ولما ختم آيات القتال بالنفقة في سبيل الله لشدة حاجة الجهاد إليها وكان سبيل الله اسماً يقع على الحج كما يقع على الجهاد كما ورد في الحديث " الحج من سبيل الله " رجع إلى الحج والعمرة المشير إليهما{ مثابة للناس }[ البقرة : 125 ] و{ إن الصفا والمروة }[ البقرة : 158 ] الآية ، و { مواقيت للناس والحج{[8423]} } ولا سيما وآيات القتال هذه إنما نظمت{[8424]} ههنا بسببهما{[8425]} توصيلاً{[8426]} إليهما بعضها سببه عمرة الحديبية التي صدّ المشركون عنها ، فكان كأنه قيل : مواقيت للناس والحج فحجوا واعتمروا أي تلبسوا بذلك وإن صددتم عنه وقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم في وجهكم ذلك لينفتح{[8427]} لكم السبيل ، ولما كان ذلك بعد الفتح ممكناً{[8428]} لا صاد عنه عبر بالإتمام فقال : { وأتموا{[8429]} * } أي بعد فتح السبيل بالفتح { الحج والعمرة } {[8430]}بمناسكهما وحدودهما وشرائطهما وسننهما{[8431]} . ولما تقدم الإنفاق في سبيل الله والقتال في سبيل الله نبه هنا على أن ذلك كلّه إنما هو لتقام{[8432]} العبادات التي هي مبنى الإسلام له سبحانه وتعالى فقال : { لله } {[8433]}الملك الذي لا كفوء ل{[8434]}ه أي {[8435]}لذاته ، {[8436]}ولم يضمر لئلا يتقيد بقيد{[8437]} .
ولما كان سبحانه وتعالى قد أعز هذه الأمة إكراماً لنبيها صلى الله عليه وسلم فلا يهلكها بعامة{[8438]} ولا يسلط{[8439]} عليها عدواً من غيرها بل جعل كفارة ذنوبها في إلقاء بأسها بينها{[8440]} أومأ إلى أنه ربما يقطعها عن الإتمام قاطع من ذلك بقوله{[8441]} بانياً للمفعول لأن الحكم دائر مع وجود الفعل من غير نظر{[8442]} إلى فاعل معين معبراً{[8443]} بأداة الشك إشارة إلى أن هذا {[8444]}مما يقل{[8445]} وقوعه : { فإن أحصرتم } أي منعتم وحبستم عن إتمامها ، من الإحصار وهو منع{[8446]} العدو المحصر عن متصرفه{[8447]} كالمرض يحصره{[8448]} عن التصرف في شأنه - قاله الحرالي{[8449]} { فما } أي فالواجب على المحصر{[8450]} {[8451]}الذي منع عن إكماله{[8452]} تلافياً لما وقع له من الخلل في عملهما { استيسر } أي وجد يسرة{[8453]} على غاية السهولة حتى كأنه طالب يسر نفسه{[8454]} ، واليسر{[8455]} حصول الشيء عفواً بلا كلفة { من الهدي{[8456]} } {[8457]}إذا أراد التحلل من الحج والعمرة{[8458]} من الإبل والبقر والغنم يذبحه حيث أحصر ويتصدق به وقد رجع حلالاً{[8459]} ولما كان الحاج هو الشعث التفل أشار إلى حرمة التعرض لشعره{[8460]} بقوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي شعرها{[8461]} إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة ، من الحلق .
قال الحرالي{[8462]} : وهو إزالة ما يتأتى للزوال بالقطع من الآلة الماضية في عمله{[8463]} ، والرأس مجتمع الخلقة{[8464]} ومجتمع كل شيء رأسه - انتهى . { حتى يبلغ } من البلاغ وهو الانتهاء إلى الغاية { الهدي } أي{[8465]} إن كان معكم هدي { محله } أي الموضع الذي يحل{[8466]} ذبحه فيه ، إن كنتم محصرين فحيث أحصرتم وإلا فعند المروة أو في منى ونحوهما{[8467]} . قال{[8468]} الحرالي : والهدي ما تقرب به الأدنى للأعلى وهو اسم ما يتخذ فداء من الأنعام بتقديمه إلى الله سبحانه وتعالى وتوجيهه إلى البيت العتيق ، وفي تعقيب {[8469]}الحلق بالهدي{[8470]} إشعار باشتراكهما في معنى واحد وهو الفداء ، والهدي{[8471]} في الأصل فداء لذبح{[8472]} الناسك نفسه لله{[8473]} سنة إبراهيم في ولده عليهما الصلاة والسلام ، وإزالة الشعر فداء من جزاء لرأس{[8474]} لله ، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن تقديم أحدهما على الآخر قال : " افعل ولا حرج " ، لأن الجميع غاية بالمعنى الشامل{[8475]} للفداء - انتهى .
ولما كان الإنسان {[8476]}محلاً لعوارض{[8477]} المشقة وكان الله سبحانه وتعالى قد وضع عنا الآصار ببركة النبي المختار صلى الله عليه وسلم فجعل دينه يسراً قال{[8478]} : { فمن كان } {[8479]}وقيده بقوله{[8480]} : { منكم } أيها المحرمون{[8481]} { مريضاً } يرجى {[8482]}له بالحلق خير{[8483]} { أو به أذى } ولو قل ، والأذى{[8484]} ما تعلق النفس أثره { من رأسه } بقمل{[8485]} أو غيره { ففدية } أي فعليه بحلق رأسه {[8486]}أو المداواة بما نهى المحرم عنه{[8487]} فدية { من صيام } لثلاثة أيام { أو صدقة } لثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ، لأن الصدقة كما قال الحرالي عدل الصيام عند فقده كما تقدم . ولليوم وجبتا فطر وسحور ، لكل {[8488]}وجبة مُدَّان{[8489]} فلكل يوم صاع{[8490]} { أو نسك{[8491]} } أي تقرب بذبح شيء من الأنعام {[8492]}وهذه فدية مخيرة{[8493]} .
ولما كان الله سبحانه وتعالى {[8494]}بسعة حمله{[8495]} وعظيم قدرته وشمول علمه قد أقام أسباباً {[8496]}تمنع المفسدين{[8497]} على كثرتهم من التمكن من الفساد أشار إلى ذلك بأداة التحقيق بعد تعبيره عن الإحصار بأداة الشك فقال : { فإذا أمنتم } أي حصلتم في الأمن {[8498]}فزال الإحصار والمرض ، و{[8499]} بني الفعل هنا للفاعل إشارة إلى أنه كأنه آت بنفسه تنبيهاً على أنه الأصل بخلاف الإحصار حثاً على الشكر { فمن تمتع } {[8500]}أي تلذذ باستباحة دخوله إلى الحرم بإحرامه{[8501]} في أشهر الحج على مسافة القصر من الحرم{[8502]} { بالعمرة } ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت ويستمر{[8503]} حلالاً في سفره ذلك { إلى الحج } أي إحرامه به{[8504]} {[8505]}من عامة{[8506]} ذلك {[8507]}من مكة المشرفة{[8508]} من غير رجوع إلى الميقات { فما } أي فعليه ما { استيسر{[8509]} } وجد{[8510]} {[8511]}اليسر به{[8512]} { من الهدي } من النعم يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين{[8513]} {[8514]}من الحل{[8515]} وهو مسافر ، هذا للمتمتع وأما القارن فلجمعه{[8516]} بين النسكين{[8517]} في سفر واحد وشأنهما أن يكونا في وقتين وقت حل ووقت حرم{[8518]} ، وفي العبارة إشعار بصحة إرداف{[8519]} الحج على العمرة لأنه ترق من إحرام أدنى{[8520]} إلى إحرام أعلى .
ولما أفهم التقييد باليسر حالة{[8521]} عسر بينها{[8522]} بقوله : { فمن لم يجد } أي هدياً ، من الوجد وهو الطول والقدرة { فصيام } أي فعليه بدل الهدي صيام{[8523]} { ثلاثة أيام في الحج } أي في أيام تلبسه به {[8524]}فلا يصح قبله ويجب{[8525]} أن يكون{[8526]} قبل يوم عرفة بحيث يكون فيه مفطراً ، { و } صيام{[8527]} { سبعة } أي من الأيام { إذا رجعتم } إلى بلادكم {[8528]}فلا تصح قبل الوصول ، ولم يفرد ليفهم أن العبرة إمكان الرجوع لا حقيقة رجوعه{[8529]} ، فلو أقام بمكة مثلاً صام بها ، ولو فاتته الثلاثة في الحج فرق بينها{[8530]} وبين السبعة في الوطن بقدر مدة إمكان العود وزيادة أربعة أيام {[8531]}التشريق والعيد{[8532]} ليحكي القضاء الأداء . قال الحرالي : فيكون الصوم عدلاً للهدي الذي يطعمه المهدي {[8533]}كما كان{[8534]} الإطعام عدلاً للصوم في آية { وعلى الذين يطيقونه } انتهى .
ولما كان للتصريح{[8535]} مزية ليست لغيره قال : { تلك{[8536]} } أي{[8537]} العدة النفسية{[8538]} المأمور بصومها { عشرة } دفعاً لاحتمال أن تكون الواو بمعنى " أو " أو أن يكون المراد بالسبع المبالغة دون الحقيقة{[8539]} وليحضر العدد في الذهن جملة{[8540]} كما{[8541]} أحضره{[8542]} تفصيلاً ؛ والعشرة : قال الحرالي : معاد{[8543]} عد{[8544]} الآحاد إلى{[8545]} أوله .
ولما كان زمن الصومين مختلفاً قال : { كاملة } نفياً لتوهم{[8546]} أن الصوم بعد الإحلال دون ما في الإحرام ، والكمال : قال الحرالي : الانتهاء إلى الغاية التي ليس وراءها مزيد من كل وجه ، وقال : فكما{[8547]} استوى حال الهدي في{[8548]} انتهائه إلى الحرم أو الحل كذلك استوى حال الصوم في البلد الحرام والبلد الحلال ليكون في إشارته إشعار بأن الأرض لله مسجد{[8549]} كما أن البيت الحرام لله مسجد فأظهر معنى استوائهما في الكمال في حكم الأجر لأهل الأجور{[8550]} والقبول لأهل القبول والرضاء لأهل الرضاء والوصول لأهل الوجهة كل عامل{[8551]} على رتبة عمله - انتهى . {[8552]}ولو قال : تامة ، لم يفد هذا لأن التمام{[8553]} قد يكون في العدد{[8554]} مع خلل بعض الأوصاف .
ولما كان ربما وقع في الفكر السؤال عن هذا الحكم هل هو خاص أو عام استأنف تخصيصه بمن هو غائب عن حرم مكة على مسافة القصر فقال : { ذلك } أي الحكم المذكور{[8555]} العلي في{[8556]} نفعه الحكيم{[8557]} في وضعه { لمن لم يكن أهله } من زوجته{[8558]} أو أقاربه أو سكان وطنه . وقال الحرالي : والأهل سكن المرء من زوج ومستوطن{[8559]} { حاضري{[8560]} } {[8561]}على مسافة الحضر{[8562]} بأن يكون ساكناً {[8563]}في الحرم أو من الحرم على دون مسافة القصر وكل من كان هكذا فهو حاضر من الحضور وهو ملازمة الوطن {[8564]}لا على مسافة السفر من { المسجد الحرام } أي الحرم بل كان أهله على مسافة الغيبة منه وهي مسافة القصر .
قال الحرالي إفصاحاً بما أفهمه معنى المتعة : وذلك لأن الله عز وجل إذا تولى إبانة{[8565]} عمل أنهاه إلى الغاية في الإفصاح - انتهى . وعبر عن الحرم بالمسجد إجلالاً وتعظيماً لما قرب من الحرم ، كما عظم الحرم بقربه من المسجد ، وعظم المسجد بمجاورة الكعبة ؛ لأنه جرت عادة الأكابر أن يكون لبيوتهم دور ، ولدورهم أفنية ، وحول تلك الأفنية بيوت خواصهم ؛ وأما حاضروه فلا دم عليهم في تمتع ولا قران{[8566]} فرقاً بين خاصة الملك وغيرهم .
ولما{[8567]} كثرت الأوامر في هذه الآيات وكان لا يحمل على امتثالها إلا التقوى أكثر تعالى فيها من الأمر بها . قال الحرالي : لما تجره{[8568]} النفوس من مداخل نقص في النيات والأعمال والتنقلات من الأحكام إلى أبدالها فما انبنى{[8569]} على التقوى خلص ولو قصر{[8570]} - انتهى . ولما كان من الأوامر ما هو معقول المعنى ومنها ما هو تعبدي وكان عقل المعنى يساعد على النفس في الحمل على امتثال الأمر ناسب اقتران{[8571]} {[8572]}الأمر به بالترغيب كما قال : { واتقوا الله{[8573]} واعلموا أن الله {[8574]}شديد العقاب{[8575]} } [ البقرة : 196 ] ولما كان امتثال ما{[8576]} ليس بمعقول المعنى من عند قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] شديداً على النفس مع جماحها{[8577]} عن جميع الأوامر ناسب اقترانه{[8578]} بالتهديد فكان ختامه بقوله : { واتقوا } أي فافعلوا جميع ذلك واحملوا أنفسكم على التحري فيه والوقوف عند حدوده ظاهراً وباطناً واتقوا { الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب هذا الملك الأعظم وقاية ، وأكد تعظيم المقام بالأمر بالعلم وتكرير الاسم الأعظم {[8579]}ولئلا يفهم الإضمار تقييد{[8580]} شديد عقابه بخشية{[8581]} مما مضى فقال : { واعلموا } تنبيهاً على أن الباعث على المخافة إنما هو العلم{[8582]} ، { أن الله } أي الذي لا يداني عظمته شيء { شديد العقاب } وهو الإيلام الذي يتعقب{[8583]} به جرم سابق ؛ هذا مع مناسبة هذا الختام لما بعده من النهي عن الرفث وما في حيزه ، ومن تدبر{[8584]} الابتداء عرف الختم ومن تأمل الختم لاح له الابتداء . قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب المفتاح في الباب الخامس في تنزلات{[8585]} القرآن بحسب الأسماء : اعلم أن خطاب الله يرد بيانه بحسب أسمائه ويجمعها جوامع أظهرها ما ترى آياته وهو اسمه{[8586]} الملك وما يتفصل إليه من الأسماء القيمة{[8587]} لأمر{[8588]} الحكم والقضاء والجزاء نحو العزيز الحكيم الذي{[8589]} يختم{[8590]} به آيات{[8591]} الأحكام{ نكالاً من الله والله عزيز حكيم{[8592]} }[ المائدة : 38 ] ثم ما تسمع{[8593]} آياته من اسمه الرحمن الرحيم وما يتفصل من الأسماء من{[8594]} معنى الرحمة المنبئة عن الصفح والمغفرة الذي{[8595]} تختم به آيات الرحمة ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً{[8596]} }[ الأحزاب : 73 ] فلكل تفصيل في مورد وجهي العدل والفضل أسماء يختص به بناؤها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ما لم يختم{[8597]} آية رحمة{[8598]} بعذاب أو آية عذاب برحمة{[8599]} ، ثم ما توجد آياته{[8600]} وجداناً في النفس وهي الربوبية وما ينتهي إليه معنى سواء أمرها من{ الحمد لله رب العالمين }[ الفاتحة : 2 ] وما يتفصل إليه من الأسماء الواردة في ختم الإحاطات{[8601]} نحو { الواسع العليم } ، فمن تفطن لذلك استوضح من التفصيل الختم واستشرح من الختم التفصيل . وقد كان ذلك واضحاً عند العرب فاستعجم عند المتعربين{[8602]} إلا ما كان ظاهر الوضوح منه ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان متين{[8603]} الإفهام في القرآن - انتهى .