البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۖ وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖۚ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (196)

{ أحصرتم } قال يونس بن حبيب : أحصر الرجل رد عن وجه يريده ، قيل : حصر وأحصر لمعنى واحد ، قاله الشيباني ، والزجاج ، وقاله ابن عطية عن الفراء ، وقال ابن ميادة :

وما هجر ليلى أن يكون تباعدت***

عليك ولا أن أحصرتك شغول

وقيل : أحصر بالمرض ، وحصره العدوّ ، قاله يعقوب .

وقال الزجاج أيضاً : الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض : أحصر ، والمحبوس : حصر ، وقال أبو عبيدة والفراء أيضاً أحصر فهو محصَر ، فإن حبس في سجن أو دار قيل حُصِر فهو : محصور ، وقال ثعلب : أصل الحصر والإحصار : الحبس ، وحصر في الحبس أقوى من أحصر ، وقال ابن فارس في ( المجمل ) : حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ .

ويقال : حصره صدره أي : ضاق ، ورجل حصر : وهو الذي لا يبوح بسره ، قال جرير :

ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا***

حَصِراً بسرِّك يا تميم ضنينا

والحصر : احتباس الغائط ، والحصير : الملك ، لأنه كالمحبوس بالحجاب .

قال لبيد :

حتى لدى باب الحصير قيام***

والحصير معروف : وهو سقيف من بردى سمى بذلك لانضمام بعضه إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره .

{ الهدي } الهدي ما يهدى إلى بيت الله تعالى تقرباً إليه ، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره .

يقال : أهديت إلى البيت الحرام هدياً وهديّاً بالتشديد ، والتخفيف ، فالتشديد جمع هديَّة ، كمطية ومطيّ ، والتخفيف جمع هديَة كجذية السرج ، وجذي .

قال الفراء : لا واحد للهدي ، وقيل : التشديد لغة تميم ، ومنه قول زهير :

فلم أر معشراً أسروا هديّاً***

ولم أر جار بيت يستباء

وقيل : الهديّ ، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل ، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه ، فيقع للأفراد والجمع .

وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نِعم أو غير ذلك يسمى هدياً ، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم .

وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هدياً على ما سيأتي ذكره إن شاء الله .

الحلق : مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدّد ونورة ، والحلق مجرى الطعام بعد الفم .

الأذى : مصدر ، وهو بمعنى الألم ، تقول : آذاني زيد إيذاءً آلمني .

الصدقة : ما أعطي من مال بلا عوض تقرباً إلى الله تعالى .

النسك : قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها ، كالنسيكة المخلصة من الدنس ، ثم قيل للذبيحة : نسك ، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى ، وقيل : النسك مصدر نسك ينسك نَسكاً ونُسكاً ، كما تقول حلم الرجل ، حُلماً وحِلماً .

الأمن : زوال ما يحذر ، يقال : أمن يأمن أمناً وأمنة .

الثلاثة : عدد معروف ، ويقال منه : ثلثت القوم أثلثهم ، أي صيرتهم ثلاثة بي .

والثلاثون عدد معروف ، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة ، وثلث ممنوعاً من الصرف ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .

العقاب : مصدر عاقب أي جازى المسيء على إساءته ، وهو مشتق من العاقبة ، كأنه يراد عاقبة فعله المسيء .

{ وأتموا الحج والعمرة لله } الإتمام كما تقدّم ضد النقص ، والمعنى : إفعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئاً من شروطهما ، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما ، كما قال غيلان :

تمام الحج أن تقف المطايا***

على خرقاء واضعة اللثام

جعل : وقوف المطايا على محبوبته ، وهي : مي ، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلاَّ به .

هذا ظاهر اللفظ ، وقد فسر : الإتمام ، بغير ما يقتضيه الظاهر .

قال الشعبي ، وابن زيد : إتمامهما أن لا ينفسخ ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما .

وقال علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد ، وطاووس : إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك ، وفعله عمران بن حصين .

وقال الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : لله .

وقال القاسم بن محمد وقتادة : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن ، والإفراد عند هؤلاء أفضل .

وقال قوم : إتمامهما : أن تقرن بينهما ، والقران عند هؤلاء أفضل .

وقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وغيرهم : إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء ، وهذا يقرب من القول الأول ، وقال قوم : أن يفرد لكل واحد منهما سفراً .

وقيل : أن تكون النفقة حلالاً وقال مقاتل : إتمامهما أن لا تستحلٍ فيهما ما لا يجوز ، وكانوا يشركون في إحرامهم ، يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك .

فقال : أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً .

وقال الماتريدي : إنما قال { وأتموا الحج والعمرة لله } لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم ، وقال المروزي : كان الكفار يحجون للأصنام .

وقرأ علقمة : وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف : الحج ، بالكسر هنا ، وفي آل عمران ، وبالفتح في سائر القرآن وتقدّم قراءة ابن إسحاق : الحج بالكسر في جميع القرآن ، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله : { حج البيت } في موضعه .

وقرأ ابن مسعود : واتموا الحج والعمرة إلى البيت لله ، وقرأ علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر والشعبي ، وأبو حيوة ، والعمرة لله بالرفع على الابتداء والخبر ، فيخرج العمرة عن الأمر ، وينفرد به الحج .

وروي عنه أيضاً : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون .

و : لله ، متعلق بأتموا وهو مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويكون العامل محذوفاً تقديره : كائنين لله ، ولا خلاف في أن الحج فرض ، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها ، وفروضه : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة ، خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة ، على قول ابن الماجشون ، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي .

وأما أعمال العمرة : فنية ، وإحرام ، وطواف ، وسعي .

ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة ، ولا على ، أنها سنة ، فقد يصح صوم رمضان وشيئاً من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية ، وإن اختلفت جهتا الطلب ، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله : وأتموا .

وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، وابن جبير ، وأبي بردة ، وعبد الله بن شدّاد ؛ ومن علماء الأمصار : الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وابن حميم ، من المالكيين .

وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة ، منهم : ابن مسعود ، وجابر ، ومن التابعين : النخعي ، ومن علماء الأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، إلاَّ أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها .

وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين ، والحجج منقولة في كتب الفقه .

{ فإن أحصرتم } ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة ، وأنه يتحلل بالإحصار .

وروي عن عائشة وابن عباس : أنه لا يتحلل من إحرامه إلاَّ بأداء نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره .

وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت ، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار .

وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة : أن الإحصار والحصر سواء ، وأنهما يقالان في المنع بالعدوّ ، وبالمرض ، وبغير ذلك من الموانع ، فتحمل الآية على ذلك ، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار .

وليس في الآية تقييد ، وبهذا قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، وقال علقمة ، وعروة : الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدوّ ، وقال ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومالك ، والشافعي .

لا يكون الإحصار إلاَّ بالعدوّ فقط .

قال ابن عباس : والآية نزلت فيمن أحصر بالعدوّ لا بالمرض .

وقال مالك ، والشافعي : ولو أحصر بمرض فلا يحله إلاَّ البيت ، ويقيم حتى يفيق ، ولو أقام سنين .

وظاهر قوله : { فان أحصرتم } استواء المكي والآفاقي في ذلك ، وقال عروة ، والزهري ، وأبو حنيفة : ليس على أهل مكة إحصار .

وظاهر لفظ : أحصرتم ، مطلق الإحصار ، وسواء علم بقاء العدوّ استيطانه لقوته وكثرته ، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور ، أو رجا زواله ، وقيل : لا يباح له التحلل إلاَّ بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدوّ لم يدرك الحج ، فيحل حينئذ ، وبه قال ابن القاسم ، وابن الماجشون .

وقيل : من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافاً لأبي حنيفة ، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصراً ؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء .

{ فما استيسر من الهدي } هو شاة ، قاله علي ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، والضحاك ، ومغيرة .

وقد سميت هدياً في قوله : { هدياً بالغ الكعبة } وقال الحسن ، وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة .

وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، وزفر ، يكون من الثلاثة ، يكون المستيسر على حكم حال المهدي ، وعلى حكم الموجود .

وروى طاووس عن ابن عباس : أنه على قدر الميسرة ، وقال ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، وعروة : هو جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة ، ولا يكون الهدي إلاَّ من هذين ، ولا يكون الشاة من الهدي ، وبه قال أبو حنيفة .

قال ابن شبرمة : من الإبل خاصة ، وقال الأوزاعي يهدي الذكور من الإبل والبقر .

ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه ؟ قال أبو حنيفة : تكون في ذمته أبداً ولا يحل حتى يجد هدياً فيذبح عنه ، وقال أحمد : له بدل ، والقولان عن الشافعي ، فعلى القول الأول : يقيم على إحرامه أو يتحلل ، قولان .

وعلى الثاني : يقوم الهدي بالدراهم ، ويشترى بها الطعام ، والكل أنه لا بدل للهدي ، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار ، وبه قال أكثر الفقهاء .

وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة .

والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجزى إلاَّ الثني فصاعداً ، وقال مالك : لا يجزي من الإبل إلاَّ الثني فصاعداً ، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي .

وقال مالك : يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب ، والظاهر وجوب { ما استيسر من الهدي } وقال ابن القاسم : لا يهدي شيئاً إلاَّ إن كان معه هدي ، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي ، ويحلق رأسه .

وقال قتادة ، وإبراهيم : يبعث هديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالاً .

وقال أبو حنيفة : إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء ، وقال أبو يوسف ، ومحمد في أيام النحر : وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً ، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة ، وهو من الحرم ، وعن الزهري : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم .

وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة .

واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدوِّ أو مرض ، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني .

فذهب الثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط .

وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشافعي : في القديم لا بأس أن يشترط ، وله شروط ، فيه حديث خرج في الصحيح : ولا قضاء عليه عند الجميع إلاَّ من كان لم يحج ، فعليه حجة الإسلام ، وشذ بن الماجشون فقال : ليس عليه حجة الإسلام ، وقد قضاها حين أحصر .

وما ، من قوله : { فما استيسر } موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر ، قاله الأخفش ، أو : في موضع نصب : فليهدِ قاله أحمد ابن يحيى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب له استيسر ، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد ، أي : يسر ، بمعنى : استغنى وغني ، واستصعب وصعب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل .

ومن ، هنا تبعيضية ، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما ، فيتعلق بمحذوف التقدير : كائناً من الهدي ، ومن أجاز أن يكون : من ، لبيان الجنس ، أجاز ذلك هنا .

والألف واللام في : الهدي ، للعموم .

وقرأ مجاهد ، والزهري ، وابن هرمز ، وأبو حيوة : الهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين ، يعني هنا في الجر والرفع ، وروي ذلك عصمة عن عاصم .

{ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } هذا نهي عن حلق الرأس مغيّاً ببلوغ الهدي محله ، ومفهومه : إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا روؤسكم .

والضمير في .

تحلقوا ، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام ، فيشمل المحصر وغيره ، ويحتمل أن يعود على المحصرين ، وكلا الإحتمالين قال به قوم ، وأن يكون خطاباً للمحصرين هو قول الزمخشري ، قال : أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله ، أي : مكانه الذي يجب نحره فيه ، ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة .

انتهى كلامه .

وكأنه رجح كونه للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور ، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصراً كان المحرم أو مخلىًّ ، لأنه قدم هذا القول ، ثم حكى القول الآخر ، قال : ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } مجاز في الفاعل وفي المفعول ، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع ، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض ، وهو مجاز شائع كثير ، تقول : حلقت : رأسي ، والمعنى أن غيره حلقه له : وأما المجاز ففي المفعول ، فالتقدير : شعر رؤوسكم ، فهو على حذف مضاف ، والخطاب يخص الذكور ، والحلق للنساء مثله في الحج وغيره ، وإنما التقصير سنتهنّ في الحج .

وخرّج أبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس على النساء حلق إنما عليهنّ التقصير » وأجمع أهل العلم على القول به ، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه ، ولم تتعرّض هذه الآية للتقصير فنتعرّض نحن له هنا ، وإنما استطردنا له من قوله : { ولا تحلقوا } .

وظاهر النهي : الحظر والتحريم حتى يبلغ الهدي محله ، فلو نسي فحلق قبل النحر ، فقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون : هو كالعامد وقال ابن القاسم : لا شيء عليه .

أو تعمد ، فقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجوز .

وقال الشافعي : يجوز .

قالوا : وهو مخالف لظاهر الآية .

ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس ، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج ، خلافاً لمن قال : إن حلق الرأس في غير الحج مثلة ، لأنه لو كان مثلة لما جاز ، لا في الحج ولا غيره .

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام ، وكان علي يحلق ، وقال أبو عمرو بن عبد البر : أجمع العلماء على إباحة الحلق ، وظاهر عموم : ولا تحلقوا ، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك ، وهو قول مالك ، وأبو يوسف .

وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي .

{ حتى يبلغ الهدي محله } حيث أحصر من حل أو حرم ، قاله عمر ، والمسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أو : المحرم ، قاله علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان ، ولم يقرأ إلاَّ بكسر الحاء .

فيما علمنا ، ويجوز الفتح : أعني إذا كان يراد به المكان ، وفرق الكسائي هنا ، فقال : الكسر هو الإحلال من الإحرام ، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار ، وقد تقدّم طرف من القول في محل الهدي ، ولم تتعرّض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي ، فعن النسيء عليه حجة ، وقال الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والقاسم ، وابن مسعود فيما روى عنه مجاهد ، وابن عباس ، فيما روى عنه ابن جبير : عليه حجة وعمرة ، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه ، فإن كان المحصر بمرض أو عدوّ ، محرماً بحج تطوّع ، أو بعمرة تطوّع ، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة ، وقال مالك ، والشافعي : لا قضاء على من أحصر بعدوٍّ لا في حج ولا في عمرة .

{ فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ، رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدّم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملاً ، فخص بمن ليس مريضاً ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضاً ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم .

وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر ، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة .

ومنكم ، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال ، لأنه قبل تقدّمه كان صفة : لمريضاً ، فلما تقدّم انتصب على الحال .

ومِنْ ، هنا للتبعيض .

وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً : بمريضاً ، وهو لا يكاد يعقل ، و : أو به أذى من رأسه ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على قوله : مريضاً ، ويرتفع : أذى ، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائناً به أذىً من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله : مريضاً ، وهي في موضع مفرد ، لأن المعطوف على المفرد مفرد ، في التقدير : إذا كان جملة ، ويرتفع ، أذى ، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو : في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار : كان ، لدلالة : كان ، الأولى ، عليها .

التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على : من ؛ وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما : أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ، أو به أذى من رأسه ، معطوفاً على كان ، وأذى ، رفع بالابتداء ، وبه ، الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في : به ، عائدة على : من ، وكان قد قدم أبو البقاء أن : من ، شرطية ، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية ، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون : من ، موصولة .

لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في : به ، للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، ومن رأسه ، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به : به ، وأن يكون في موضع الصفة ل : أذىً ، وعلى التقديرين يكون : مِنْ ، لابتداء الغاية .

{ ففدية منة صيام أو صدقة أو نسك } ارتفاع : فدية ، على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية .

وذكر بعض المفسرين أنه قرئ بالنصب على إضمار فعل التقدير : فليفد فدية .

ومن صيام ، في موضع الصفة ، وأو ، هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء .

وقرأ الحسن ، والزهري : أو نسك ، بإسكان السين ؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن : الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة .

وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم .

وبه قال مالك ، والجمهور ؛ وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام .

ومحله زماناً متى اختار ، ومكاناً حيث اختار .

وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع .

وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدّان مدّان ، بالمدّ النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود .

وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب .

وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدّين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم .

وقال مالك ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدّين مدّين ، بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء وقال الحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وعطاء أيضاً ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة .

قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلاَّ بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي .

وظاهر الفدية أنها لا تكون إلاَّ بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق .

وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلاَّ بمن به مرض أو أذى فيحلق ، فلو حلق ، أو جزّ ، أو أزال بنورة شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالماً ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة وغيرها سواء عنده .

فلو فعله ناسياً ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دماً في كل شيء من ذلك .

وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .

{ فإذا أمنتم } يعني : من الإحصار ، هذا الأمنُ مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة .

والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم .

ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال : هنا الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو .

ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه .

وقد جاء في الحديث : « الزكام أمان من الجذام » خرّجه ابن ماجة ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص .

أي : من وجع السنّ ، ووجع الأذن ، ووجع البطن .

والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فاذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلَّى سبيلهم .

{ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } تقدّم الكلام في المتاع في قوله : { ومتاع إلى حين } وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين ، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج .

واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد الله بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي .

وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا آمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة ، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي .

وقال علي : أي : فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي .

وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه .

وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدّم معتمراً من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامة ذلك ، فيكون مستمتعاً بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالاً يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات .

والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء .

تمتع ، وافراد ، وقران .

وقد بين ذلك في كتب الفقه .

ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا .

{ فما استيسر من الهدي } تقدّم الكلام على هذه الجملة تفسيراً وإعراباً في قوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فأغنى عن إعادته .

والفاء في : فإذا أمنتم ، للعطف وفي : فمن تمتع ، جواب الشرط ، وفي : فما ، جواب للشرط الثاني .

ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو : إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق .

وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه .

وصورة التمتع على من جعل قوله : فإذا أمنتم فمن تمتع ، خاصة بالمحصرين ، تقدّمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات .

إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولاً في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة .

فيفرغ من العمرة ثم يقيم حلالاً إلى أن ينشئ الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد .

الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى : قراناً ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معاً ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى .

فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى ؛ وروي عن عبد الله بن عمر : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلاَّ بسياق الهدي ، وهو عندكم : بدنة لا يجوز دونها .

وقال مالك : ما سمعت أن مكياً قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ؛ وقال ابن الماجشون .

إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد الله بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع .

الثالثة : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالاً حتى يهل بالحج يوم التروية ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها .

وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد .

وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد .

أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه .

وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن .

وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعاً فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعاً ، وعلى هذا قالوا : الإجماع لأن التمتع مغياً إلى الحج ولم يقع المغيا .

وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاووس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعاً .

{ فمن لم يجد } مفعول : يجد ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه .

{ فصيام ثلاثة أيام } : ارتفع صيام على الابتداء ، أي : فعليه ، أو على الخبر ، أي : فواجب .

وقرئ : فصيامَ ، بالنصب أي : فليصم صيام ثلاثة أيام ، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع ، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة .

{ في الحج } أي : في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين ، إحرام العمرة ، وإحرام الحج ، قاله عكرمة ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، قال : والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما ، وإذ مضى هذا الوقت لم يجزه إلاَّ الدم ، وقال عطاء أيضاً ، ومجاهد : لا يصومها إلاَّ في عشر ذي الحجة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي .

وقال ابن عمر ، والحسن ، والحكم : يصوم يوماً قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وكل هؤلاء يقولون : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة ، لأنه بانقضائه ينقضي الحج .

وقال علي ، وابن عمر : لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج .

وعن عائشة ، وعروة ، وابن عمر في رواية ابنه سالم عنه : أنها أيام التشريق .

وقيل : زمانها بعد إحرامه ، وقيل : يوم النحر ، قاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي ؛ وبه قال مالك ؛ وقال الشافعي ، وأحمد : يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة .

وروي هذا عن مالك ، وهو قوله في ( الموطأ ) ليكون يوم عرفة مفطراً .

وعن أحمد : يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال قوم : له أن يؤخرها ابتداءً إلى يوم التشريق ، لأنه لا يجب عليه الصوم إلاَّ بأن لا يجد الهدي يوم النحر .

وقال عروة : يصومها ما دام بمكة ، وقاله أيضاً مالك ، وجماعة من أهل المدينة ، وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها .

وظاهر قوله : في الحج ، أن يكون المحذوف : زماناً ، لأنه المقابل في قوله : { وسبعة إذا رجعتم } إذ معناه في وقت الرجوع ، ووقت الحج هو أشهره ، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان ، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جواباً للشرط ، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ، أي : في وقته ، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج ، وبعده ، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق ، لأنها من وقت الحج ؛ ومن قدر محذوفاً آخر ، أي : في وقت أفعال الحج ، لم يجز الصيام إلاَّ بعد الإحرام بالحج ، والقول الأول أظهر لقلة الحذف ، ومن لم يلحظ أشهر الحج ، وجوز أن يكون ما دام بمكة ، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان ، أي : فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج .

والظاهر : وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي ، فلو ابتدأ في الصوم ، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو فرضه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والشافعي ، وأبو ثور ، واختاره ابن المنذر .

وقال مالك : أحب أن يهدي ، فإن صام أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام ، وبه قال الثوري ، وابن أبي نجيح ، وحماد .

{ وسبعة إذا رجعتم } قرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبدة : وسبعة ، بالنصب .

قال الزمخشري : عطفاً على محل ثلاثة أيام ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام كقولك : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } انتهى .

وخرجه الحوفي ، وابن عطية على إضمار فعل ، أي : فليصوموا ، أو : فصوموا سبعة ، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز ، ومجيء : وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به ، كما قيل : وسبعة أيام ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام ، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً ، وعليه جاء : ثم اتبعه بست من شوال ، وحكى الكسائي : صمنا من الشهر خمساً ، والعامل في : إذا ، هو صيام ثلاثة أيام ، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما ، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان ، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل ، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين ، كما تقول : أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة .

وإذا ، هنا محض ظرف ، ولا شرط فيها ، وفي : رجعتم ، التفات ، وحمل على معنى : من ، أما الالتفات .

فإن قوله : { فمن تمتع } { فمن لم يجد } اسم غائب ، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب ، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع ، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع ، ولو راعى اللفظ لأفرد ، ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة .

ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، في آخر : وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة ، وعطاء ، وابن جبير ، ومجاهد ، والربيع ، وقالوا : هذه رخصة من الله تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلاّ أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ؛ وقال أحمد ، وإسحاق : يجزئه الصوم في الطريق ؛ وقال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ، وهذا مذهب أبي حنيفة .

فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق ؛ قال مالك في ( الكتاب ) : إذا رجع من منىً فلا بأس أن يصوم .

{ تلك عشرة كاملة } تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل ، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة ، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه : أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد ، فجيء بها للتوكيد ، كما تقول : زيد رجل صالح .

وقال ابن عرفة : مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما .

وحسّن هذا القول الزمخشري بأن قال : فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة ، كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ؛ قال ابن عرفة : وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب ، وقد جاء : لا يحسب ولا يكتب ، وورد ذلك في كثير من أشعارهم ؛ قال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها***

لست أعوامٍ وذا العام سابع

وقال الأعشى :

ثلاث بالغداة فهي حسبي***

وست حين يدركني العشاءُ

فذلك تسعة في اليوم ربي***

وشرب المرء فوق الري داءُ

وقال الفرزدق :

ثلاث واثنتان وهن خمس***

وسادسة تميل إلى شمام

وقال آخر :

فسرت إليهم عشرين شهرا***

وأربعة فذلك حجتان

وقال المفضل : لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر ، وقال الزجاج : جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة ، لأن الواو قد تقوم مقام : أو ، ومنه { مثنى وثلاث ورباع } فأزال احتمال التخيير ، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه ، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين ، لأن الواو لا تكون بمعنى : أو .

وقال الزمخشري : الواو ، قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن ، وابن سيرين .

ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً ، أو واحداً منهما كان ممتثلاً ؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة .

انتهى كلامه .

وفيه نظر ، لأن لا تتوهم الإباحة هنا ، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب ، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير ، لأن التخيير قد يكون في الواجبات .

وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة ، وقيل : هو تقديم وتأخير تقديره : فتلك عشرة : ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم ، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد ، ولا يصح مثل هذا القول عنه ، وننزه القرآن عن مثله ، وقيل : ذكر العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى : { وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام } أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله : { خلق الأرض في يومين }

وقيل : ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد ، بل الكثرة ، روى أبو عمرو بن العلاء ، وابن الأعرابي عن العرب : سبع الله لك الأجر ، أي : أكثر ، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار ، فله سبع ، وله سبعون ، وله سبعمائة ، وقال الأزهري في قوله تعالى : { سبعين مرة } هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة ، ونقل أيضاً عن المبرد أنه قال : تلك عشرة ، لأنه يجوز أن يظنّ السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبع ، فأزال الظنّ .

وقيل : أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، لاشتباه سبعة وتسعة ، وقيل : أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج ، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع ، والعشرة هي الموصوفة بالكمال ، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول .

قال الحسن : كاملة في الثواب في سدّها مسدّ الهدي في المعنى لذي جعلت بدلاً عنه ، وقيل : كاملة في الغرض والترتيب ، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة ، وقيل : كاملة في الثواب لمن لم يتمتع .

وقيل : كاملة ، توكيد كما تقول : كتبته بيدي ، { فخرّ عليهم السقف من فوقهم } قال الزمخشري : وفيه ، يعني : في التأكيد زيادة توصية بصيامها ، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل : إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به ، وكان منك بمنزلة : الله الله لا تقصر ، وقيل : الصيغة خبر ومعناها الأمر ، أي : اكملوا صومها ، فذلك فرضها .

وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً خلافاً لظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر .

وبهذه الفوائد التي ذكرناها ردّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فهو إيضاح للواضحات ، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة ، وذلك محال .

والكمال وصف نسبيّ لا يختص بالعددية .

كما زعموا لعنهم الله :

وكم من عائب قولاً صحيحا***

وآفته من الفهم السقيم

{ ذلك لمن لم يجد أهله حاضري المسجد الحرام } تقدّم ذكر التمتع ، وذكر ما يلزمه ، وهو : الهدي ، وذكر بدله : وهو الصوم ، واختلفوا في المشار إليه بذلك ، فقيل : المتمتع وما يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، فلا متعة ، ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه ، والقارن والمتمع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه ، وقيل : ما يلزم المتمتع وهو : الهدي ، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئاً ، وإنما الهدي ، وبدله على الأفقي .

وقد تقدّم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا ، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه ، لأن المناسب في الترخص : اللام ، والمناسب في الواجبات على .

وإذا جاء ذلك : لمن ، ولم يجىء : على من ، وزعم بعضهم أن : اللام ، هنا بمعنى : على ، كقوله : { أولئك لهم اللعنة }

وحاضروا المسجد الحرام .

قال ابن عباس ، ومجاهد : أهل الحرم كله ، وقال مكحول ، وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة ، وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين ، وقال عطاء بن أبي رباح : أهل مكة ، وضجنان ، وذي طوى ، وما أشبهها .

وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ، وهو مذهب أبي حنيفة .

وقال قوم : أهل الحرم ، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة ، وهو مذهب الشافعي .

وقال قوم : أهل مكة ، وأهل ذي طوى ، وهو مذهب مالك .

وقال بعض العلماء : من كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة .

والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط ، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز ، فيه بعد ، وبعضه أبعد من بعض ، وذكر حضور الأهل والمراد حضوره وهو ، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون .

{ واتقوا الله } لما تقدم : أمر ، ونهي ، وواجب ، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه الله تعالى ، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله : { واعلموا أن الله شديد العقاب } ، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصاً على تحصيل التقوى ، إذ بها يأمن من العقاب ، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة ، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع ، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ، ثم ذكر ، من هي له حقيقة ، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف .

/خ196