الحجُّ : في اللغة عبارةُ عن القصد ، وإنما يقال حجَّ فلانٌ الشيء ، إذا قصده مرَّةً بعد أخرى ، وأدام الاختلاف إليه ، و " الحِجَّةُ " بكسر الحاء : السَّنة ، وإنما قيل لها حِجَّةٌ ؛ لأن الناس يحجُّون في كل سنةٍ ، وفي الشرع : هو اسمٌ لأفعال مخصوصة يشتمل على أركانٍ ، وواجباتٍ ، وسُننٍ .
فالركن : ما لا يحصل التحلُّل إلاَّ بالإتيان به ، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم ، والسُّنن : ما لا يجب بتركها شيءٌ ، وكذلك أفعال العمرة .
وقرأ نافعٌ{[2836]} ، وأبو عَمْرٍو ، وابنُ كثير ، وأبو بكر ، عن عاصمٍ رحمة الله تعالى عليهم : " الحَجُّ " بفتحِ الحاءِ في كلِّ القرآن الكريم ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ حمزة ، والكسائيُّ ، وحفصٌ ، عن عاصمٍ : بالكسر في كلِّ القرآن .
قال الكسائيُّ : وهما لغتان بمعنى واحدٍ ؛ كرِطلٍ ورَطلٍ ، وكِسر البيت ، وكَسره ، وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم .
وقرأ علقمة{[2837]} ، وإبراهيم النَّخعيُّ : " وأقِيمُوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " وفي مصحف ابن مسعودٍ{[2838]} : " وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إلى البَيت " وروي عنه : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وفائدة التخصيص بقوله : " لِلَّهِ " - هنا - أنَّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع ، والتظاهر ، وحضور الأسواق ؛ وكلُّ ذلك ليس لِلَه فيه طاعةٌ ، ولا قربةٌ ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه ، وقضاء حقِّه .
والجمهور على نصب " العُمْرَةَ " على العطف على ما قبلها ، و " لِلَّهِ " متعلقٌ بأتِمُّوا ، واللام لام المفعول من أجله . ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الحجِّ والعمرة ، تقديره : أتمُّوها كائنين لله . وقرأ{[2839]} عليٌّ وابن مسعودٍ ، وزيد بن ثابت ، والشعبيّ : " والعُمْرَةُ " بالرفع عل الابتداء . و " لله " الخبر ، على أنها جملة مستأنفةٌ .
قال ابن عباسٍ ، وعلقمة ، وإبراهيم النخعي : إتمام الحجِّ والعمرة : أن يتمَّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما{[2840]} .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ ، وطاوس{[2841]} : تمام الحجِّ والعمرة : أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك .
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً{[2842]} .
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ ، وابن مسعودٍ - رضي الله عنهما - : تمام الحجِّ والعمرة : أن تحرم بهما من دويرية أهلك{[2843]} .
وقال قتادة : تمام العمرة أن تُعْمِرَ في غير أشهر الحجِّ ، فإن فعلها في أشهر الحج ، ثم أقام حتى حجَّ ؛ فهي متعة ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلِّها بحيث لا يلزمه دمٌ ، بسبب قرانٍ ، ولا متعةٍ{[2844]} .
وقال الضحاك : إتمامهما : أن تكون النفقة حلالاً ، وينتهي عما نهى الله عنه{[2845]} .
وقال سفيان الثوري : إتمامها : أن تخرج{[2846]} من أهلك لهما ؛ لا لتجارةٍ ، ولا لحاجةٍ أخرى{[2847]} .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الوفد كثيرٌ ، والحاجُ قليلٌ{[2848]} .
فصل في اختلافهم في وجوب العمرة
اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج ، على من استطاع إليه سبيلاً ، واختلفوا في وجوب العمرة ؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها ؛ وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عمر ، ورواه عكرمة عن ابن عباسٍ ، قال : والله إنَّ العمرة لقرينة الحجِّ{[2849]} في كتاب الله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ } وبه قال عطاءٌ ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوريُّ ، وأحمد ، والشافعيُّ ، في أصحِّ قوليه .
وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ ، وهو قول جابرٍ ، وبه قال الشعبيُّ ، وإليه ذهب مالكٌ ، وأبو حنيفة ، رضي الله عنهم أجمعين .
حجةُ القولِ الأوَّلِ أدلةٌ منها : قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ } والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً ؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] أي : فعلهنَّ على التمام ، والكمال ، وقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] ، أي : فافعلوا الصيام تاماً إلى الليل .
فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما ، فأتموهما ؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب ؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ، لا من هذه الآية ، وكذا قوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }
[ البقرة : 183 ] لا من قوله : " ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ " والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، سواءٌ أكانا فرضاً ، أو تطوُّعاً{[2850]} ، وتقول : الصوم خرج بدليلٍ ، أو تقول : وجب إتمامه بالشروع ، فيكون الأمر بالإتمام ، مشروطاً بالشروع فيهما .
فالجواب : أنَّ ما ذكرناه أولى ؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار ؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، ويدلُّ عليه : أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ ، فحملها على إيجاب الحجِّ ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع .
وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة{[2851]} من قرأ " وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ " وإن كانت شاذَّةً ، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد .
فإن قيل : قراءة عليٍّ ، وابن مسعودٍ ، والشَّعبي : " والعُمْرَةُ لِلَّهِ " بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ ، في الوجوب ؛ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنها شاذَّةٌ ؛ فلا تعارض المتواترة .
فإن قيل : قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً ؟
قلنا : استدللنا بها حيث هي موافقةٌ ؛ فتكون تقويةً للاستدلال ، لا أنها نفس الدَّلِيل ، واستدلالكم بالشاذَّة ؛ نفس الدليل ، وهو معارضٌ بها ؛ فتساقط الاستدلالان ، وسلمت المتواترة عن المعارض .
وثانيها : أن قوله : " وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ " معناها : أنَّ العمرة عبادةٌ الله ، وذلك لا ينافي وجوبها .
وثالثها : أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية ؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [ التوبة : 3 ] ، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر ، وهو العمرة بالاتفاق .
وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ ، فتكون واجبةٌ ؛ لقوله تعالى : { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] .
الدليل الثالث : ما ورد في الصَّحيح : أنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الإسلام ، فقال : " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ اللَّهِ ، وأَنْ تٌقِيمَ الصَّلاَةَ ، وتُؤْتِي الزكاةَ ، وتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ{[2852]} " .
وقوله - صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجلَّ وعظَّم - لأبي رزين ، لمَّا سأله ، فقال : إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحجَّ والعمرة ، ولا الظَّعْنَة{[2853]} ، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " حُجَّ عن أبِيكَ وَاعْتَمِرْ{[2854]} " وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - " إنَّ الحجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ ، لا يَضُرُّكَ بأيهما بَدَأْت{[2855]} " .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - " عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ : الحَجُّ وَالعُمْرَةُ " {[2856]} .
وقال ابن عمر - رضي الله عنه - : ليس أحد من خلق الله إلاَّ وعليه حجةٌ وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً{[2857]} .
وقال الشافعيُّ - رضي الله عنه - : اعتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم قبل الحجِّ ، ولو لم تكن العمرة واجبةً ، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجِّ الواجب .
القول الثالث : في قصة الأعرابيِّ حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام ، فعلَّمه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجَّ ، فقال الأعرابيُّ : هل عليَّ غيرها ؟ قال : " لا إلاَّ أن تطَّوع ، فقال : والله لا أزيد على هذا ، ولا أنقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أفلح إن صدق{[2858]} " .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وحَجِّ الْبَيْتِ{[2859]} " .
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " صَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ ، وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّة رَبِّكُمْ{[2860]} " .
وعن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن العمرة : واجبةٌ هي أم لا ؟ فقال : " لاَ ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ{[2861]} " .
وعن معاوية الضَّرير ، عن أبي صالحٍ الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم - قال : " الحَجُّ جِهَادٌ ، وَالعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ{[2862]} " .
أحدها : أن هذه أخبارُ آحادٍ ؛ فلا تعارض القرآن .
وثانيها : أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في السَّنة السابعة من الهجرة ، فيحتمل أنَّ هذه الأحاديث حيث وردت ، لم تكن العمرة واجبةً ، ثم نزل بعدها : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ } ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه .
وثالثها : أن قصة الأعرابي ، والحديثين اللذين بعده ، ذكر فيهم الحجَّ ، وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينَّا أن العمرة حجٌّ ، فلا تنافي وجوب العمرة ، وأمَّا حديث ابن المنكدر ، فرواه الحجاج بن أرطاة ؛ وهو ضعيفٌ .
واتفقت الأمة على أنَّه يجوز أداء الحجِّ والعمرة على ثلاثة أوجهٍ : الإفراد ، والتمتع ، والقران .
فالإفراد : أن يُحرم بالحجِّ منفرداً ، ثم بعد الفراغ منه ، يعتمر من أدنى الحلِّ .
والتمتع : أن يعتمر في أشهر الحجِّ ، فإذا فرغ من العمرة ، يحرم بالحجِّ من مكة المشرفة في عامه .
والقران : أن يحرم بالحج والعمرة معاً ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحجَّ قبل أن يفتتح الطواف ؛ فيصير قارناً ، ولو أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة ، لم ينعقد إحرامه بالعمرة .
واختلفوا في أيِّ هذه الثَّلاثة أفضل ؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورةٌ في كتب الفقه .
قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [ البقرة : 196 ] قال أحمد بن يحيى{[2863]} : أصل الحصر ، والإحصار : المنع والحبس{[2864]} .
ومنه قيل للملك : الحصير ؛ لأنه ممنوع من الناس .
979 - . . . *** جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ{[2865]}
وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنى ، أو بينهما فرقٌ ؟ خلافٌ . فقال الفراء{[2866]} ، والزجاج{[2867]} ، والشيباني{[2868]} ؛ إنهما بمعنى ، يقالان في المرض ، والعدوِّ جميعاً ؛ وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]
980 - وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ *** عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ{[2869]}
وهو قولُ أبي عُبَيْدَة ، وابن السِّكِّيتِ ، وابن قتيبة{[2870]} . وفرَّق بعضهم ، فقال الزمخشري ، وثعلبٌ : في فصيح الكلام : يقال : أُحْصِر فلانٌ : إذا منعه أمرٌ من خوفٍ ، أو مرض ، أو عجز ؛ قال تعالى : { الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 273 ] ، وحُصِر : إذا حبسه عدوٌّ ، أو سجنٌ ، هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى في كل شيءٍ ، مثل : صدَّه وأصدَّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضاً ؛ فإنه قال : والمشهورُ مِنَ اللُّغَةِ : أُحْصِر بالمرضِ ، وحُصِر بالعَدُوِّ . وعكس أبن فارسٍ في " مُجْمَلِه " ، فقال : " حُصِر بالمرضِ ، وأُحْصِر بالعَدُوّ " وقال ثعلب : " حُصِر في الحَبْسِ ، أَقْوى مِنْ أُحْصِر " ، ويقال : حَصِرَ صَدْرُه ، أي : ضاق ؛ ورجلٌ حَصِرٌ : لاَ يُبُوحُ بسرِّه ، قال جرير في ذلك المعنى [ الطويل ]
981 -وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا *** حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ حَصُوراً{[2871]}
والحَصِيرُ : معروفٌ ؛ لامتناعِ بعضه ببعض ، وانضمامُ بعضه إلى بعضٍ ، تشبيهاً باحتباس الشَّيء مع غيره ، والحصر : احتباس البول ، والغائط .
وقيل : إنَّ الحَصْرَ مختصٌّ بالمنع الحاصل من جهة العدوِّ ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس ، وابن عمر ، وابن الزُّبير ، قالوا : لا حصر إلاَّ حصر العدوِّ ، وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيِّب{[2872]} ، وإليه ذهب إسحاق ، وأحمد ، والشافعيُّ - رحمهم الله تعالى ؛ وأكثر أهل اللغة يردُّون هذا القول .
وفائدة هذا الخلاف في أنَّه : هل يثبت للمحصر بالمرض وغيره من الموانع حكم المحصر بالعدوِّ ؟
فقال الشافعيُّ : لا يثبت ، وقال غيره : يثبت ، والقائلون بأنه يثبت ، قال بعضهم : إنَّه ثابتٌ بالنصِّ ، وقال آخرون : بالقياس الجلي{[2873]} .
حجَّة القائلين بالثبوت : مذهب أهل اللغة ؛ لأن أهل اللغة قائلان :
أحدهما : القائلون بأن الإحصار مختصٌّ بالحبس الحاصل بسبب المرض ، فتكون الآية الكريمة نصاً صريحاً فيه .
والثاني : القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس ، سواءٌ كان مرضٌ أو عدوٌّ ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرجَ ، فَقَدْ حَلَّ ، وعليه الحَجُّ مِنْ قَابِل{[2874]} " .
قال عكرمة : فسألتُ ابن عباسٍ ، وأبا هريرة - رضي الله عنهما - عن ذلك ؛ فقالا{[2875]} : صَدَق . فدلَّ ظاهر الآية ، والحديث عليه أيضاً .
وعلى القول الثَّالث : فهو أنَّ الإحصار اسمٌ لمنع العدوِّ ، فنقول : هذا باطلٌ باتفاق أهل اللغة ، وبتقدير ثبوته ، يقيس المرض على العدوِّ بجامع دفع الحرج ، وهو قياسٌ جَلِيٌّ ظاهرٌ .
وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، فلا شكَّ أنَّ قولهم أقوى ؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء ، في معرفة اللغة ، ومعرفة تفسير القرآن . والحديث ضعيف ، ويمكن تأويله بأنَّه إنّما يحل بالكسر ، والعرج ، إذا كان مشروطاً في عقد الإحرام .
كما روي : أنَّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعةً ؛ فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، وبجَّل ، وعظَّم : " حِجّي واشْتَرِطي ، وَقُولي اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني{[2876]} " . ويؤكد هذا القول وجوهٌ :
أحدها : أنَّ الإحصار : إفعالٌ من الحصر ، والإفعال تارةً يجيء بمعنى التعدية ؛ نحو : ذهب زَيْدٌ ، وأذْهَبْتُه انا ، ويجيءُ بمعنى : صار ذا كذا ؛ نحو : أَغَدَّ البعيرُ ، أي : صار ذا غُدَّةٍ ، وأجرب الرجل ، إذا صار ذا إبلٍ جربى ، ويجيء بمعنى : وجدته بصفة كذا ؛ نحو : أَحْمدْتُ الرجل ، أي وجدته محموداً .
والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية ؛ فوجب إمَّا حمله على الصيرورة ، أو على الوجدان ، والمعنى أنَّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين .
واتفق أهل اللُّغة على أنَّ المحصور هو الممنوع بالعدو ، لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الإحصار : هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوِّ ، وذلك يؤكِّد ما قاله الشافعيُّ .
وثانيها : أنَّ الحصر عبارة عن المنع ، وإنما يقال للإنسان : أنَّه ممنوعٌ من فعله ، ومحبوسٌ عن مراده ؛ إذا كان الغير هو فاعل ذلك المنع والحبس .
فالحصر : عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج ، وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقودٌ في حقّ المريض ؛ لأنَّه غير قادر على الفعل ألبتة ؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع ، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي .
أمَّا إذا كان ممنوعاً بالعدو ، - فها هنا - القدرة حاصلة إلاَّ أنه تعذّر الفعل ؛ لأجل مدافعة العدوِّ ، فصح ها هنا أن يقال : إنه ممنوعٌ من الفعل ؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو ، لا في المرض .
وثالثها : أن قوله : " أُحْصِرْتُمْ " أي : حبستم ومنعتم ، والحبس لا بدَّ له من حابسٍ ، والمنع لا بدَّ له من مانعٍ ؛ لأنَّ الحبس ، والمنع فعلٌ ، وإضافة الفعل إلى المرض محالٌ عقلاً ، لأن المرض عرضٌ لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلاً ، وحابساً ، ومانعاً .
وأمَّا وصف العدوِّ بأنه حابسٌ ، ومانعٌ ؛ فهو وصفٌ حقيقيٌّ ، وحمل الكلام على الحقيقة ، أولى من حمله على المجاز .
ورابعها : أنَّ الإحصار مشتقٌ من الحصر ، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض ؛ فوجب أن يكون خالياً عن المرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة .
وخامسها : أنَّه تعالى قال بعده : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } . فعطف عليه المرض ، فلو كان المحصر ، هو المرض ، أو من يكون المرض داخلاً فيه ، لكان عطفاً للشيء على نفسه .
فإن قيل : إنما خصَّ المريض بالذكر ؛ لأنَّ له حكماً خاصاً ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية الكريمة : إن منعتم بمرض ، تحللتم بدمٍ ، وإن تأذَّى رأسكم بمرض ، حلقتم ، وكفَّرتم .
قلنا : هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض ، إلاَّ أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه ، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوَّ الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان أولى .
وسادسها : قوله تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوِّ ، لا في المرض ، فإنَّه يقال في المرض : شُفِي ، وعُفِيَ ولا يقال أمِنَ .
فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ لفظ الأمن لا يستعمل إلاَّ في الخوف ، فإنه يقال : أمن المرض من الهلاك ، وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوَّلها .
قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيَّد ، فإنَّه لا يفيد إلاَّ الأمن من العدوِّ .
وقوله : خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوَّلها .
قلنا : بل يوجب ؛ لأن قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } ليس فيه بيان أنَّه حصل الأمن عن ماذا ، فلا بدَّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيءٍ تقدَّم ذكره ، وليس إلاَّ الإحصار ، فكان التقدير : فإذا أمنتم من ذلك الإحصار .
وإذا ثبت أنَّ لفظ الأمن لا يطلق إلاَّ في العدوّ ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار ، منع العدوِّ .
وسابعها : إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أن الكفَّار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه ؛ هل تتناول غير ذلك السبب ؟ إلاّ أنهم اتفقوا على أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه ، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوِّ ، وأمّا قياس منع المرض عليه ، فلا يمكن لوجهين :
الاول : أنَّ كلمة " إِنْ " شرطٌ ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهراً ، فيقتضي ألاَّ يثبت الحكم إلاَّ في الإحصار الذي دلَّت الآية عليه ، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياساً ، كان ذلك نسخاً للنصِّ بالقياس ، وهو غير جائز .
الثاني : أنَّ الإحرام شرعٌ لازمٌ ، لا يحتمل النسخ قصداً ؛ ألا ترى أنَّه لو جامع ، فسد حجُّه ولم يخرج من الإحرام ؛ وكذا لو فاته الحجُّ حتى لزمه القضاء ، والمريض ليس كالعدوّ ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه ، وأمَّا المحصر بالعدو ، فإنّه خائفٌ من القتل إذا أقام ، فإذا رجع ، فقد أمن ، وتخلص من خوف القتل ، والله أعلم .
قال القرطبيُّ{[2877]} : " الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً ، فإن كان كافراً ، لم يَجُزْ قِتَالُه ، ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموْضِعه ؛ قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
[ البقرة : 191 ] ولو سأل الكافر جعلاً ، لم يجز ؛ لأن ذلك وهن في الإسلام ، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق ، جاز دفعه ، ولم يجز القتال ؛ لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإنّ الدِّين أسمح ، وأمّا بذل الجعل ، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما : ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال ، فيعدُّ هذا من النَّفقة " .
العدوُّ الحاصر : لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه ، واستيطانه ، لقوته وكثرته ، أو لا ، فإن كان الأول ، حلَّ المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني ، فهو مما يرجى زواله ، فهذا{[2878]} لا يكون محصوراً ؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو ، لا يدرك الحج ؛ فيحلّ حينئذٍ .
وقال أشهب : من حصر عن{[2879]} الحج بعدو ، فلا يقطع التَّلبية ، حتى يروح الناس إلى عرفة .
الإحصار : إنما يكون عن البيت ، أو عن عرفة . فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي ، والمبيت بمزدلفة ، ونحوها ، فلا إحصار فيها ؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم ، وإذا إحصر عن طريق ، وله طريق غيرها ، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة ، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة ، أو ميرة لا تجحف به{[2880]} ، فليس بمحصر ، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً ، [ فإن لم تكن أمناً ]{[2881]} ، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله . فهو محصر .
إذا أُحصر ، فلا قضاء عليه بالإحصار ؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض ، أو النَّذر ، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه ، لم يجب القضاء ؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل ؛ لوجود الإحصار ، وإن كان ذلك في العام الثاني ، وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق ، لا للإحصار ، وإن كان الحجُّ تطوُّعا ، فلا قضاء ؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً .
قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ } ، " مَا " موصولة ، بمعنى : الذي ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها في محل نصب ، أي : فليُهدِ ، أو فلينحر ، وهذا مذهب ثعلب .
والثاني : ويعزى للأخفش{[2882]} : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر .
والثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب ما استيسر ، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب ، واستصعب ، وغني واستغنى ، ويجوز أن يكون بمعنى : تفعَّل نحو : تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ ، وقد تقدَّم ذلك .
قوله : " مِنَ الهَدْي " فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون " مِنْ " تبعيضية ، ويكون محلها النَّصب على الحال من الضَّمير المستتر في " اسْتَيْسَر " العائد على " مَا " ، أي : حال كونه بعض الهدي .
والثاني : أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس ، فتتعلق بمحذوف أيضا .
أحدهما : أنه . جَمْعَ هَدْيَةَ كَجَدْي جمع جَدْيَةِ السَّرْج .
والثاني : أن يكُون مصدراً واقعاً موقع المَفْعُول ، أي : المُهْدَى ، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجَمْعِ . قال أبو عَمْرو بنُ العلاء : لا أعْرف لهذه اللَّفْظَةِ نَظِيراً .
وقرأ مُجاهد{[2883]} والزُّهريُّ : " الهَديُّ " بتشديد اليَاء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يَكُون جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا .
قال أحمدُ بنُ يحيى{[2884]} : أهلُ الحِجَاز يُخَفِّفُون " الهَدْي " ، وتميم يثقِّلُونَهُ ؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]
982 - حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى *** وَأَعْنَاقِ الهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ{[2885]}
وَيُقالُ في جمع الهَدْي : " أَهْدَاءُ " .
والثاني : أنْ يكون فعيلاً بمعنى مَفْعُولٍ ، نحو : قتيلٍ بمعنى : مَقْتُول .
قال القَفَّال : في الآية الكريمة إِضْمَارٌ ، والتَّقدير : فَتَحَلَّلْتُم فما استيسر ، وهو كقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ }
[ البقرة : 184 ] أي : فَأَفْطَرَ فِعِدَّة ، وفيها إضمارٌ آخر ، هو ما تَقَدَّم ، أي : فَلْيَهْدِ أو فلينحر ما اسْتَيْسَرَ ، فالواجِبُ ما استيسر ، ومعنى الهَدي : ما يهدى إلى بيت الله ، عزَّ وجلَّ ، تقرباً إليه بمنزلة الهَديَّة .
قال عليٌّ وابنُ عباس - رضي الله عنهما - والحسنُ وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرةٌ ، وأخسه شاةٌ ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس{[2886]} .
إذا عدم المُحْصَرُ الهَدْي ، هل ينتقل إلى البَدَل ؟ فيه خلافٌ قال أبو حنيفة : لا بَدَلَ لَهُ ، ويكونُ الهَدْيُ في ذمّته أبداً ؛ لأنه تعالى أوجَبَ على المحصرِ الهَدْيَ على التَّعْيين ، ولم يثبت له بَدَلاً .
وقال أحمدُ : له بدلٌ ؛ فعلى الأوَّل : هل له أنْ يَتَحلَّلَ في الحالِ ، أو يقيم على إحرامه ؟
فقال أبو حنيفة : يقيمُ على إحرامه ؛ حتى يجدهُ للآية .
وقال غيرهُ : له أَنْ يَتَحلَّل في الحال للمشقَّة ، وهؤلاء قالُوا يقوِّم الهدي بالدَّرَاهِمِ ، ويشتري بها طعاماً ، ويُؤدِّي ؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الهَدْي ، وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ ، ثم المُحْصَرُ إِنْ كانَ إحرامه بفرضٍ ، قد استقرَّ عليه ، فذلك الفَرْضُ في ذِمَّتِه ، وإن كان حَجّ تَطَوُّعٍ ، هل عليه القَضَاءُ ؟ ! فيه خلاف : فذهب جماعةٌ إلى أَّنَّه لا قَضَاء عليه ، وهو قَوْلُ مالكٍ ، والشَّافعي ، وقال مجاهدٌ والشَّعبي والنَّخعيُّ ، وأصحابُ الرَّأي{[2887]} : عليه القَضَاءُ .
قال القُرطبيُّ{[2888]} : قال مالكٌ وأصحابُهُ : لا يَمْنَعُ المُحرم الاشتراطُ في الحَجِّ ، إذا خاف الحَصْر بمرضٍ ، أو عَدُوٍّ ، وهو قول الثَّورِيِّ ، وأبي حنيفة ، وأصحابه - رحمهم الله - والاشتراط أنْ يَقُولَ في إحرامه : إنْ حَبَسَنِي حابِسٌ فمحَلِّي حيثُ حَبَسَني .
وقال أَحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور لا بأس أنْ يَشْتَرِطَ ، وله شَرْطُهُ ، وهو قولُ جماعةٍ من الصَّحَابة والتابعين ، واحتجُّوا بقوله عليه السَّلام لِضُباعَة حين سألتهُ عن كيفيَّة الإحرام فقال : " قُولِي : محلِّي حَيْث حَبَسْتَنِي " .
اختلَفُوا في العُمْرة ، فأكثر الفُقَهاءِ قالوا : حُكْمُهَا في الإحْصار كَحُكْم الحَجِّ ، وعن ابن سيرين{[2889]} أَنَّهُ لا إحصار فيها ؛ لأَنَّهَا غير مؤقّتة ، ويرده قوله تعالى : { فإِنْ أُحْصِرْتُمْ } عَقِيبَ ذكر الحَجِّ والعُمْرَةِ ، فيكونُ عَائِداً إليهما .
إذا أراد المحصر التحلّل وذبح ، وجب أن يَنْوِيَ التَّحلل عند الذَّبْحِ ، ولا يَتَحَلَّل أَلْبَتَّةَ قبل الذَّبْحِ .
قوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } في الآية حَذْفٌ ؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَتَحَلَّلُ ببلوغ الهَدْي مَحِلَّه ، حتى يَنْحَر ؛ فتقدير الآية الكريمة : حتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّه ، فينحر فإذا نَحَرَ فاحلقوا و " مَحِلَّه " يجوز أَنْ يكونَ ظرفَ مَكَانٍ ، أو زمانٍ ، ولم يُقْرأ إلاَّ بِكَسر الحاءِ فيما علمنا إلاَّ أّنَّهُ يَجُوزُ لغةً فتحُ حائِه ، إذا كانَ مكاناً . وفَرَّق الكسائيّ بينهما ، فقال : " المَكْسُورُ هو الإحْلاَلُ من الإحْرَامِ ، والمفتوحُ هو مَكَانُ الحُلُولِ من الإِحصارِ " .
قال أبو حنيفة : لا يَجُوزُ إِراقَهُ دم الإحصار إلاَّ في الحرم وقال أحمدُ والشَّافعيُّ - رحمهما اللَّهُ - حيث حبس والخلافُ مبنيٌّ على البَحْثِ في المَحَلِّ ؛ فقال أبو حنيفة : هو اسمٌ للمكان . وقال غيره : هو اسمٌ للزَّمانِ الذي حصل فيه الحل . وحجّتهم وجوه .
منها : أنَّه - عليه السَّلامُ - أحصر بالحُديبيةِ ونحر فيها ، وليست من الحَرَمِ .
قال أصحابُ أبى حنيفة : إِنَّما أحصر فى طرف الحُدَيبية ، الّذى أسفل مَكَّةَ ، وهو من الحَرَمِ .
قال الوَاقِدِيُّ : الحديبيةُ على طرف مكَّةَ على تِسْعَةِ أَمْيِالِ من مكَّةَ{[2890]} .
قال القَفَّال{[2891]} - رحمه الله - : الدَّليل على [ أنَّ نحر ذلك الهدي ما وقع فى الحرم قوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ }{[2892]} [ الفتح : 25 ] .
ومنها : أَّنَّ المحصَر سواء كان فى المحلّ ، أو الحرم ، فهو مأمورٌ بنحر الهدي بقوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ، فأوجب على المُحْصَرِ ، سواء كان فى الحلّ أو الحرمِ ، وإذا ثَبَتَ ذلك ؛ وَجَبَ أن يجوز له الذَّبحُ ، حيث كَانَ قادراً على إراقة الدَّمِ .
ومنها : أنَّه تعالى إنَّما مكن المحصر من التَّحلل بالذَّبح ؛ ليتمكن من تخليص نفسه فى الحال عند خَوْفِ العدوِّ ، فلم يَجُزِ النَّحْرُ إلاَّ فى الحرم وَمَا لم يحصلُ النَّحر لا يحصل له التَّحلل فى الحالِ ، وذلك يُنَاقِضُ المَقْصُودَ من مشروعيّة هذا الحكم ؛ لأن الموصل للنَّحر إلى الحرم ، إن كان هو فالْخَوْفُ ، باقٍ ، وكيفَ يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخَوْفِ ، وإن كَانَ غيره ، فقد لا يَجِدُ ذلك الغَيْرَ ، فماذا يفعل ؟ حجَّةُ أبي حنيفة وجوه :
الأَوَّل : أَنَّ المحِلَّ - بكسر الحاء - عبارة عن المكان كالمسجدِ والمَجْلِس ، فقوله { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } يَدُلُّ على أَنَّهُ غير بالغٍ فى الحَالِ إلى مكان الحِلِّ ، وهو عندكم بَالِغٌ مَحَلَّهُ فى الحال .
وجوابه : أنَّ المحلَّ عبارة عن الزَّمان كمحل الدّين .
الثَّاني : أن لفظ " المَحِلّ " يحتمل الزَّمانَ والمَكَانَ إلاَّ أن الله - تعالى - أَزَالَ هذا الاحتمال بقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
وجوابه بأَنَّ كُلَّ ما وجب على المحرم فى ماله من بَدنَةٍ ، وجزاء هَدْي ، فَلاَ يُجْزِي إلاَّ فى الحَرَمِ لمساكين أهْلِهِ إلاَّ فى مَوْضعَين :
أحدهما : مَنْ سَاقَ هَدْياً ، فعطب فى طريقه ذبحه ، وخلَّى بين المَسَاكِين وَبَيْنَه .
والثَّاني : دم المُحْصَرِ بالعَدُوِّ فينحر حيثُ حبس ، فالأَدِلَّةُ المذكورةُ فى باقي الدّماءِ فلم قلتم إِنَّها تَتَنَاوَلُ هذه الصَّورَةَ ؟
الثَّالث : قالوا إِنَّما سُمِّيَ هَدْياً ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى الهَدِيَّةِ التى يَبْعَثُهَا العَبْدُ إلى رَبِّهِ والهديّةُ لا تكونُ هَدِيَّةً إلاَّ إذا بَعَثَها المهَدي إلى دَارِ المهدى إليه ، وهذا المعنى لا يُتَصَّورُ إلاَّ بجعلِ موضعِ الهَدْي هو الحَرَمُ .
وجوابه : هذا تَمَسُّكٌ بالاسم ، ثم هُوَ مَحْمُولٌ على الأصلِ عند القُدْرَة .
الرابع : أَنَّ سَائِر دماء الحَجّ سواء كانت قربة ، أو كَفَّارة ، لا تَصِحُّ إلاَّ فى الحرم ، فكذا هذا .
وجوابُهُ أنَّ هذا الدَّم إِنَّما وَجَبَ لإزالة الخَوْفِ ، وزوال الخوف إِنْما يَحْصُلُ إذا قدر عليه حَيْثُ أُحصر ، فلو وَجَبَ إِرْسَالَه إلى الحرم ، لم يحصل هذا المَقْصُود ، وهذا المَعْنَى غير موجود في سائِرِ الدِّمَاءِ ، فَظَهَر الفَرْقُ .
والقَائِلُونَ بأَنَّ مَحلَّه الحَرَم قالوا : إن كان المُحْصَر حَاجّاً ، فمحله يوم النَّحْرِ ، وإِنْ كَانَ معتمراً ، فمحله يَوم يبلغ هديه الحرم .
قوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } [ البقرة : 196 ] .
أحدهُما : أن يَكُونَ فى مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من " مَرِيضاً " ؛ لأنه فى الأصل صفةٌ له ، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً . وتَكُونَ " مِنْ " تبعيضيةٌ ، أي : فَمَنْ كانَ مريضاً منكم .
والثَّاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً .
قال أبو حيان : " وهو لا يَكَادُ يُعْقَلُ " . و " مَنْ " يَجُوزُ أنْ تكونَ شرطيةً ، وأَنْ تكونَ موصولةً .
قوله : { أَوْ بِهِ أَذًى } يجوزُ أَنْ يكُونَ هذا مِنْ بابِ عَطْفِ المُفْرَدَاتِ ، وأن يَكُونَ من باب عَطْفِ الجُمَلِ . أما الأولُ ، فيكونُ الجَارُّ وَالمجرورُ في قوله : " به " معطوفاً على " مريضاً " الّذي هو خبرُ كانَ ، فَيَكُونُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ . ويكونُ " أذًى " مرفوعاً به على سبيل الفَاعِلِيِّة ؛ لأَنَّ الجارَّ إِذَا اعْتمد رَفَع الفاعل عند الكُلّ فيصيرُ التقديرُ : فَمَنْ كان كائناً به أَذىً من رَأْسِهِ . وأما الثَّاني فَيَكُونُ " به " خبراً مقدَّماً ، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ ، وفي الوجهِ الأَوَّلِ كان نصباً ، و " أذًى " مبتدأٌ مؤخَّر ، وَتَكُونُ هذه فى مَحَلِّ نَصْبٍ ؛ لأنَّها عَطفٌ على " مَريضاً " الواقع خبراً لكَان ، فهي وإنْ كانَتْ جُمْلَةً لفظاً ، فهي فى مَحَلِّ مُفْرَدٍ ؛ إذ المَعْطُوفُ على المَفْرَدِ مفردٌ ، لا يُقَالُ : إنه عَادَ إلى عَطْفِ المُفْرَدَاتِ ، فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفَرق .
وأجازوا أن يَكُونَ " أَذًى " مَعْطُوفاً على إِضْمارِ " كان " لدلالةِ " كانَ " الأولى عليها ، وفى اسْمِ " كَانَ " المَحْذُوفَةِ حينئذٍ احْتِمَالانَ :
أحدهما : أن يَكُونَ ضميرَ " مَنْ " المتقدِّمَةِ ، فيَكُونُ " به " خبراً مقدماً ، و " أذى " مبتدأ مؤخراً ، والجُمْلَةُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ خبراً لكان المضمرةِ .
والثَّاني : أن يكونَ " أَذًى " اسمها و " به " خبرَها ، قُدِّم على اسمها .
وأجَازَ أَبُوا البَقَاءِ أن يَكُونَ " أَوْ بِهِ أَذًى " معطوفاً على " كَانَ " ، وأَعْرَب " به " خبراً مقدّماً متعلِّقاً بالاستقرار ، و " أَذًى " مبتدأ مُوَخّراً ، والهاءُ فى " بِهِ " عائدةٌ على " مَنْ " . وخَطَّأَهُ أبو حيان فيه ، قال : لأَنَّهُ كَانَ قد قَدَّمَ أن " مَنْ " شَرْطيةٌ ، وعلى هذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ خطأ ، لأَنَّ المَعْطُوف على جُمْلةِ الشَّرْطِ شَرْطٌ ، والجُمْلَةُ الشَّرْطيةُ لا تَكُونُ إلا فِعْلِيَّةً ، وهذه كما ترى جملةٌ اسْميّةٌ على ما قَرَّرَهُ . فَكَيْفَ تَكُونُ معطوفةً على جملةِ الشَّرطِ التِي يَجِبُ أن تكونَ فعليةً ؟ فإنْ قيل : فإذا جَعَلْنَا " مَنْ " موصولةٌ ، فهل يَصِحُّ ما قاله من كَوْنِ " بِهِ أَذًى " معطوفاً على " كَانَ " ؟ فالجَوَابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً ؛ لأنَّ " مَنْ " الموصولةَ إذا ضُمِّنَتْ معنى اسْم الشَّرْطِ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جُمْلَةً فِعْليةً ، أو ما هي فى قُوَّتِهَا . وَالبَاءُ فى " به " يجوزُ فيها وجهَان :
أحدُهما : أن تَكُونَ للإلصاق .
والأذى مَصدر بمعنى الإِيذاءِ ، وهو الأَلَمُ يُقالُ آذاه يُؤْذِيه إيذَاءً وأذى ، فكان الأَذَى مصدر على حذف الزَّوائد ، أو اسم مصدر كالعَطَاءِ اسم للإِعْطاءِ ، والنَّبَاتِ للإِنْبَاتِ . قال ابنُ عَبَّاس - رضي اللَّهُ عنهما " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رأْسِهِ " أي برأسه قروح ، { أَوْ بِهِ أَذًى } ، أي : قَمْلٌ " {[2893]} .
قولُهُ : " مِنْ رَأْسِهِ " فى وجهان :
أحدهما : أنَّه فى مَحَلِّ رَفْع ؛ لأنَّهُ صِفَةٌ لأَذَى ، أي : أذى كَائنٌ من رَأْسِهِ .
والثَّاني : أَنْ يَتَعَلَّق بما يَتَعلَّقُ " بِهِ " من الاستقرارِ ، وعلى كلا التَّقْدِيرَين تكُونُ " مِنْ " لابتداءِ الغَايَةِ .
قوله : " فَفِدْيَةٌ " فى رفعها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أن تكُونُ مُبْتَدَأً والخبرُ مَحْذُوفٌ ، أي : فعليه فِدْيَةٌ .
والثَّاني : أن تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدأ محذوف ، أي : فالواجبُ عليه فِدْيَةٌ .
والثَّالث : أن تكُونَ فاعل فعلٍ مقدَّر ، أي فَتَجِبُ عليه فديةٌ . وقُرئ شَاذّاً : " فَفِدْيَةً " نصباً ، وهي على إضْمَار فعلٍ ، أي : فَلْيَفْدِ فديةً .
و " مِنْ صِيَام " فى مَحَلِّ رفعٍ ، أو نَصْبٍ على حسب القِرَاءَتَيْن صفةً ل " فِدْيَة " ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و " أو " للتَّخيير ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفَاءِ تقديرهُ : فَحَلَقَ فَفِدْيَة .
وقرأ الحَسَنُ{[2894]} والزُّهريُّ " نُسْك " بسكون السِّينِ ، وهو تخفيفُ المضموم . وفى النَّسُك قولان .
أحدهما : أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ : نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان ، كما قرأهُ الحَسَنُ .
والثَّاني : أنه جَمْعُ نَسِيكة ، قال ابنُ الأَعْرَابيّ : " النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ ، وتُسَمَى العبادةُ بها ؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد " نَاسِكٌ " ، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة " نَسيكة " لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى .
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجرة ، قال كعبٌ : مَرّ بي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحُدَيْبيَةِ ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصّئبان ، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح ، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ - : " أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ " قُلْتُ : نعم يا رَسُول اللَّهِ ، قال : " احْلِقْ رَأْسَكَ " ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة{[2895]} .
والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض ، أو بهوامّ رأسه ؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح ، أو يَصُومَ ، أو يَتَصَدَّق ، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ ، وأعلاه بَدَنَةٌ . وأمَّا الصِّيامُ ، فليس فى الآية كمِّيته ، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام ؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - " لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة ، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : احْلِقْ ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكاً ، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ{[2896]} "
والثَّاني : قال ابنُ عبّاس - رضي الله عنهما - والحَسَنُ : الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا المَوْضِعِ ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك ، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي .
اختلفوا : هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص ، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص ، والّذي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة ؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص ، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة ، فكان مُقَدَّماً عليه ، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة : فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ .
قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه ، ربما لحقه مرض ، وأذى فى رأْسِهِ ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي .
وقال آخرون : بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض ، أو أذى فى رَأْسِهِ ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق ، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك ، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية ، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره ، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً ، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظوراتِ الإِحْرامِ .
فَأَمّا من حلق رأسه عامِداً من غير عُذْرٍ ، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ يجب عليه الدَّمُ .
وقال مالكٌ : حكمه حكم من فعل ذلك بعذر ؛ لأَنَّ وجوبه على المَعْذُور تنبيه على وجوبه على غير المَعْذُورِ .
وقال ابنُ الخطيب{[2897]} : هذا ضَعيفٌ ؛ لأَنَّ قوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } يدل على اشْتِراط هذا الحُكْم بهذه الأَعذارِ ، والمَشْرُوط بالشيء عدم عند عدم الشَّرْط .
قوله : " فإذا أَمِنْتُم " الفاءُ عَاطفةٌ على ما تَقَدَّم ، و " إِذَا " مَنْصُوبَةٌ بالاستقرار المحذوفِ ؛ لأنَّ التَّقْدِير : فعليه ما اسْتَيْسَرَ ، أي : فاستقرَّ عليه ما اسْتَيْسَرَ " .
وقوله : " فَمَنْ تَمَتَّعَ " الفاءُ جوابُ الشَّرْطِ بإذا ، والفَاءُ فى قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ } جوابُ الشَّرط الثاني . ولا نَعْلَمُ خلافاً أَنَّهُ يَقَعُ الشَّرْطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ . وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على { فَمَا اسْتَيْسَرَ } .
تقدير الكَلاَمِ ، فإذا أمنتم الإحصار بالخَوْفِ أو المرض ، { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } واختلفوا فى هذه المُتْعَةِ : فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَير{[2898]} : معناه فمن أُحْصِرَ حَتّى فَاتَهُ الحَجُّ ، ولم يَتَحَلَّل ، فَقَدِمَّ مَكَّةَ ، فخرج من إِحرامهِ بعَمَلِ عُمرة ، أَو اسْتَمْتَعَ بإِحْلاَلِهِ ذلك بتلك العمرة إلى السَّنَةِ المقبلة ، ثم حَجَّ فيَكُونُ متمتعاً بذلك الإحلال إلى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فى العَام القَابِلِ{[2899]} ، وقيل معناه : فإذا أمنتم ، وقد حَلَلْتُم من إحرامِكُم بعد الإحصارِ ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العُمرَةَ إلى السَّنَةِ القَابِلة ، فاعْتَمَرتُم في أشهر الحج ، ثم حللتم واستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ، ثم أحرمتم بالحج ، فعليكم ما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي ، وهو قول علْقَمَة ، وإبراهيم النَّخعيِّ ، وسعيد بن جبير{[2900]} .
ومعنى التَّمَتُّع : التَّلَذُّذ ، يقالُ تمتَّعَ بالشَّيءِ ، أي : تَلَذَّذَ به ، والمتاع : كُلُّ شَيءٍ يُتمتع به ، وأصلُهُ من قولهم : " حَبْلٌ ماتِعٌ " أي : طويلٌ ، وكل ما طالت صحبته بالشَّيء ، فهو مُتَمتِّعٌ به ، والتمتع بالعمرة إلى الحَجّ هو أن يَقدُم مكَّة مُعْتمِراً فى أشهرِ الحجِّ وينزع منها ، ثم يقيمُ بمكَّةَ حلالاً ، حتَّى يُنشىء منها الحَجَّ من عَامِهِ ذلك ، وإنَّما سُمِّي متمتعاً لأنَّهُ يكُونُ مستمتعاً بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامِهِ بالحَجِّ ، وهذا التمتع الَّذي ليس بمكروهٍ ، بل هو الأفضلُ عند أحمد ، وإتمامِ التَّمتُّع المكروه ، وهو الَّذي خطب به عمر - رضي الله عنهُ - وقال : " مُتْعَتَانِ كَانَتَا على عهد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنهما ، وأُعاقِبُ عليهما ، مُتْعَةُ النِّسَاءِ ، ومتعة الحَجِّ{[2901]} " ، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ، ثُمَّ يفسخ الحجَّ إلى العمرة ، ويتمتَّعُ بها إلى الحَجِّ ، روي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَذن لأصحابه فى ذلك ثُمَّ نسخ .
روي عن أبي ذَرٍّ أنَّه قال : ما كانت متعة الحج إلاّ لي خاصة ، وكان السَّبَبُ فيه أنَّهم كانُوا لا يَرَونَ العُمرةَ فى أشهر الحَجِّ ، ويعدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الفجُور ، فلما أراد - عليه السَّلام - إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه ، بأنْ نقلهم فى أشهرِ الحَجِّ من الحَجِّ إلى العُمرَةِ ، وهذا سَبَبٌ لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان فسخ الحَجِّ خاصّاً بهم{[2902]} .
قال القُرطبيُّ{[2903]} : وزعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهي عُمر عن التَّمَتُّعِ : أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرَّتَيْنِ أو أكثر فى العام حتى يُكْثر عمارته بكثرة الزِّيارة فى غير المَوْسِمِ ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحَرَمِ بدخول النَّاس ، تحقيقاً لِدَعوة إبراهيم - عليه السَّلامُ -
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقيل : إنَّما نهى عنها ؛ لأَنَّهُ رأى النَّاسَ مالوا إلى التَّمتُّع ليسارته ، وخفَّتِهِ ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران ، وهما مسنُونانِ .
التَّمتُّع لا يحصُلُ إلاَّ بمحظورات الإحرامِ لكِنَّهُ لما كان بسبب إتيانِهِ بالعُمْرَة سَمَّاهُ تمتعاً بالعُمرة إلى الحَجِّ .
يشترط لوجوب دم التَّمَتُّع خمسة شروطٍ{[2904]} :
أحدها : أن يُقَدم العُمرة على الحَجِّ .
والثاني : أن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحَجِّ ، فلو أحرمَ لها قبل أشهر الحَجِّ ، وأتى بشيء من الطَّوَافِ ، ولو شوطاً واحِداً ، ثم أكمل باقيه في أشهر الحَجِّ فى هذه السَّنة ، لم يلزمه الدَّمُ ؛ لأنَّهُ لم يجمع بينَ النُّسُكَيْنِ فى أشهر الحَجِّ .
وقال أبو حنيفة : إذا أتى بأكثر الطَّوَافِ فى أشهر الحَجِّ ، فهو مُتَمَتِّعٌ ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحَجِّ فلا .
الثالث : أن يَحِجُّ فى هذه السَّنَة ، فإن حَجَّ فى سَنَةٍ أخرى لم يَلْزَمْهُ دَمٌ ؛ لأَنَّه لم يوجد مُزَاحمة الحَجِّ والعمرة فى عامٍ واحدٍ ، ولم يحصل الترفُّه بترك أحد السّفرين ، إلاَّ على قول ابن الزُّبير فيما قَدَّمناه .
الرابع : ألا يكُون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى : { ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وهو مَنْ كان أهلُهُ على أقلّ من مسافة القَصْرِ ، وهل تُعْتَبَرُ هذه المَسَافَةُ من مَكَّة ، أو من الحرمِ فيه وجهان .
الخامس : أن يُحْرِم بالحَجِّ من مَكَّةَ بعد الفَرَاغ من العُمرة ، فلو رجع إلى الميقاتِ ، وأحرمَ بالحَجِّ منه ، لا يلزمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ .
قال القُرطبيُّ{[2905]} : التَّمَتُّع بالعمرة إلى الحَجِّ على أربعةِ أوجهٍ :
أحدها مجمع عليه ، والثَّلاثةُ مختلفٌ فيها فالمجمعُ عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي } ، وذلك أَنْ يُحْرِمُ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ ، ويكون آفاقيًّا ، ويفرغ منها ، ويقيم حلالاً بمكَّة إلى أن يحرم بالحجِّ من عامِهِ قبل رجوعه إلى بلدِهِ .
الأول : أن يجمع بين الحجّ والعمرة .
السادس : غير مخلط لها بالحَجِّ .
السابع : وأن تكُونَ العُمرةُ والحج عن شخصٍ واحدٍ .
الوجه الثَّاني من وجوه التَّمتُّع بالعُمْرَة : هو القِرَانُ ، وهو أنْ يَجْمَعَ بينهما فى إحرامٍ واحدٍ ، قيُهِلّ بهما جميعاً فى أشهر الحَجِّ ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العُمْرَةِ ، مرَّة ، وإلى الحَجِّ أخرى ، ولا يحرم لكلِّ واحد من ميقاتِهِ ، فيدخل تحت قوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } .
الوجه الثالث الَّذي نهى عنه عمر - رضي اللَّهُ عنه - : وهو أنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ فإذا دخل مَكَّةَ فسخ حجّه إلى عمرة ، ثم يحلّ إلى أن يُهِلَّ بالحج يَوْم التَّرْوية{[2906]} ، فاختلف فى ذلك ، فالجمْهُورُ على تَرْكِ العَمَل بها .
قال أبو ذرِّ كانت المتعة لنا فى الحَجِّ خاصّة{[2907]} .
الوجهُ الرَّابع من التمتع : متعة المُحصر ، ومن صُدَّ عن البيت .
دم التمتع دم جبران ، فلا يجوزُ له الأكل منه .
وقال أبو حنيفة دم نسك ، ويأكُلُ منه .
أحدها : أنَّ التمتع حصل فيه خَلَلٌ فيكون دم جبران .
وبيان الخَلَلِ أنَّ عُمَرَ كان ينهى عن المتعةِ ، فقال له عثمانُ - رضي اللَّهُ عنهما - عَمَدْتُ إلى رُخْصَةٍ بسبب الحاجة ؛ فَدلّ على حُصُولِ نقص فيها .
وأيضاً سمَّاها تَمَتُّعاً ، والتمتع التَّلَذُّذ ، ومبنى العبادة على المَشَقَّةِ .
وأيضاً ففي التَّمَتُّع صار السَّفَرُ للعمرة ، وكان من حَقِّه أن يكُون للحج ؛ لأَنَّهُ الحج الأكبر ، وأيضاً حصل التَّرفه بالإحلال بينهما ، وأيضاً كان من حَقّه جعل الميقات للحجِّ ، فإنَّه الأَكبَرُ ، وكل هذه أنواع خَلَلٍ ، فوجب أن يَكُونَ الدَّم دم جبران .
وثانيها : أنَّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحَجّ ، أو العمرة ، كما لو أفردها وكما في حقّ المَكِّي ، والجمعُ بين العبادَتين لا يوجب الدَّم ، بدليل أنَّ من جمع الصَّلاة ، والصّوم ، والاعتكاف لا يَلْزَمُهُ دم ، وإذا ثبت ذلك فليس الدَّم دم نسك ، بل دم جبران .
وثالثهما : أنَّ هدي التمتع ليس مُؤَقّتاً ، والمناسِكُ كلّها مؤقتة ، فيكُونُ دم جُبرانٍ .
ورابعها : أنَّه يُبَدَّلُ بالصَّوم ، ودم النُّسك لا يُبَدَّلُ بالصَّوم .
والمجزي فيها جذعة من الضأن ، أو ثنية من المَعْزِ ، أو شركُ ستَّةٍ فى بدنةٍ ، أو بقرةٍ ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجِّ ؛ لأنَّ قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } يدلُّ على أنَّه عقيب التَّمَتع ، ويستحب ذبحه يوم النَّحرِ فلو ذبح بعد الإحرام بالحجِّ جاز ؛ لأَنَّ التمتع قد تَحَقَّقَ . وعن أبي حنيفة لا يجوز إلاَّ يوم النَّحر ؛ لأَنَّهُ نسك عنده .
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } ؛ يعنى : أنَّ المتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ ، فعليه أنْ يصُومَ ، وهل الهدي أفضلُ أم الصِّيَامُ ؟ قال ابنُ الخطيب{[2908]} : الظَّاهِرُ أنَّ المبدل أفْضَلُ من البدل ؛ لكنَّهُ تعالى بيَّن في هذا البدل أنَّه في الكمال والثَّوابِ كالهَدْي وهو كقوله " تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ " .
قوله : " فَصِيَامُ " فى رفعه الأَوجه الثَّلاَثَة المّذكُورةُ فى قولِهِ : " فَفِدْيَةٌ " وقرئ{[2909]} نصباً ، على تقدير فَلْيَصُمْ ، وأُضيف المَصْدَرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً ، وهو فى اللَّفظِ مَفْعُولٌ به على السَّعَةِ . و " فِي الحَجِّ " مُتَعَلّقٌ بِصِيَامٍ وقَدَّر بعضهم مُضافاً ، أي : في وقتِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّر مُضَافَيْن ، أي : وقتَ أفعالِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرْفَ مكانٍ ، أي : صَوْمُهُ ، بعد إحرام العُمرة ، وقبل إحرام الحَجِّ .
أحدها : أنَّه صيامٌ قبل وقته ؛ فلا يجُوزُ كمن صَامَ رَمَضانَ قبلهُ ، وكما لو صام السَّبعة قبل الرُّجوع ، وذلك لأَنَّ الله تعالى قال : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } ، والمراد إحرام الحج ، لأنَّ سَائِرَ أفعال الحجِّ لا تصلح ظرفاً للصَّومِ ، والإحرامُ يَصلُحُ ، فوجب حمله عليه .
وثانيها : أنَّ ما قبل الإحرام بالحجِّ ليس بوقت لِلْهَدي الذي هو أصلٌ ، ولا يكُونُ وقتاً لبدله ، كسائر الأُصُول فى الأبدال .
وإذا ثبتَ ذلك ، فَنَقُولُ : اتَّفَقُوا على أَنَّه يجُوز بعد الشُّرُوع فى الحَجِّ إلى يوم النَّحْرِ ، وثبت أنَّهُ لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التَّشريق لقوله عليه السَّلام : " لا تَصُوْمُوْا فى هَذِهِ الأَيَّامِ{[2910]} " ، والمستحبُّ أنْ يَصُومَ فى أيّام الحج حيثُ يكُونُ يوم عرفة مفطراً .
وقال بعضهم : يصوم ثَلاَثة أيّام آخرها يومُ عرَفَةَ والثَّامِن ، والتَّاسع ، ولو صَامَ ثَلاَثَة أيَّامٍ آخرها يومُ التَّرْوِية ، ويكُونُ قد أحرمَ بالحجِّ قبله جاز ، ولا يجُوزُ يوم النحر ، ولا أيام التَّشْريق . وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق .
اختلفوا فيمن اعْتَمرَ فى أشهر الحَجِّ ، ثُمَّ رجع إلى بَلَدِهِ ، ثمَّ رجَعَ في عامه فقال الجمهورُ : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ، ولا صِيَام . وقال الحسن : هو مُتَمَتِّعٌ .
وأجمعوا على أَنَّ الآفاقي إذا قدم معتمراً فى أشهر الحج عازِماً على الإقامة ، ثم أنشأ الحج من عامه فحج ، أنّه متمتع عليه ما على المُتَمَتِّع .
قوله : " وَسَبْعَةٍ " الجمهورُ على جَرِّ " سَبْعَةٍ " عطفاً على ثلاثة . وقرأ{[2911]} زيدُ بنُ عَليٍّ ، وابن أبي عَبْلَة : " وَسَبْعَةً " بالنَّصب . وفيها تخريجان :
أحدهما : قاله الزَّمخشَرِيُّ ، وهو : أن يكُونَ عطفاً على مَحَلِّ " ثَلاَثَة " كأنه قيل : فصيامُ ثلاثةٍ ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، يعني : أنَّ المُضاف إليه المصدرُ مَنْصُوب معنى بدليلِ ظُهُورِ النَّصب فى " يَتيماً " .
والثاني : أنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : " فَلْيَصُومُوا " ، قال أبو حيان " وهذا مُتَعَيِّنٌ ؛ لأنَّ العَطْفَ على المَوضع يُشْتَرَطُ فيه وجُودُ المُحْرِزِ " يعني : على مذهب سيبويه .
قوله : " إِذَا رَجَعْتُمْ " : مَنْصُوبٌ بِصيام أيضاً ، وهي هُنَا لِمَحضِ الظَّرفِ ، وليس فيها مَعْنَى الشَّرْط . لا يُقَالُ : يَلْزَمُ أن يَعْمَلَ عامِلٌ واحدٌ فى ظَرْفَي زَمان ، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطف والبَدلِ ، وهنا يكُونُ عَطَفَ شيئين على شيئين ، فَعَطَفَ " سَبْعَةٍ " على " ثَلاَثَةٍ " ، وعطف " إذ رَجَعْتُم " على " فِي الحَجّ " .
وفي قوله : " رَجَعْتُمْ " شيئان :
أحدهما التفاتٌ ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى ، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبله { فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } ، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على " مَنْ " ، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل : " إِذَا رَجَعَ " بضمير الغَيْبَةِ . وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ ؛ اعتباراً بمعنى " منْ " ، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ ، فقال : " رَجَعَ " .
اختلفوا فى المراد من الرُّجوع ، فقيل : هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع : هو الفراغُ من أعمال الحَجّ ، والأخذ فى الرُّجوع ، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ ، وقبل الوصول إلى بيته ، لا تُجزيه على الأوَّل . وعن أبى حنيفة : تجزيه .
حجّةُ الأَوَّل : أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعَ إلى الوَطَنِ شَرْطاً ، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط ، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ ، لم يلزمه شيءٌ . وروَى ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : " لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي . فطُفْنَا بالبَيْتِ ، وبالصَّفَا ، والمروة ، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ ، ولبسنا الثِّيَابَ ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا ؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ ، وسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ " {[2912]} ، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه .
وقوله : " تِلْكَ عَشَرَةٌ " مبتدأ وخبرٌ ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة ، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به . وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّمييز ، وهو أحسن الاستعمالين ، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ ، وفي الحديث : " وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ{[2913]} " ، وحكى الكسائيُّ : " صُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً " .
وفي قوله : " تِلْكَ عَشَرَةٌ " - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني ، منها قول ابن عرفة : " إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين ، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا " ، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال : " فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب : أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً ، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ ، فيتأكَّد العِلمُ " ، وفي أمثالهم " عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ " . قال ابن عرفة : " وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك ؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ " ، وقد جاء : " لا نَحْسُب ، وَلاَ نَكْتُب " ، وورد ذلك في أشعارهم ، قال النَّابغة : [ الطويل ]
983 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا *** لِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ{[2914]}
984 - ثَلاَثٌ واثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ *** وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ{[2915]}
985 - ثَلاَثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي *** وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رِيِّي *** وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ{[2916]}
986 - فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْراً *** وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ{[2917]}
وقال عليه السَّلام : " الشهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهَكَذَا " ، ثمَّ أَشَارَ بِيَديه ثَلاَثاً ، وأمسك إبهامه فى الثالثة ، منبهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالأخرى على تسعة وعشرين{[2918]} .
ومنها قال المبرد : " فتلك عشَرَةٌ : ثلاثةٌ فى الحَجّ وسبعةٌ إذا رَجَعْتُمْ فَقَدَّمَ وأخَّر " ، ومنها قال ابن الباذش : جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها ، لا أنَّها هي الخَبَرُ المستقلُّ بفائدةِ الإسناد كما تقول : زيدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ " يعني أن المقصود الإخبار بالصَّلاح ، وجيء برجلٍ توطئةً ، إذ معلومٌ أنه رجلٌ . ومنها قال الزَّجاج{[2919]} : " جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازِ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثَلاَثَةً أو سبعةً " ؛ لأنَّ الواو قد تقوم مقام أو ، ومنه : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] فأزال احتمال التَّخيير ، وهذا إنَّما يتمشَّى عند الكوفيِّين ؛ فإنَّهم يقيمون الواو مقام أو . وقال الزمخشريُّ : " الواو قد تجيءُ للإباحة فى قولك : " جَالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرينَ " ألا ترى أنَّه لو جالسهما معاً ، أو أحدهما كان ممتثلاً فجمع نفياً لتوهُّمِ الإبَاحَة " قال أبو حيان : " وفيه نَظَرٌ ، لأنَّهُ لا تُتَوَهَّمُ الإِبَاحَة ؛ فإنَّ السِّيَاقَ سياقُ إيجَاب ، فهو يُنَافِي الإبَاحَةَ ، ولا يُنَافي التَّخْيِيرَ ، فإنَّ التَّخيِيرَ يَكُونُ فى الوَاجِبَاتِ ، وقد ذكر النَّحْوِيُّونَ الفَرْقَ بينَ التَّخْيِير ، والإباحَةِ " .
وقد ذكر ابن الخطيب{[2920]} قول الزَّمخشري هذا المتقدّم ، وذكر وجوهاً أخُر :
منها : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدّل ، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدّل ، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله " كَامِلَة " ؛ لأنَّه لو قال : " تِلْكَ كَامِلَةٌ " ؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة ، فلا بدّ من ذكر العشرة .
وقوله : " كَامِلَةٌ " يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجهٍ : إمَّا أن تكون كاملة فى البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه ، أو أنَّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي ، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملاً كحج من لم يتمتَّع .
ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجب عليكم صيام عشرة أيّام ، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام ، فإنّ تخصيص العام كثير في الشَّرع ، فلما قال " تِلْكَ عشرة " كانَ ذلك تنصيصاً على أنَّ المخصص لم يوجد البتَّة ، فيكون أقوى دلالة ، وأبعد من احتمال التَّخصيص والنَّسخ .
ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله { وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة ، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة ، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة ، لا يجوز الإخلال بها ، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد في هذا الصَّوم ، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة .
ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ ، فإنَّ سبعة ، وتسعة متشابهان فى الخطِّ ، فلمَّا قال بعده : " تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ " ؛ أزال هذا الاشتباه .
ومنها : أنَّ قوله { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } يحتمل أن يكون المراد ، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام ، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها ، ويكمل عليها أربعةً ، فلما قال " تِلْكَ عَشَرَة كَامِلَةٌ " ؛ أزال هذا الاشتباه .
ومنها أن قوله { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } يحتمل أن يكون المراد : أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام ، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها ، ويكمل عليها أربعةً ، فلما قال " تِلْكَ عَشَرَة " ؛ أزال هذا الاحتمال .
ومنها : أن هذا خبر ، ومعناه الأمر ، أي : تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها .
ومنها : أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع ، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة ، فلمَّا قال بعده : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال ؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال : " الصَّوْمُ لي " ، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ } ، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى - ، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك .
أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة ، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً ، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحض مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له .
وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة ، وهو مع ذلك شاقٌ جداً ؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل ، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات ، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى ، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج ، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً ، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ ، وهو انتقالٌ من شاقٍّ إلى شاقٍّ ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب ، وعلوِّ الدَّرجة ، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة ، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ ، فقال تعالى : { تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ } ، أي : وإنها كاملة .
قوله : " ذَلِكَ لِمَنْ " " ذَلِكَ " مبتدأ ، والجارُّ بعده الخبر . وفي اللاَّم قولان :
أحدهما : أنَّها على بابها ، أي : ذلك لازمٌ لمن .
والثاني : أنها بمعنى على ، كقوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ } [ الرعد : 25 ] ، وقال عليه السَّلام : " اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ{[2921]} " ، أي : عليهم ، وقوله تعالى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أي : فعليها ، وذلك إشارة إلى التَّمتُّع ، والقران للغريب [ ولا حاجة إلى هذا . و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة . و " حَاضِرِي " خبر " يكُن " ، وحذفت نونه للإضافة ] .
قوله : " ذلك " إشارة إلى أمرٍ تقدَّم ، وأقرب الأمور المذكورة ، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله .
وقال بعض العلماء{[2922]} : لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروطٌ بألاّ يكون من حاضري المسجد الحرام ، فإن كان من أهل الحرم ، فلا يلزمه هدي المتمتّع ، وإنَّما لزم الآفاقي ؛ لأنه كان يجب عيله أن يحرم بالحجِّ من الميقات ، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات ، ثم أحرم بالحجِّ من غير الميقات ، فقد حصل هناك خللٌ ، فجبر بالدَّم ، بدليل أنّه لو رجع ، فأحرم بالحجِّ أيضاً من الميقات ؛ لما يلزمه دمٌ ، والمكيُّ ميقاته موضعه ، فلا يقع فى حجِّه خللٌ من جهة الإحرام ، فلا هدي عليه .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : قوله " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع ، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع أو قرن ، كان عليه دم جنايةٍ لا يأكل منه .
أحدها : قوله تعالى { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } عامٌّ يدخل فيه الحرمي ، وغيره .
وثانيهما : أنَّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور ، وهو وجوب الهدي ، فإذا خصَّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي ؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً .
وثالثها : أنَّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبييناً لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحجِّ ، والنسخ ثبت فى حقّ النَّاس كافَّةً .
حجَّة أبي حنيفة : أنَّ قوله : " ذَلِكَ " كنايةٌ ؛ فوجب عودها إلى كلِّ ما تقدم ، لأنَّه ليس البعض أولى من البعض .
والجواب أنَّ عوده إلى الأقرب أولى ، لأنَّ القرب سببٌ للرُّجحان ، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصٌّ بالجملة الأخيرة{[2923]} ، وإنَّما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب ، فكذا ها هنا .
اختلفوا فى حاضري المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنَّهم أهل مكَّة ، وهو قول مالك - رحمه الله{[2924]} - .
وقال ابن جريج{[2925]} : أهل عرفة والرجيع وضجنان .
وقال الشَّافعيُّ - رحمه الله - : كلُّ من كان وطنه من مكَّة على أقلّ من مسافة القصر ، فهو من حاضري المسجد الحرام{[2926]} .
وقال عكرمة : من كان دون الميقات{[2927]} .
وقيل هم أهل الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرَّأي{[2928]} .
وقال طاوسٌ : الحرم كلُّه{[2929]} ، وهو قول الشَّافعيِّ ، وأحمد لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمِّ هانئ لا من المسجد ، وقال { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] ، والمراد الحرم ؛ لأن الدماء لا تراق في البيت ، والمسجد الحرام إنَّما وصف بهذا ؛ لأن أصل الحرام المنع ، والمحرم : ممنوعٌ من المكاسب ، والمسجد الحرام ممنوعٌ أن يفعل فيه ما منع من فعله .
قال الفرَّاء{[2930]} : يقال حرامٌ ، وحرمٌ مثل : زمانٍ وزمنٍ ، وذكر حضور الأهل ، والمراد حضور المحرم ، لا حضور الأهل ، لأنَّ الغالب على الرَّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيٌّ إلى الآفاق ، وأهله بمكَّة ، ثمَّ عاد متمتعاً ؛ لزمه هدي التمتع ، ولا أثر لحضور أهله في المسجد الحرام .
وقيل المراد بقوله : { لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ } ، أي يكون أهلاً لهذه العبادة .
ودم القرآن كدم التَّمتُّع ، فالمكيُّ إذا قرن ، أو تمتع ، فلا هدي عليه .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قوله : يريد فيما فرضه عليكم{[2931]} ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن تهاون بحدوده .
وقال أبو مسلمٍ{[2932]} : العقاب والمعاقبة سيَّان ، وهو مجازاة المسيء على إساءته ، وهو مشتقٌّ من العاقبة ، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء ، كقول القائل : لتذوقن ما ذوّقت ، و " شَدِيدُ العِقَابِ " من باب إضافة الصِّفة المشبَّهة إلى مرفوعها ، وقد تقدَّم أنَّ الإضافة لا تكون إلا من نصب ، والنَّصب والإضافة أبلغ من الرَّفع ؛ لأنَّ فيها إسناد الصِّفة للموصوف ، ثم ذكر من هي له حقيقة ، والرَّفع إنَّما فيه إسنادها ، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة .