غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (7)

1

وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش ، والحافون حوله يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل : إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزناً فإن الأشراف يحابونهم . روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يعرفون طرفهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور " وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة . وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقّة : 17 ] أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله . أما الذين حول العرش فقيل : سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب الكشاف . سؤال : ما فائدة قوله { ويؤمنون به } ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون ؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه . وأيضاً فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب ، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال .

واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال : لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخراً وشرفاً . وأنا أقول : لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن . وإن شئت فتأمل قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله { بالغيب } فائدة . على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلهاً ، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوباً عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة ؟ وقال بعضهم في الجواب : أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة . وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له ، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ . قلت : لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك ؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه ؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه وارداً على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما ، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما . قال جار الله : وقد روعي التناسب في قوله { ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولاسيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي ، والروحاني إلى العنصري . احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا : لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم " ابدأ بنفسك " أن يستغفروا أوّلاً لأنفسهم قال الله تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ]

{ وقال نوح رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً } [ نوح : 28 ] قلت : لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية ، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد . لو سلم أن قوله { للذين آمنوا } عام أن يكون المستغفر له عاصياً على أنه قد خص الاستغفار في قوله { فاغفر للذين تابوا } وهذا فيه بحث يجيء . وفي قولهم { ربنا وسعت كل شيء رحمة } ولو بإعطاء الوجود { وعلماً } وقد مر في " الأنعام " إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدماً على الدعاء . وفي لفظ { ربنا } خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر " آل عمران " كأن الداعي يقول : كنت نفياً صرفاً وعدماً محض فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك ، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقاً وصفاء . وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا : ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين . قالت علماء المعتزلة : الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون ، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة ، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق . وقال علماء السنة : إن مراد الملائكة { فاغفر للذين تابوا } عن الكفر { واتبعوا سبيلك } الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب ، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً . قال أهل التحقيق : هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] أما قوله { وقهم عذاب الجحيم } فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية .

/خ22