فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۖ وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖۚ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (196)

لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة وظاهر السياق إتمام أفعالها بعد الشروع فيهما ولهذا قال بعده { فإن أحصرتم } أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامها ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم . . . وعن سفيان الثوري أنه قال إتمامها أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزئ ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره . . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات عمر كلها في ذي القعدة : عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 ه ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة 7ه ، وعمرة الجعرانه في ذي القعدة سنة 8ه وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة 10ه ، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ولكن قال لأم هانئ ( عمرة في رمضان تعدل حجة معي ) وما ذلك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر كما هو مبسوط في الحديث عن البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها والله أعلم- {[627]}وفي الصحيح أن النبي صلوات الله عليه وسلامه جمع بين الحج والعمرة وأمر من معه هدي من أصحابه أن يهل بهما معا ؛ { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ، والإحصار المنع والحبس ؛ والهدي ما يهدى إلى البيت الحرام من نعم ليذبح عنده قال الحسن : أعلا الهدى بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة وعن ابن عباس أنه قال لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى { فإذا أمنتم } فليس الأمن حصرا ؛ وعن ابن مسعود وغيره الإحصار من عدو أو مرض أو كسر ، زاد بعضهم أو ضلالا وهو التوهان عن الطريق وفي الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال ( حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ) والجمهور على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم{[628]} هدي ويحلق رأسه أما المحصر بمرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وعند مالك وأصحابه يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة وإن أقام على إحرامه إلى قابل ، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه والعلماء مختلفون في وجوب القضاء على من أحصر .

{ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }- معطوف على قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } . . لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حالة الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حتى يبلغ الهدي محله } ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك فقال ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )-{[629]}

{ فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام فقال : حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ( ما كنت أرى أن الجهد بلغ هذا أما تجد شاة } قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع واحلق رأسك ) فنزلت في خاصة وهي لكم عامة ؛ { فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج فليذبح ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة {[630]} في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء ، قال البخاري : يقال إنه عمر وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول : إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله { وأتموا الحج والعمرة لله }- وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرما لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه -{[631]}

{ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } مما روى البخاري عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) ، { ذلك } [ قيل : هي راجعة إلى التمتع فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه قالوا ومن تمتع منهم كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه وقيل إنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي والصيام فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه ]{[632]} ، { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }- واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه . . . ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه أي . . . استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان-{[633]}


[627]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم لابن كثير رحمه الله تعالى
[628]:ثم أي هناك
[629]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم.
[630]:يريد التمتع الذي هو الإحرام بالعمرة ثم التحلل بعد الفراغ منها إلى أن يدخل يوم التروية ويدنو يوم عرفة فيحرم بالحج وليس المراد بهذه العبارة المتعة التي هي الزواج إلى أجل كما ظن بعض أدعياء العلم.
[631]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم.
[632]:ما بين العلامتين [ ] من فتح القدير. للشوكاني رحمه الله.
[633]:ما بين العارضتين من روح المعاني بتصرف يسير.