تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (7)

الآية 7 وقوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } قد ذكرنا في غير موضع أن التسبيح بحمد ربهم ، هو الثناء عليه والحمد له بالتبرئة والتنزيه عن جميع أوصاف الخلق ومعانيهم عن جميع ما قالت المُلحِدة فيه .

وقوله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا } هذه أرجى آية للمؤمنين . والآيات التي فيها استغفار الرسل للمؤمنين من نحو قول نوح عليه السلام حين{[18147]} قال : { ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات } [ نوح : 28 ] وقول إبراهيم ، صلوات الله عليه ، { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } [ إبراهيم : 41 ] وما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حين{[18148]} قال له : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ] لأنه لا يُحتمل أن يأمر بالاستغفار لهم ، ثم لا يجيبه إذا فعل .

ثم قال بعض المعتزلة : إن قوله عز وجل { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } إنما هو في الذنوب التي ليس له أن يعذّبهم عليها ، وهي الصغائر ، وليس له أن يغفر للكفار . ويستدل على ذلك بقوله : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ غافر : 7 ] .

إنما أمره أن يستغفر للذي تاب . فأما من لم يتب لم يأمره بالاستغفار . فيجب القول بما قلنا عملا بالآيتين .

لكن نقول نحن : إنه لو كان استغفاره لمن ذكر خاصة لأصحاب الصغائر على ما قالوا يصير كأنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : استغفر لهم ، إذ هم مفغورة ذنوبهم ، فيجعل{[18149]} قولهم على ما ذكرنا . وذلك كفر ووحش من القول ، والله أعلم .

ثم يجيء أن تكون المعتزلة والخوارج في الظاهر أبعد الخلائق عن المعاصي وأقربهم إلى الطاعات ، ونحن أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم عن الطاعات لأنهم لا يرون النجاة إلى بأعمالهم ، ولا يرونها{[18150]} برحمة الله ولا بشفاعة أحد ، ولكن بأعمالهم ، فيجب أن يكونوا أبدا متّكلين ملازمين على الطاعات في كل وقت وساعة ، لا يعصون الله طرفة عين .

ونحن لم نر النجاة بالأعمال ، ولكن إنما نرى ذلك برحمة الله تعالى وبشفاعة من ارتضى شفاعته . فيجب أن نكون معتمدين على رحمة الله وفضله غير مشتغلين بشيء من الطاعات .

ثم في الحقيقة يجب أن يكونوا هم أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم عن الطاعات ، ونحن ألزم الخلائق بالطاعات وأبعدهم عن المعاصي ؛ لأنا نرى عند الله لطائف وفواضل باقية ، لم يعطنا [ إياها ]{[18151]} ما لو أعطانا ثم يصدر منا إلا الخير والطاعات ، وسلّمنا من المعاصي وأنواع الشرور ، وعصمنا . فيجب أن نكون متّكلين على الطاعات لنصل إلى تلك /474 – ب/ اللطائف .

وهم لا يرون بقي عنده شيء من اللطائف ، بل يقولون : قد أعطانا كل شيء حتى لم يبق شيء عنده من مصالح الدين ، فيجب أن يكونوا [ على ]{[18152]} ما ذكرنا ، والله أعلم .

ثم قولنا : إن الله تعالى ينجّينا برحمته وبشفاعة من جعل له الشفاعة لا بأعمالنا .

وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[18153]} قال : ( لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله . قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته ) [ مسلم 2816/71 و 2818/76 ] والمعتزلة يقولون : لا بل ندخل بأعمالنا وكذلك قول الخوارج .

وأصل قولنا : إن الله عز وجل لن يعذّب عبادة على جميع المعاصي على الصغائر والكبائر جميعا ، وله أن يغفر المعاصي سوى الشرك والكفر على ما ذكرنا من دلائل الآيات وغيرها .

وقوله تعالى : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً } قوله : { وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً } فرحمة الدنيا يدخل فيها الكافر والمؤمن . فأما رحمة الآخرة فهي للمؤمنين خاصة ، وهي كما ذكر في قصة موسى عليه السلام حين{[18154]} قال : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } إلى قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون } الآية [ الأعراف : 156 ] وقال{[18155]} : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ الأعراف : 32 ] .

وقوله : { وعلما } أي علم من فيها من الخلق .

وقوله تعالى : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ يحتمل وجهين :

أحدهما{[18156]} : { فاغفر للذين تابوا } عن الشرك { واتبعوا سبيلك } أ ] دينك ، وهو{[18157]} الإسلام .

والثاني : أي فاغفر للذين تابوا عن الكبائر والفواحش { واتبعوا سبيلك } أي طاعتك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } ظاهر .

ثم قوله : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } لا يمكن العمل بها على قول المعتزلة لأن رحمة الله عندهم لا تسع لذنب واحد فإنه ليس له أن يعفو عنه . فإن عندهم أن من ارتكب كبيرة ليس له أن يرحمه ، ولكن يعاقبه على زعمهم خالدًا مخلَّدًا . وإذا كان [ هذا ]{[18158]} قولهم ومذهبهم ، فليست رحمته بواسعة بزعمهم .

ثم يقولون أيضا : إن الله تعالى قد هدى كل كافر ، وأعطاه ما يهتدي به ، وإنه لم يبق عنده ما يهدي به . فعلى هذا القول رحمته لا تسع لهداية كافر . فإذن رحمة الله تعالى بزعمهم على خلاف ما ذكر الله تعالى . ووصفها بالسعة ، والله الموفّق .

وأما عندنا فهي{[18159]} ما ذكرنا من جميع الكل في ذلك لما ذكرنا أن تلك الرحمة الدنيوية أو ما ذكرنا من كون اللطائف عنده : من أعطاها اهتدى ، والله الموفّق .


[18147]:في الأصل وم: حيث.
[18148]:في الأصل وم: حيث.
[18149]:في الأصل وم: فيحصل.
[18150]:في الأصل وم: يرون.
[18151]:ساقطة من الأصل وم.
[18152]:ساقطة من الأصل وم.
[18153]:ساقطة من الأصل وم.
[18154]:في الأصل وم: حيث.
[18155]:في الأصل وم: وقوله.
[18156]:في الأصل: وجوها أحدها، في م: يحتمل وجوها أحدها.
[18157]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[18158]:ساقطة من الأصل وم.
[18159]:في الأصل وم: فهو.