{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه : وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل : انشقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع على مفارقته ، وتسليم الحجر والشجر عليه ، وكلام البهائم والشهادة برسالته ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى ، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله .
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن سنان ، أخبرنا هشيم ، أنا سيار ، أنا يزيد الفقير ، أنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون " .
قوله تعالى : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي من بعد الرسل { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ } ثبت على إيمانه بفضل الله { وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } بخذلانه { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أعاده تأكيدا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا .
سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ؟ فقال : طريق مظلم لا تسلكه ، فأعاد السؤال فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فأعاد السؤال ، فقال : سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه .
{ تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ وَلََكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلََكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { تِلْكَ الرّسُلُ } الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة ، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود ، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة . يقول تعالى ذكره : هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض ، فكلمت بعضهم والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : { تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } قال : يقول : منهم من كلّم الله ورفع بعضهم على بعض درجات . يقول : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أُعْطِيتُ خَمْسا لَمْ يُعْطَهُنّ أحَدٌ قَبْلِي : بُعِثْتُ إلى الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ ، وَنُصِرْتُ بالرّعْبِ ، فإنّ العَدُوّ لَيُرْعَبُ مِنّي على مَسِيرَةِ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا ، وأُحِلّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ولَمْ تَحِلّ لأحَدٍ كانَ قَبْلِي ، وَقِيلَ لي : سَلْ تُعْطَهْ ، فاخْتَبأتُها شَفاعَةً لأُمّتِي ، فَهِيَ نائِلَةٌ مِنْكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ مَنْ لا يُشْرِكُ باللّهِ شَيْئا » .
القول في تأويل قوله تعالى : { وآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ وَأيّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوّته : من إبراء الأكْمَهِ والأبرص ، وإحياء الموتى ، وما أشبه ذلك ، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه ، فبينت فيه ما فرضت عليه .
ويعني تعالى ذكره بقوله : { وأيّدْناهُ } وقوّيناه وأعنّاه { بِرُوحِ القُدُسِ } يعني بروح الله ، وهو جبريل . وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : ولو أراد الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ، يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وبعد عيسى ابن مريم ، وقد جاءهم من الاَيات بما فيه مُزْدَجَرٌ لمن هداه الله ووفقه .
ويعني بقوله : { مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } يعني من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق ، وأوضح لهم السبيل .
وقد قيل : إن الهاء والميم في قوله : { مِنْ بَعْدِهِمْ } من ذكر موسى وعيسى : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } يقول : من بعد موسى وعيسى .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } يقول : من بعد موسى وعيسى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا وَلَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا ، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف ، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه ، فكفر بالله وبآياته بعضهم ، وآمن بذلك بعضهم . فأخبر تعالى ذكره : أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته . ثم قال تعالى ذكره لعباده : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا } يقول : ولو أراد الله أن يحجزهم بعصمته وتوفيقه إياهم عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا ، { وَلكِنّ الله يَفْعَلُ ما يُرِيدُ } بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه ، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه .
{ تلك الرسل } إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو المعلومة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق . { فضلنا بعضهم على بعض } بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره . { منهم من كلم الله } تفضيل له ، وهو موسى عليه الصلاة والسلام . وقيل : موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور ، ومحمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد ، وقرئ { كلم الله } و " كالم الله " بالنصب ، فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه . { ورفع بعضهم درجات } بأن فضله على غيره من وجوه متعددة ، أو بمراتب متباعدة . وهو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر . والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا لوصف المستغني عن التعيين . وقيل : إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب . وقيل : إدريس عليه السلام لقوله تعالى : { ورفعناه مكانا عليا } . وقيل : أولو العزم من الرسل { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره . { ولو شاء الله } أي هدى الناس جميعا . { ما اقتتل الذين من بعدهم } من بعد الرسل . { من بعد ما جاءتهم البينات } أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين ، وتضليل بعضهم بعضا . { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلا . { ومنهم من كفر } لإعراضه عنه بخذلانه . { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كرره للتأكيد . { ولكن الله يفعل ما يريد } فيوفق من يشاء فضلا ، ويخذل من يشاء عدلا . والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام ، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ، ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا أو كفرا .