التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۖ وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖۚ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (196)

{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [ 1 ] لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [ 2 ] فَمَا اسْتَيْسَرَ [ 3 ] مِنَ الْهَدْيِ [ 4 ] وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ 5 ] فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ 6 ] فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [ 7 ] فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ 8 ] وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { 196 } }

[ 1 ] الحج والعمرة : معنى الكلمتين اللغوي متقارب وهو الزيارة والتوجه والقصد . ثم صار لهما صيغة دينية قبل البعثة واستمرت بعدها . وفريضة الحج ركنان في أشهر الحج واحد زيارة الكعبة وتسمى عمرة وواحد الوقوف في عرفة ولا يتم الحج إلا بالركنين . ويتبادر لنا والله أعلم أن جمع الأمر { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } قد قُصد به الركنان . وقد تكون جملة : { تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } دليلاً أو قرينة على ذلك وسوف نزيد هذا شرحاً فيما بعد .

[ 2 ] فإن أحصرتم : الإحصار هو منع مانع ما . ومعنى الجملة فإن منعتم وحالت أسباب قاهرة دون أدائكم الحج والعمرة .

[ 3 ] ما استيسر : ما تيسر .

[ 4 ] الهدي : ما ينذر للذبح قرباناً لله في الحج والعمرة من الأنعام . وسمّي هدياً على اعتبار أنه هدية لله وبيته .

[ 5 ] محله : المكان الذي يحل الذبح فيه ويجوز أن يكون معنى الكلمة المكان والزمان معاً اللذان يحل الذبح فيهما . وفي سورة الحج آية تفيد المكان وهو الكعبة : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ { 33 } } أما الزمان فقد عينته السنة وهو بعد الحج أو بعد العمرة .

[ 6 ] نسك : الأصل في معناه التعبد . ولكنه هنا ما يقرّب إلى الله من الأنعام كفّارة عن عدم أداء بعض مناسك الحج وطقوسه أو الإخلال بها .

[ 7 ] فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج : الذي يتحلل من الإحرام بعد الطواف والسعي للمدة الباقية إلى وقت الوقوف بعرفة ؛ حيث يحل له ما يحظر على المحرم الذي يظل محرما بعد العمرة إلى انتهاء الحج .

[ 8 ] لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : لمن لم يكن مقيماً مع أهله في منطقة المسجد الحرام إقامة دائمة . فهذا له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج بدون كفارة .

في هذه الآيات تشريعات في مناسك العمرة والحج :

1- فعلى المسلمين أن يقوموا بواجب الحج والعمرة بنية عبادة الله والتقرب إليه ، وأن يتموا مناسكهما .

2- فإذا خرج مسلم من منزله قاصداً القيام بهذا الواجب الديني ، ثم أحصر في الطريق ومنع عن الوصول لأسباب قاهرة فيكتفي بتقريب ما تيسر له من ذبائح يقربها لله . وليس له أن يحلق رأسه إلا بعد أن تصل القرابين إلى المكان الذي ينبغي ذبحها فيه ؛ لأن حلق الرأس هو من محللات الإحرام ولا يكون إلا بعد ذبح القربان . ويرخص لمن كان مريضاً أو به أذى من رأسه أن يتحلل من الإحرام ويفعل ما فيه وقاية له من ازدياد المرض أو شفائه منه ودفع الأذى عن رأسه من لبس ثياب وحلق شعر وتغطية رأس وتطيب وغير ذلك على أن يقدم فدية عن هذه الرخصة فيصوم أو يتصدق أو يذبح قرباناً . وإذا تيسرت أسباب الأمن وبلغ المسلمون المسجد الحرام فعلى الذين يتمتعون بحريتهم في الفترة الواقعة بين العمرة والحج – أي الذين يدخلون منطقة الحرم محرمين فيؤدون العمرة أي يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ، ثم يتحللون من إحرامهم ويتمتعون بما هو محظور على المحرمين : كالنساء والطيب والتزين والثياب العادية الخ إلى وقت الحج الأكبر والوقوف في عرفة والإحرام له – أن يقرّبوا قرباناً لله مقابل ما تمتعوا به من رخصة إذا لم يكونوا من سكان منطقة المسجد الحرام . فإذا لم يقدروا على تقريب القربان فعليهم مقابل ذلك صوم عشرة أيام ثلاثة منها في موسم الحج وسبعة بعد الرجوع إلى منازلهم .

وانتهت الآية بالحثّ على تقوى الله والتحذير من عقابه الشديد في حالة تجاوز حدوده والتقصير في طاعته وتقواه .

تعليقات على آية

{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ . . . } الخ

وسمة التشريع بارزة على الآية كمثيلاتها السابقة ، ونرجح أن بينها وبين الآيات السابقة لها صلة موضوعية بشكل ما . وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في عام الحديبية حينما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بقصد زيارة الكعبة ومنعهم أهل مكة وانتهى الأمر بعقد الصلح وتأجيل الزيارة للسنة القابلة ، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة .

ويلحظ أن في الآية أحكاماً عديدة ومطلقة في صدد مناسك الحج . وقد جاء بعدها آيات أخرى في أحكام الحج وسبقها آيات فيها إشارة إلى بعض تقاليد الحج السابقة وإلغاء لها . فهذا يسوغ التوقف في صحة الرواية كمناسبة لنزول الآية وترجيح نزولها قبل عام الحديبية بزمن طويل ولأجل بيان أحكام مناسك الحج والعمرة المتنوعة وصلتها بالآيات السابقة والآيات اللاحقة بحيث يمكن القول : إن الآيات [ 189-203 ] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة .

وإذا صح هذا – والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله – فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة . وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال . وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } المائدة [ 2 ] ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاماً لمنع المشركين لهم . وهذا ما انطوى في جملة { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ . . . } المائدة : [ 2 ] الخ .

أما جملة { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } فإنها في هذه الحال تشير إلى احتمال منع من أراد الحج والعمرة من المسلمين بسبب مرض شديد أو بسبب ما كان قائماً من حالة العداء والحرب بين المسلمين من جانب وأهل مكة من جانب آخر .

ولقد روى {[312]} أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منعه أهل مكة مع المسلمين من أداء العمرة عام الحديبية على ما ذكرناه آنفاً نحر هديه في الحديبية وتحلل من الإحرام أي حلق رأٍسه ولبس ثيابه العادية وأمر المسلمين بذلك . وعلى ضوء هذه الرواية التي يؤيدها حديث رواه البخاري عن ابن عمر {[313]} يتبادر لنا أن الكلام من جملة { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ } إلى آخر الآية مستأنف وليس تتمة لأول الآية . فالمنع إذا كان بخاصة خوفاً من عدو أو خطر قتل وقتال وأسر يحول دون بلوغ الهدي محله في حين أن جملة { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } تنهى عن التحلل من الإحرام بحلق الرأس قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي ينبغي أن يذبح فيه وهو منطقة الكعبة . وإذا صح هذا فيكون أول الآية قد احتوى حكماً في حالة المنع وهو تقريب القرابين في المحل الذي وقف فيه المسلم ثم احتوت بقيتها أحكاماً متنوعة في حالة الأمن وعدم المنع القهري .

وعدم حلق الرأس أثناء الإحرام وما يدخل في مداه مما نهت عنه السنّة من لبس الثياب المخيطة والتطيب والجماع الخ . . . وكذلك تقريب القرابين إلى الله في موسم الحج وزيارة العمرة كل ذلك من المناسك التي كانت متبعة قبل الإسلام على ما تلهمه روح الآيات والروايات المروية فثبتت في الإسلام مع بعض الرخص والتيسير اتساقاً مع المبدأ القرآني الذي يقرر أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر لا العسر ولا يكلّفهم إلا وسعهم .

وروح الآية التي نحن في صددها تسوغ القول : إن الأصل في مناسك الحج هو القران بين العمرة والحج أي بقاء الحاج محرما بدون تحلل بعد زيارة الكعبة ( العمرة ) إلي يوم الوقوف في عرفة ، وإن الرخصة بالتمتع بين وقتيهما هي تعديل أو تيسير إسلامي . وقد يكون إيجاب الكفارة على المتمتعين قرينة أو دليلاً ، وإيجاب الكفارة على الذين يتمتعون بهذه الرخصة من غير سكان منطقة المسجد الحرام ناشئ على ما علله المفسرون من أن الذي يجب عليه الدخول إلى منطقة الحرم محرما هو غير هؤلاء السكان . وهم الذين تجب عليهم الكفارة إذا تمتعوا في الفترة بين العمرة والحج . أما سكان هذه المنطقة فلا إحرام عليهم إلا حينما يحل وقت الوقوف في عرفة حيث يحرمون ويؤدون ركن العمرة ، ثم يقفون في عرفة ثم يعودون منها فيطوفون ويسعون ويتحللون . أما قبل ذلك فإن لهم أن يظلوا غير محرمين ولا كفارة عليهم .

وجملة { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } تتضمن إتمام عملين هما الحج والعمرة .

والعمرة هي زيارة الكعبة على ما هو مشهور يقيني . أما كلمة { الْحَجَّ } فقد جاءت هنا مطلقة . وجاءت كذلك في سورة الحج وفي آيات أخرى في هذه السورة . وجاءت مع { البَيْتَ } في الآية [ 158 ] من هذه السورة وسبق تفسيرها وفي آية سورة آل عمران هذه : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ 97 ] وهذه الجملة تتضمن فرضية العمرة في موسم الحج .

وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة { الْحَجَّ } المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر ، وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة . الذي عرف يقيناً أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة . والراجح أن كلمة { يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ } في آية سورة التوبة الثالثة : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { 3 } } قد عنته . وقد روى أصحاب السنن حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : «الحجّ الحجّ يوم عرفة » وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة . وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم . وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [ 158 ] من سورة البقرة وشرحنا مداها .

وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية وصحابية وتابعية فيها توضيح لمدى الآيات وأحكام وسنن متصلة بها نوجزها ونعلق عليها بما يلي :

1- هناك إجماع على أن فرض الحج والعمرة على المستطيع هو مرة واحدة في العمر . وهذا مستند إلى الآية الأولى من هذه الآيات وآية سورة آل عمران [ 97 ] وأحاديث نبوية عديدة {[314]} . ويستفاد من الأحاديث أن من المستحب أن يحج المسلم أكثر من مرة تطوعا وتقرّباً إلى الله {[315]} .

2- هناك من يقول إن العمرة سنّة ومن يقول : إنها فرض استناداً إلى أحاديث مختلفة الصيغ ، ويلوح أن القول بسنيتها ملتبس من كونها تصح أن تكون في غير موسم الحج على ما انطوى في الآية [ 158 ] من سورة البقرة وشرحنا إياها السابق . وقد أداها النبي صلى الله عليه وسلم في غير موسم الحج . وأن فرضيتها كركن ثانٍ من أركان فريضة الحج في موسم الحج هي الأوجه المستفادة من آية آل عمران [ 97 ] ومن أحاديث نبوية أخرى {[316]} ومن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها .

3- هناك أحاديث نبوية عديدة في خطورة فرض الحج والعمرة وعظم ثوابهما حتى لقد وصف الحج في بعضها بالجهاد {[317]} .

4- هناك أحاديث توجب التعجيل بأداء هذا الفرض حذراً من المرض أو العجز أو الموت قبل ذلك » {[318]} .

5- ليس في الأحاديث وقت معين لأداء فريضة العمرة في موسم الحج إلا وجوب إتمامها قبل الوقوف في عرفة وهو الركن الثاني لفريضة الحج . وهناك أحاديث توجب قضاءها بعد الوقوف في عرفة لمن فاتته قبل هذا الوقوف لعذر ما والحيض من الأعذار التي لا تجيز الطواف في حالته {[319]} .

6- هناك اختلاف في مدى الاستطاعة التي يكون الحج بها فرضاً واجب الأداء . وهناك قول إنها الاستطاعة البدنية فقط . وهناك من يزيد عليها توفر الزاد والراحلة وهذا ما جاء في بعض الأحاديث النبوية {[320]} . وهناك من يزيد على هذا وذاك أمن الطريق . وهناك من يزيد على كل هذا أن يكون المسلم مالكاً لنفقة تكفيه للسفر فاضلة عن نفقة عياله وعن سداد دين عليه . وأكثر المذاهب على أنها استطاعة بدنية ومالية ، وأن المالية يجب أن تكون كافية لنفقة السفر وفاضلة عن نفقة العائلة في الغياب وعن سداد الدين . وليس هناك أحاديث تعارض هذا الذي عليه الأكثر . وهو الأوجه مع زيادة ضرورية تخطر لبالنا وهي أن يكون من أراد الحج ذا مهنة أو مرتب يضمن له ولأسرته المعيشة ، أما إذا لم يكن له ذلك فيجب أن يكون متوفراً له رأس مال يضمن ربحه معاش أسرته بصورة مستمرة والله تعالى أعلم .

7- المستفاد من الأحاديث أن يصح أداء فريضة الحج والعمرة عن المريض والميت بشرط أن يكون البديل قد حج عن نفسه سابقاً .

8- لقد ذكر ( الهدي ) في الآية مرتين ، والهدي في المرة الأولى هو الهدي الواجب على كل حاج تقربه بين يدي حجه تقرباً وطاعة . ويكون من الضأن والماعز والبقر والإبل وهدي البقر والإبل يسمى بدنة والواحدة منهما يجزي عن سبعة حجاج في قول وعشرة في قول آخر حسب اختلاف نصوص الأحاديث ، والذبح يكون في موسم الحج بعد النزول من عرفة ، وهناك ما يفيد وجوب الهدي على من يزور الكعبة في غير موسم الحج أيضاً ويكون ذبحه بعد إتمام الطواف والسعي اللذين هما المعني بهما بالعمرة أو حج البيت .

والذبح يكون في منطقة الحرم مطلقاً في الحالات العادية . أما في حالة قيام حالة منع وإحصار تحول دون إتمام المسلم واجب العمرة أو الحج فيذبح هديه في المكان الذي أُحصر فيه على ما تفيده الآية والأحاديث معاً .

والمستفاد من أقوال المجتهدين والمؤولين أن الإحصار هو السبب القاهر الذي يمنع الحاج من الوصول إلى مكة لأداء العمرة في غير موسم الحج أو أداء العمرة والحج في موسم الحج . وإن ترجيح خطر الطريق يعد إحصاراً ومانعاً شرعياً ، وقد أدخل بعضهم استناداً إلى بعض الأحاديث النبوية {[321]} المرض الشديد والكسر والجرح وموت الراحلة وفقد الزاد والنفقة أو نفادها والتوهان في الطريق أو الخطأ في حساب الأيام من الأعذار التي يصح فيها حكم الإحصار . ولقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون زيارة الكعبة التي كانوا أزمعوا أن يقوموا بها في السنة الهجرية السادسة ومنعهم كفار قريش حينئذ تمّ عقد بينهم صلح الحديبية الذي كان من شروط السماح لهم بالزيارة في السنة القابلة فقام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بهذه الزيارة وسميت عمرة القضاء ، أي كانت قضاءً ؛ حيث يفيد هذا أن الإحصار لم يسقط واجب الزيارة والحج عن المسلم وإنما كان عذراً للتأجيل وظل من واجب المسلم الذي يحول المنع والإحصار بينه وبين الزيارة والحج في موسم الحج أن يقوم بهما حال ما يزول الإحصار .

9- وقد قلنا إن ( الهدي ) ذكر مرتين في الآية وما سبق هو في صدد المرة الأولى أما المرة الثانية فهي في معنى الفدية التي تجب على الحاج إذا تمتع بالعمرة إلى الحج . أي أن هذا الهدي غير الهدي الأول الواجب على كل حاج تقرباً وطاعة . وقد نصت الآية على جواز عشرة أيام بدلا من هذا الهدي في مقام الفدية إذا لم يستطع الحاج تقديم الهدي فدية . ونصت على استثناء أهل الحرم من ذلك وقد مرّ شرح ذلك وأسبابه في سياق شرح الآية سابقاً فلا موجب للتكرار .

10- لقد كان الحجاج قبل الإسلام يحرمون أكل هديهم ، وظل ذلك مستمراً ردحاً ما بعد الإسلام فأباح الله للمسلمين الأكل من الهدي بالإضافة إلى إطعام المساكين والفقراء منه رحمة وتيسراً على ما جاء في آيات سورة الحج التي سبق تفسيرها .

11- والمذاهب متفقة استناداً إلى الأحاديث النبوية على أن الوقوف في عرفة في موسم الحج والطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة وهو ما عرف بالعمرة لأول مرة في موسم الحج وغيره يجب أن يكون في لباس الإحرام . ولباس الإحرام للرجال ثياب غير مخيطة وغير مطيبة بالطيب ، وبنعلين لا يستران الكعب . أما النساء فقد نهت الأحاديث عن النقاب والقفازين وأباحت لها أن تلبس ما تشاء من الثياب غير المطيبة وغير المعصفرة . ومعنى هذا أن المرأة تحرم سافرة الوجه واليدين . ومن السنة أن يغتسل المسلم ويتطيب قبل الإحرام {[322]} .

12- والمستفاد من الأحاديث أن الحاج في موسم الحج والمعتمر في غير موسم الحج من غير أهل الحرم والمسجد المكي يجب أن يدخل إلى منطقة الحرم المكي محرما . وهناك أحاديث تعين حدود الإحرام لكل جهة من جهات الجزيرة العربية ومن يأتي منها من ورائها ، فلأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرى المنازل ولأهل اليمن يلملم . ومن كان من دون هذه المواقع فيكون إحرامه من موقعه ومنهم أهل مكة الذين هم ملتزمون بالإحرام حين أداء العمرة والحج والوقوف في عرفة في موسم الحج {[323]} .

ولقد ذكر المفسرون استناداً إلى الروايات وفي سياق آية سورة الأعراف هذه : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { 31 } } أن العرب قبل الإسلام كانوا يتحرجون من الطواف والسعي بثيابهم العادية تحرجاً من أن يكونوا قد اقترفوا ذنوباً وهي عليهم أو تحرجاً من أن يقترفوا ذنوباً وهي عليهم بعد الطواف . فيستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كان سدنة الكعبة يتسمون بها . ومن لم يجد أو من لم يستطع طاف في حالة العري لأنه كان على الذين يطوفون بثيابهم أن يرموها فكانوا يضيقون بها . ومن المحتمل كثيراً أن يكون تقليد الإحرام الإسلامي معدلاً عن ذلك ومتصلاً به والله أعلم .

13- ومن السنّة أن يهتف الحاج والزائر بعد الإحرام بالتلبية وصيغتها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك » {[324]} .

14- والآية التي نحن في صددها صريحة في حظر حلاقة الشعر إبان الإحرام . وفي سورة المائدة آيات تحظر صيد البرّ إبانه أيضا هذا ما سوف نشرحه شرحاً أوفى في مناسبة آيات المائدة وهناك أحاديث تحظر الجماع والزواج والخطبة والتطيب أيضاً إبانه {[325]} . وكل هذا يصح حلالاً مباحاً بعد حلّ الإحرام الذي يستفاد من الأحاديث والأقوال أنه نوعان : الأول بعد الطواف والسعي والثاني بعد النزول من عرفة .

ولم نطلع على قول في صدد الاغتسال ، ويتبادر لنا أنه محظور أسوة بالطيب وعدم الحلاقة . والمتبادر أنه يكون واجباً في حالة الجنابة من الاحتلام إبّان الإحرام والله أعلم .

15- والمستفاد من الأحاديث أن لمن أراد الحج في موسمه أن يهلّ بالعمرة فقط أو يهلّ بالعمرة والحج معاً . والنوع الأول يسمى إفراداً ، والثاني يسمى قراناً {[326]} . والأول هو الذي يصح أن يحل فيه الحاج من إحرامه بعد إتمام العمرة أي الطواف والسعي . ثم يحرم ثانية في اليوم الثامن من ذي الحجة ويذهب للوقوف في عرفة في التاسع محرماً . ومع ذلك فالآية قد احتوت تيسيراً لمن أهلّ بالعمرة والحج معاً ثم مرض أو آذته هوام رأسه من طول الشعر والوسخ ؛ حيث أجازت أن يحلّ ويفدي عن حلّه بصدقة أو صيام أو نسك . وهناك حديث يفيد أن الصدقة طعام ستة مساكين والنسك هو ذبح شاة والصيام ثلاثة أيام {[327]} . والجمهور على أن الحاج في الخيار في نوع الفدية .

ولقد خطر لبالنا أن يكون هذا محل قياس بحيث يباح للمريض والمتيقن من الخطر والضرر على صحته من الإحرام ومحرماته أن يطوف ويسعى ويقف في عرفات بدون إحرام ومحرمات الإحرام ويفدي عن ذلك استئناساً بالمبادئ القرآنية التي تقرر أن الله لا يكلّف نفساً إلا وسعها وتبيح المحرمات للمضطر وتهتف بأن الله لا يريد أن يجعل على المسلمين في الدين من حرج وأنه يريد بهم اليسر دون العسر والله تعالى أعلم .

16- والسنن المأثورة أن العمرة طواف سبعة أشواط حول الكعبة ، ثم صلاة ركعتين ، ثم طواف سبعة أشواط بين الصفا والمروة . وتكون الأشواط الثلاثة الأولى مشيا والأربعة هرولة . مع تقبيل الحجر الأسود أو لمسه أو الإيماء إليه في كل شوط . وليس من مانع من الطواف والسعي راكباً أو محمولاً .

17- والمتفق عليه أن الطواف الواجب بالإحرام هو للمرة الأولى حين الزيارة في غير الموسم أو في الموسم ، ويستحب الطواف والسعي أكثر من مرة في حالة الإحرام وبدونها أيضا {[328]} .

18- والمتفق عليه استناداً إلى الأحاديث أن المرأة تقوم بكل مناسك الحج في حالة حيضها ونفاسها إلا الطواف والسعي إلى أن تطهر . وإذا فاتها وقت العمرة إلى قبل الوقوف في عرفة وهي في هذه الحالة قضتها بعد الطهر {[329]} .

ونكتفي بما تقدم مما هو متصل بمدى الآية وتوضيح لأحكامها دون استفتاء يخرج عن المنهاج الذي ترسمناه هذا . وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل يثرب التي سميت بالمدينة المنورة وحرمتها ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها وشد الرحال والصلاة فيه وزيارة قبره الشريف {[330]} . فصارت زيارة هذه المدينة والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف مما درج عليه المسلمون في كل وقت وبخاصة حجاجهم حينما يأتون إلى مكة لأداء فريضة العمرة والحج .


[312]:انظر طبقات ابن سعد 3/147-149
[313]:انظر التاج 2/151 وابن هشام 3/355-369
[314]:انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في التاج 2/100 و146
[315]:انظر المصدر نفسه
[316]:انظر المصدر نفسه ص: 146-147
[317]:انظر المصدر نفسه 98 - 101
[318]:انظر المصدر نفسه
[319]:انظر المصدر نفسه ص: 116-125
[320]:انظر الأحاديث في التاج 2/101
[321]:انظر الأحاديث في التاج 2/105
[322]:في هذا الصدد أحاديث عديدة رواها أصحاب الكتب الخمسة، انظر التاج 2/ 103
[323]:هناك أحاديث رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك انظر التاج 2/ 103-104
[324]:انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك في التاج 2/ 111
[325]:انظر المصدر نفسه ص: 108
[326]:انظر المصدر نفسه ص: 112-113-144 وانظر ص: 153
[327]:المصدر نفسه
[328]:انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في صدد ذلك في التاج 2/117 وما بعدها
[329]:انظر المصدر نفسه، ص: 116 و125
[330]:انظر المصدر نفسه، ص: 166-168 والتاج 1/209