قوله عز وجل{ الذين يحملون العرش ومن حوله } حملة العرش والطائفون به ، وهم الكروبيون وهم سادة الملائكة ، قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة مائة عام . ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرض ، والأرضون ، والسماوات إلى حجزتهم ، وهم يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح . وقال ميسرة بن عبد ربه : أرجلهم في الأرض السفلى ، ورؤوسهم تحت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها ، وأهل السماء والتي تليها اشد خوفاً من أهل السماء التي تليها ، وقال مجاهد : بين الملائكة والعرش سبعون حجاباً من نور . وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : إن ما بين القائمة من قوائم العرش ، والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة ، وقال مجاهد : بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ، وحجاب نور ، وحجاب ظلمة ، وقال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يدبر هؤلاء ، يقبل هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء ، وكبر هؤلاء ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم ، فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك ، أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلق كلهم لك راجعون ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ما بين جناحي احدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام ، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار ، وسبعين حجاباً من ظلمة ، وسبعين حجاباً من نور ، وسبعين حجاباً من در أبيض ، وسبعين حجاباً من ياقوت أصفر ، وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر ، وسبعين حجاباً من ثلج ، وسبعين حجاباً من ماء ، وسبعين حجاباً من برد ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى . قال : ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه ، وجه ثور ، ووجه أسد ، ووجه إنسان ، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان ، فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق ، وأما جناحان فيهفو بهما ، كما يهفو هذا الطائر بجناحيه إذا حركه ليس لهم كلام إلا التسبيح والتحميد . قوله عز وجل : { يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } يصدقون بأنه واحد لا شريك له .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عمر بن عبد الله الرقاشي ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا هارون بن رباب ، حدثنا شهر بن حوشب ، قال : حملة العرش ثمانية فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم ، وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . وكأنهم ينظرون ذنوب بني آدم . قوله عز وجل : { ويستغفرون للذين آمنوا ربنا } أي : يقولون ربنا { وسعت كل شيء رحمةً وعلما } قيل : نصب على التفسير . وقيل : على النقل ، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء . { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } دينك { وقهم عذاب الجحيم } قال مطرف : أنصح عباد الله للمؤمنين هم الملائكة ، وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }
يقول تعالى ذكره : الذين يحملون عرش الله من ملائكته ، ومن حول عرشه ، ممن يحفّ به من الملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : يصلون لربهم بحمده وشكره وَيُؤْمِنُونَ بِهِ يقول : ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك ، لا يستكبرون عن عبادنه وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا يقول : ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله ، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم ، فيعفوها عنهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا لأهل لا إله إلا الله .
وقوله : رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما ، وفي هذا الكلام محذوف ، وهو يقولون ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون : يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما . ويعني بقوله : وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما : وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك ، فعلمت كلّ شيء ، فلم يخف عليك شيء ، ورحمت خلقك ، ووسعتهم برحمتك .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم ، فقال بعض نحويي البصرة : انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا ، لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء ، وهو مفعول له ، والفاعل التاء ، وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا ، وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء ، فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل وقال غيره : هو من المنقول ، وهو مفسر ، وسعت رحمته وعلمه ، ووسع هو كلّ شيء رحمة ، كما تقول : طابت به نفسي ، وطبت به نفسا ، وقال : أمالك مثله عبدا ، فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا ، والمثل غير معلوم ، ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة ، فلذلك نصب العبد ، وله أن يرفع ، واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
ما في مَعَدّ والقَبائِلِ كُلّها *** قَحْطانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدودُ
وقال : رد «الواحد » على «مثل » لأنه نكرة ، قال : ولو قلت : ما مثلك رجل ، ومثلك رجل ، ومثلك رجلاً ، جاز ، لأن مثل يكون نكرة ، وإن كان لفظها معرفة .
وقوله : فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك ، فرجع إلى توحيدك ، واتبع أمرك ونهيك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فاغْفِرْ للّذِينَ تابُوا من الشرك .
وقوله : واتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه ، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه ، وذلك الدخول في الإسلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة واتّبَعُوا سَبِيلَكَ : أي طاعتك .
وقوله : وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ يقول : واصرف عن الذين تابوا من الشرك ، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين يحملون عرش الله من ملائكته، ومن حول عرشه، ممن يحفّ به من الملائكة "يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ "يقول: يصلون لربهم بحمده وشكره "وَيُؤْمِنُونَ بِهِ" يقول: ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويشهدون بذلك، لا يستكبرون عن عبادته "وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا" يقول: ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم، فيعفوها عنهم...
وقوله: "رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما"، وفي هذا الكلام محذوف، وهو يقولون، ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا، يقولون: يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. ويعني بقوله: "وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما": وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك، فعلمت كلّ شيء، فلم يخف عليك شيء، ورحمت خلقك، ووسعتهم برحمتك...
وقوله: "فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ" يقول: فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك، فرجع إلى توحيدك، واتبع أمرك ونهيك...
وقوله: "واتّبَعُوا سَبِيلَكَ" يقول: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه، وذلك الدخول في الإسلام...
وقوله: "وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ" يقول: واصرف عن الذين تابوا من الشرك، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا} هذه أرجى آية للمؤمنين. والآيات التي فيها استغفار الرسل للمؤمنين من نحو قول نوح عليه السلام حين قال: {ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} [نوح: 28] وقول إبراهيم، صلوات الله عليه، {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [إبراهيم: 41] وما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حين قال له: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]؛ لأنه لا يُحتمل أن يأمر بالاستغفار لهم، ثم لا يجيبه إذا فعل، فرحمة الدنيا يدخل فيها الكافر والمؤمن، فأما رحمة الآخرة فهي للمؤمنين خاصة، وهي كما ذكر في قصة موسى عليه السلام حين قال: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} إلى قوله: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} الآية [الأعراف: 156].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17] فأبان بذلك فضل الإيمان...
وقد روعي التناسب في قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم؛ وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن؛ فإنه لا تجالس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضي قط، ثم لما جاء الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى:
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: 5]...
اعلم أنه تعالى لما بيَّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين، بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا، فإن حملة العرش معك والحافون من حول العرش معك ينصرونك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة، ومن حوله من الكروبيين، بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي: يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح.
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم {يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم:"إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...يقال: إنه لما بين حقوق كلمة العذاب، كان كأنه قيل: فكيف النجاة؟ قيل: بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران؛ ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية، فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر...
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك، إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه: {يسبحون بحمد} وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد، وكائنون تحت تصرفه وقهره، وإحسانه وجبره، فقال: {ربهم} أي بإحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال...
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة، لا فرق بينهم في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله: {ويؤمنون به} لأن الإيمان إنما يكون بالغيب.
ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً؛ لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم؛ لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله: {ويستغفرون} أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً...
ولما كان المراد بيان اتساع رحمته سبحانه وعلمه، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال: {وسعت كل شيء} ثم بين جهة التوسع بقوله تمييزاً محولاً عن الفاعل: {رحمة} أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك.
{وعلماً} أي وأحاط بهم علمك، فمن أكرمته فعن علم بما جبلته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك: {فاغفر للذين تابوا} أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها.
{واتبعوا} أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا {سبيلك} المستقيم الذي لا لبس فيه.
ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: {وقهم عذاب الجحيم} أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نحن لا نعرف ما هو العرش؟ ولا نملك صورة له، ولا نعرف كيف يحمله حملته، ولا كيف يكون من حوله؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها، ولا من الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحداً من المتجادلين عليها؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عباداً مقربين من الله (يسبحون بحمد ربهم) (ويؤمنون به).. وينص القرآن على إيمانهم -وهو مفهوم بداهة- ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر.. هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن، وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال يقولون: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم -في طلب الرحمة للناس- إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون.
(فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة، وبصفة الله هناك: (غافر الذنب وقابل التوب).. كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيم، بصفة الله: (شديد العقاب)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى ذكر الثناء على المؤمنين، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري على ألسنة الرسل إذ الجميع من وحي الله، والمناسبة المضادَّةُ بين الحالين والمقالين. وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعاً من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة [الشورى: 5] {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} أي من المؤمنين بقرينة قوله فيها بعده: {والذين اتخذوا من دونه أولياء اللَّه حفيظ عليهم} [الشورى: 6].
و {الذين يحمِلُون العَرْش} هم الموكَّلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات، ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17].
{من حَوله} طائفة من الملائكة تحفّ بالعرش تحقيقاً لعظمته قال تعالى:
{وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم} [الزمر: 75]، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31].
والإِخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به؛ توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممن دأبهم التسبيح وصفتهم الإِيمان. وصِيغةُ المضارع في {يسبحون} و {يؤمنون} و {يستغفرون} مفيدة لتجدد ذلك وتكرره، وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله:
{فاغفر للذين تابوا} وقوله: {وأدخِلهم جَنَّات عَدنٍ التي وعَدتَّهُم} [غافر: 8] وقوله: {ومَن تَقِ السَّيِئات} [غافر: 9] الخ.
ومعنى تجدد الإِيمان المستفاد من {ويؤمنون} تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة، وإلا فإن الإِيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره.
والباء في {بِحَمْد رَبهِم} للملابسة، أي يسبحون الله تسبيحاً مصاحباً للحمد، فحذف مفعول {يسبحون} لدلالة المتعلِّق به عليه.
المراد ب {الذين آمنوا} المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحاً لكل المؤمنين.
وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء؛ لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإِجابة، وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه؛ لأن سعة الرحمة مما يُطمِع باستجابة الغفران، وسعة العلم تتعلق بثبوت إيمانِ الذين آمنوا. ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقاتهما، وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل، أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك.
وجيء في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوَّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهراً حتى كأنَّ ذاته هي التي وَسِعَتْ، فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرِد بعدَه فيجيء بعده التمييز المبيِّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم، وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب؛ لأن للتفصيل بعد الإِجمال تمكيناً للصفة في النفس كما في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} [مريم: 4].
{كُلَّ شيءٍ} كل موجود، وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة، أي كل شيء محتاج إلى الرحمة، وتلك هي الموجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار، من الإِنسان والحيوان، إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحَجر والشجر ونحوهما.
وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالى: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14].
ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم؛ اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب.
وتَفَرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسَّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا؛ لأنه إذا كان قد عَلم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كلَّ شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها.
ومفعولُ {فاغفر} محذوف للعلم، أي اغفر لهم ما تابوا منه، أي ذنوب الذين تابوا.
المراد بالتوبة: الإِقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله.
اتباع سبيل الله هو العمل بما أمرهم واجتنابُ ما نهاهم عنه، فالإِرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشَوا فيه فوصلوا إلى المقصود.
الجحيم: شدة الالتهاب، وسميت به جهنم دارُ الجزاء على الذنوب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يتضح من أسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة، بينما كان الأعداء في أوج قوتهم، يتمتعون بالإمكانات الكبيرة ويسيطرون على السلطة.
بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين والصابرين، بأنّكم لستم وحدكم، فلا تشعروا بالغربة أبداً، فحملة العرش الإلهي والمقربون منه، وكبار الملائكة معكم يؤيدونكم، إنّهم في دعاء دائم لكم، ويطلبون لكم من الله النصر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة وهذا هو أفضل أُسلوب للتعاطف مع المؤمنين في ذاك اليوم، وهذا اليوم، وغداً.