لترخصها ، ولكن الرخصة لترفيه المشقة ، وقيل{[2270]} له أيضا : قد جعلت المرأة محصرة إذا منعها زوجها ، وهي لا تخاف القتل على نفسها ، فبطلت علته ، وانتقضت ؛ فإن قال : إنكم لم تجعلوا من ضل الطريق محضرا ، وهو ممنوع من المضي إلى حجه ، فما الفرق بينه وبين{[2271]} المريض ؟ فيقال : لو جعلنا الضال عن الطريق محضرا لم يجز له أن يحل من إحرامه إلا بدم /31-أ/ يوجهه إلى الحرم ، فيذبح عنه . وإذا وجد من يذهب إلى الحرم ، فيذبح هديه ، فليس بضال ، لأنه قد وجد دليلا يدله على طريقه ؛ لذلك افترقا{[2272]} .
وبعد فإن المريض{[2273]} أحق أن يكون محصرا{[2274]} في ذلك منا لعدو وغيره ؛ لأنه [ لا يقاتل ]{[2275]} العدو والسباع ، فيدفع عن نفسه الإحصار ، والمرض لا سبيل له إلى {[2276]} دفعه . دل أنه أحق أن يكون عذرا .
وقال بعضهم : يكون محصرا من الحج ، ولا يكون من العمرة ؛ لأن الحج مما يحتمل الفوت ، والعمرة لا .
وأما عندنا : فإنه يكون محصرا منهما جميعا ؛ لأن الله عز وجل ذكر الإحصار على إثر ذكر العمرة بقوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ) . وروي في الخبر ، يرويه ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت الشريف ، فنحر هديه ، وحلق رأسه بالحديبية " [ البخاري : 1807 ] .
وقوله : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى بلغ الهدي محله ) فيه دلالة أن المحصر يبقى حراما على حاله ، لا يحل حتى ينحر عنه الهدي .
واختلف أهل العلم أين يذبح الهدي ؟ فعندنا أنه لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم ؛ روي عن ابن مسعود رضي الله أنه قال : " يبعث بهدي ، ويواعدوهم يوما . فإذا نحر{[2277]} عنه حل " [ ابن أبي شيبة 4/ 54 ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنه مثل ذلك ، وعن ابن الزبير [ رضي الله عنه وعروة بن الزبير رضي الله عنه ) : " أن المحصر يبعث بالهدي ، فإذا نحر عنه حلق " [ ابن أبي شيبة : 4/54 ] . وظاهر القرآن يدل على ما روي عن هؤلاء ؛ لأن الله تعالى قال : ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) ، فجعل للهدي محلا يبلغه ، وبين موضع محله ، فقال : ( هذا بالغ الكعبة ) [ المائدة : 95 ] ، وكانت الكعبة محلا لجزاء الصيد والدم للمحصر .
قال الشيخ رضي الله عنه : المحل : اسم الموضع الذي يحل فيه ، ولو كان كل موضع له محلا لم يكن لذكر المحل فائدة . واحتج من خالف أصحابنا ، رحمهم الله ، بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي يوم الحديبية في الحرم ، يرويه مروان بن الحكم . وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[2278]} قال : ( أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية ، فحال المشركون بينه وبين دخول مكة ، وجاء سهيل بن عمرو يعرض عليهم الصلح ، " فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يسوقوا البدن حتى تنحر حيث شاء " ) [ أحمد : 4/326 ] . ولا يتوهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يهدي الهدي في الحل ، وقد أطلق له المشركون أن ينحرها حيث شاء ، وهو بقرب الحرم ، بل هو فيه .
وروي عن مروان والمسور بن مخرمة [ أنه ]{[2279]} قال : " نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في الحل ، وكان يصلي في الحرم " [ بنحوه أحمد : 4/ 326 ] ، هذا يبين أنه كان قادرا أن ينحر هديه في الحرم حيث كان يصلي ، ولا يحتمل أن يترك نحر الهدي في الحرم ، وهو على ذلك قادر ؛ ولأن الحديبية مكان مجمع الحل والحرم جميعا ، فإنما ذبح في الحرم لا في الحل لما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يذبح في الحل ، وليس سبيل الذبح إلا في الحرم .
فإن قيل : حل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية من إحصاره بغير دم ، قلنا : ليس الأمر عندنا هكذا ؛ [ لأنه ]{[2280]} لا يتوهم على النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[2281]} أن يكون حل بغير دم ، وقد أمر الله المحصر بالدم . فإن قال : {[2282]} كذلك قال ، وليس في حديث صلح الحديبية أنه نحر دمين ، وإنما نحر دما واحدا . فما وجه{[2283]} ذلك عندكم ؟ قيل : وجه ذلك عندنا ، والله أعلم ، أن الهدي الذي ساقه كان هدي{[2284]} متعة أو قران ، فلما متع عن البيت سقط عنه دم القران ، فجاز له أن يجعله من دم الإحصار .
فإن قيل : فكيف قلت{[2285]} : إن النبي صلى الله عليه وسلم أزال الهدي عن سبيله ، وأنت تزعم أن من باع هديه فهو مسيء ؟ قيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرف الهدي عن نحره لله والتقرب به إليه ، وإنما صرف النية إلى ما هو أفضل منها وأوجب ، فكان ذلك في فعله متبعا . والذي باعه صرفه عن سبيله ، وترك أن ينحره بعد أن كان نوى به القربة ، فكان مسيئا . ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الهدي لإحصاره لما روي أنه لم يحلق حتى نحر هديه ، وقال : " يا أيها الناس انحروا وحلوا " [ أحمد : 4/326 ] .
ثم المسألة : ما يجب على المحصر بالحج والعمرة من القضاء إذا حل ؟ فعلى قول أصحابنا : إذا كان محرما بالحج يلزمه الحج مكان الأول وعمرة بتفويت الحج .
قال الله تعالى : ( فإذا آمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) اختلف أهل العلم في تأويل ذلك ؛ فروي عن ابن عباس رضي الله عنه ، فيما يكون الرجل به محصرا ، أنه قال : ( فإذا أمنتم ) من الخوف والمرض ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) أي اعتمر في أشهر الحج ؛ كأنه يقول : إن عليه لإحلاله بغير الطواف عمرة . فإن أخرها حتى يقضيها مع{[2286]} الحج في أشهره فعليه لجمعه بينهما دم ) . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في رجل أهل بعمرة ، وأحصر : ( يبعث بهديه : فإذا بلغ ( الهدي محله ) حل ، فإن اعتمر من وجهه ، ذلك إذا برأ{[2287]} ، فليس عليه هدي ، وإن اعتمر من قابل بعد حج فليس عليه هدي ، فإن وصلها بحج من قابل فعليه هدي . والحاج إذا أحصر فإنه يبعث بهدي ، فإذا بلغ محله حل ، وإن اعتمر من وجهه ، ذلك إذا برأ ، فإنه يحج من قابل ، وليس عليه هدي ، وإن لم يزر البيت حتى يحج ، وجعلها سفرا واحدا ، كان عليه هدي آخر : سفران وهدي ، أو هديان وسفر ) وقال قوم : عليه حج واحد .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( أمر الله بالقصاص ، فيأخذ منكم العدد ) أي حجة بحجة وعمرة بعمرة ، وروي في خبر عمر رضي الله عنه وعن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : وقد حل ، " وعليه الحج من قابل " [ الترمذي : 940 ] ، ولم يذكر عمرة . إلا أنه قد يجوز أن يكون عليه العمرة ، وإن لم يذكر في الحديث ، كما أن الدم واجب ، وإن لم يذكر في الحديث ؛ فعلى ذلك العمرة يجوز وجوبها وإن لم يذكر .
أما إيجابهم العمرة لفسخ الحج بغير طواف وحجة مكان حجته ؛ فإن كان التأويل في قوله : ( فمن تمتع بالعمرة ) أي بالعمرة التي لزمته بإحلاله كما قال بن مسعود وابن عباس وابن الزبير رضوان الله عليهم فكفى به حجة .
وإن كان تأويل الآية غير ذلك فإنا وجدنا من يفوته الحج يلزمه أن يطوف بالبيت ، ثم يجب{[2288]} بعد ذلك قضاء الحج ؛ فأرجعوا على المحصر عمرة مكان الطواف الذي يجب على من يفوته الحج ، وأوجبوا الحج لما دخل فيه .
فإن قيل : يجب أن تسقط عنه العمرة التي تجب على من يفوته الحج ؛ [ لأن الذي يفوته الحج لا يحل منه بدم ، وإنما يحل بالطواف ]{[2289]} ، والمحصر قد حل بالدم ، فقام : الدم الذي لزمه يحل به مقام الطواف في الذي يفوته الحج . قيل له : إن المحصر لو لم يذبح عنه هديا احتاج أن يقوم على إحرامه حتى يصل إلى البيت ، فيطوف به ، ولو سنين ، ثم يحج بعد ذلك مكان الحجة التي دخل فيها ، فجعل له أن يتعجل إلى الخروج من إحرامه ، ويؤخر الطواف الذي لزمه بدم يهريقه ، فبالدم جاز له أن يحل ، و[ لم يبطل الطواف عنه ، وإذا ]{[2290]} لم يبطل الدم عنه الطواف ، ولم يجعل بدلا منه ، فعليه أن يأتي به بإحرام جديد ، يكون ذلك عمرة . فإن قيل : ما الدليل على أن الدم الذي يحل به المحصر جعل عليه ليتعجل به الإحلال ، ولم يجعل بدلا عن الطواف ؟ قيل : لأن أهل العلم أجمعوا على أن الذي يفوته الحج ليس له أن يفسخ الطواف الذي لزمه بدم يهريقه ، يجعله بدلا عن الطواف ، فدل أنه إنما يهريق الدم ليتعجل{[2291]} به إلى الإحلال لا بدل من الطواف ، والله أعلم .
وقوله : ( فما استيسر من الهدي ) روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا : شاة . وأصحابنا ، رحمهم الله ، يرون الشاة مجزية في المتعة والإحصار والفدية ، والحجة لهم في ذلك ما ذكرنا من قول الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وما روي عن [ رسول الله ]{[2292]} /31-ب/ صلى الله عليه وسلم أنه قال [ لكعب بن عجرة ]{[2293]} ، " النسك شاة " [ السيوطي في الدر المنثور : 1/515 ] . وإجماع الناس على أنها مجزية في الأضحية .
ثم المسألة في المحرم إذا حلق رأسه من أذى ؛ رخص الله تعالى للمتأذي حلق رأسه بفدي بقوله : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) . روي في الخبر عن كعب بن عجرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا كعب أيؤذيك هوام رأسك ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : فاحلقه ، واذبح شاة ، أو أطعم ستة مساكين " [ البخاري : 1814 ] . وقال كعب : فيّ نزلت هذه الآية .
ثم اختلف أهل العلم في الذبح ، أين يذبح ؟ قال أصحابنا رضوان الله عليهم لا يجوز أن تذبح الفدية إلا بمكة . وأما الصدقة والصوم فإنه يأتي به حيث شاء ؛ وذلك عندهم بمنزلة هدي المتعة ؛ لأن [ هدي ]{[2294]} المتعة إنما وجب بجمعه بين الحج والعمرة في سفر واحد ، ولأنه لو شاء أن يفرد لكل واحد منهما سفرا فعل ، فبأخذه بالرخصة لزمه دم . وكذلك دم الفدية إنما وجب لأخذه بالرخصة في حلق رأسه ، فصار سبيل الدمين سواء يجيبان{[2295]} بمكة ، وكذلك دم الإحصار إنما وجب لأنه أخذ بالرخصة في حلق رأسه ، فحل من إحرامه . ولا يجوز أن يذبح إلا بمكة . فدم الفدية ، أينما كان ، إنما وجب لأنه رخص له في حلق مثل ذلك .
والصدقة هي ثلاثة أصوع على ستة مساكين ، على ما ذكر في خبر كعب رضي الله عنه وأما الصوم فإن المتمتع ، إذا لم يجد هديا ، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، فأجمعوا على أنه يصوم السبعة بمكة وفي غيرها ، فصوم الفدية كذلك . وكذلك ثلاثة الأيام إذا صامها بعد إحرامه بالعمرة عندنا ، وبعد إحرامه بالحج عند مخالفنا بمكة أو بغيرها ، فهي مجزية وكذلك صيام الفدية يجزيه حين صامه قياسا على صوم المتمتع .
فأما الصدقة فإن الشافعي ذكر أنها لا تجزي إلا بمكة ، وقال : لأن أهل الحرم ينتفعون [ بها كما ينتفعون ]{[2296]} بالهدي . فيقال له : أرأيت [ من ذبح ]{[2297]} الهدي بغير مكة ، ثم تصدق به على أهل الحرم ، هل يجزيه ذلك ؟ فإن قال : لا ، قيل له : قد بطلت علتك حين لم تجز التصدق على أهل الحرم ، وبان أن الدم خص بان يهراق في الحرم ؛ لأن الله تعالى قال : ( حتى يبلغ الهدي محله ) ، فأما الصدقة فهي مجزية حيث كانت .
ثم اختلف في الذي يحلق قبل أن يذبح بغير أذى : فقال أبو حنيفة رضي الله عنه يجب عليه دم ، والحجة له بأن الله تبارك ، وتعالى منع المحصر من الحلق ( حتى يبلغ الهدي محله ) فإن حلق رأسه لأذى فعليه دم آخر ؛ لأن الآية الكريمة في الحلق في المحصر ، فإذا كان الذي يصيبه الأذى في رأسه قبل الوقت الذي أذن له ، فعليه{[2298]} فدية ، بل الذي يحلق رأسه بغير أذى أحرى أن يكون عليه الفدية . وأبو حنيفة رضي الله عنه يزيد في التغليظ عليه ؛ يقول : لا يجزيه غير الدم ، ويخير صاحب الأذى بين الدم والصدقة والإطعام كما أخبر الله تعالى ، فدليل القرآن شهد لمذهبه .
وخالفه جماعة من أهل العلم فيمن حلق قبل أن يذبح ؛ وليس بمحصر ، ورافقوه بالمحصر ، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه لما سئل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال : اذبح ، ولا حرج " [ مسلم : 1306 ] . لكن قوله : " افعل ، ولا حرج " يرجع إلى الإثم دون الكفارة ؛ افعل ، أي لو فعلت لم يكن عليك حرج ، لأن الكفارة قد تحجب{[2299]} في أشياء يفعلها الرجل خطأ وعلى جهة الجهل إنما تجب في ذلك . فلا حجة لمن احتج بهذا الحديث في زوال الكفارة .
وأصله في ذلك أن أحوال الضرورة سبب تخفيف الحكم وتيسيره ، لم يجز إيجاب ذلك الحكم في غير أحوال الضرورة والعذر . وعلى هذا يخرج قولهم في جميع الأصول : إن حال الاضطرار والعذر خلاف ما هو في حال الاختيار . ولهم على هذا مسائل مما يكثر عددها .
وفي الآية دليل لزوم الفداء على المتدهن ، لأن الله تعالى قال : ( فمن كان منكم مريضا ) وقد ذكرنا أن فيه إضمارا . ثم معروفة حاجة المريض في حال مرضه إلى الدهن ، فصار كأنه مذكور في الآية ، والله أعلم .
وقوله : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) وقد ذكرنا هذا وأقاويلهم .
وقوله : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) اختلف أهل التأويل فيه ؛ قال بعضهم : من حين يحرم ، آخرها يوم عرفة ، وعن ابن عمر رضي الله عنه [ أنه ]{[2300]} قال : " ولا تصومهن حتى تحرم " [ السيوطي في الدر المنثور : 1/ 518 ] ، وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[2301]} قال : " ما بين الهلال ويوم عرفة " وعن علي رضي الله عنه [ أنه ]{[2302]} قال ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) " قبل يوم التروية [ بيوم ويوم التروية ويوم عرفة ]{[2303]} فإن فات ذلك فصيام ثلاثة أيام بعد أيام التشريق " [ أحمد : 6/243 ] .
أما تأخيره الصوم رجاء أن يجد الماء ، فيغنيه عن التيمم{[2304]} . فعلى ذلك يؤخر الصوم حتى يكون آخره يوم عرفة رجاء أن يجد الهدي .
وأما ما اختلفوا فيه من صيامهن حلالا بعد العمرة ، فإن من لم يجز ذلك ذهب إلى أن الله تعالى قال : ( ثلاثة أيام في الحج ) فتأول ذلك على الإحرام . [ وقد يجوز أن يكون الأمر كما قال ، ويجوز ]{[2305]} أن يكون معناه في أشهر الحج . ألا ترى أن الله تعالى يقول : ( الحج أشهر معلومات ) [ البقرة : 197 ] ومعناه ، والله أعلم : أن الحج يفعل في هذه الأشهر ، ولفعله ( أشهر معلومات ) . فلما احتملت الآية ما ذكرنا وجدنا السنة في المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية . كذلك روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه [ أنه ]{[2306]} قال : " قدمنا مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج لأربع ليال مضين من ذي الحجة ، فطاف بالبيت [ سبعا ، وسعى ]{[2307]} بين الصفا والمروة ، ولم يحل لأنه كان ساق الهدي ، وأمر من لم يسق الهدي أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، ثم يحل ، فلما كان يوم التروية أمرهم أن يلبوا بالحج " [ بنحوه البخاري : 1691 ] . فإذا كنا نأمر المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية فكيف يصوم ثلاثة أيام بعد ذلك وإنما بقي له يوم واحد ؟ فدل ما وصفنا{[2308]} أنه يجوز له أن يصومهن حلالا بعد العمرة ، والله أعلم .
وقوله : ( وسبعة إذا رجعتم ) اختلف فيه : قيل : إذا رجع من منى ، وقيل : إذا أتى وقت الرجوع ، وقيل : إذا رجعتم إلى أهليكم .
وقوله : ( تلك عشرة كاملة ) قيل : تلك العشرة ، وإن كانت متفرقة فهي كالموصولة في حق الحج ، وقيل : ( تلك عشرة كاملة ) عن الهدي وافية أي{[2309]} يكمل بها حق الدم ، وقيل : ( تلك عشرة كاملة ) في حق الثواب أي ثوابها كثواب الهدي ، والله أعلم .
وقوله : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) جعل الحكم الذي ذكره في المتمتع والمحضر لمن لا يحضر أهله المسجد الحرام . عن ابن عباس رضي الله عنه{[2310]} أنه قال : " ليس على أهل مكة هدي في المتعة " بنحوه ابن أبي شيبة : 4/42 ] . ولأن أهل مكة لو كانوا كغيرهم لم يكن للمخصوص{[2311]} معنى . وإذا كان المعتمر في أشهر الحج إذا رجع إلى أهله ، ثم حج من عامه ذلك ، فلا هدي عليه . فالمكي مقيم في منزله بعد عمرته ، فهو أحرى ألا يجب عليه دم المتعة ، إن حج من عامه ذلك ، ولكنه إذا تمتع فعليه دم الحلال لأنه منهي عن التمتع .
ثم اختلف [ أهل التأويل ]{[2312]} في ( حاضري المسجد الحرام ) من هم ؟ قال أصحابنا ؛ رحمهم الله : ( كل من كان من أهل المواقيت فما دونها إلى مكة ، فلهم أن يدخلوها بغير إحرام ، فلهم جميعا حكم ( حاضري المسجد الحرام ) وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه خرج من مكة ، فلما بلغ قديدا ، بلغه أن بالمدينة جيشين من جيوش الفتنة ، فرجع ، ودخلها بغير إحرام .
وعندنا إذا جاوز جميع المواقيت ، ثم رجع فعليه / 32-أ/ الإحرام . وقال آخرون : ليس ( حاضري المسجد الحرام ) . وأما لأصحابنا ، رحمهم الله ، ما ذكرنا . وأما قولنا : ليس عليهم إحصار هو الجيش والحيلولة بينهم وبين دخولهم مكة . فإذا كانوا هم [ فهم ]{[2313]} قادرون على الطواف بالبيت في كل وقت ، وبذلك{[2314]} بطل الإحصار .