البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (7)

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 7 )

لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم ، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه ، وهم حمله العرش ، { ومن حوله } ، وهم الحافون به من الملائكة .

وذكروا من وصف تلك الجملة وعظم خلقهم ، ووصف العرش ، ومن أي شيء خلق ، والحجب السبعينيات التي اختلفت أجناسها ، قالوا : احتجب الله عن العرش وعن حامليه ، والله أعلم به على أن قدرته تعالى محتملة لكل ما ذكروه مما لا يقتضي تجسيماً ، لكنه يحتاج إلى نقل صحيح .

وقرأ الجمهور : { العرش } بفتح العين ؛ وابن عباس وفرقة : بضمها ، كأنه جمع عرش ، كسقف وسقف ، أو يكون لغة في العرش .

{ يسبحون بحمد ربهم } : أي ينزهونه عن جميع النقائص ، { بحمد ربهم } : بالثناء عليه بأنه المنعم على الإطلاق .

والتسبيح : إشارة إلى الإجلال ؛ والتحميد : إشارة إلى الإكرام ، فهو قريب من قوله : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } ونظيره : { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق } وقولهم : ونحن نسبح بحمدك .

{ ويؤمنون } : أي ويصدقون بوجوده تعالى وبما وصف به نفسه من صفاته العلا ، وتسبيحهم إياه يتضمن الإيمان .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة قوله : { ويؤمنون به } ، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون ؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابة بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله : { ثم كان من الذين آمنوا } فأبان بذلك فضل الإيمان .

وفائدة أخرى ، وهي التبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهد بن معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب .

ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الإجرام .

وقد روعي التناسب في قوله : { ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } ، كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم ، وفيه تنبيه على أن الإشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة ، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن ، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان ، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض ، قال تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } انتهى ، وهو كلام حسن .

إلا أن قوله : إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر ، وقوله : { ويستغفرون للذين آمنوا } تخصيص لعموم قوله : { ويستغفرون لمن في الأرض } .

وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية . انتهى .

وينبغي أن يقال : أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة .

{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } : أي يقولون : ربنا واحتمل هذا المحذوف بياناً ليستغفرون ، فيكون في محل رفع ، وأن يكون حالاً ، فيكون في موضع نصب .

وكثيراً ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب ، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه ، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب .

وانتصب رحمة وعلماً على التمييز ، والأصل : وسعت رحمتك كل شيء ، وعلمك كل شيء ؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة ، كأن ذاته هي الرحمة والعلم ، وقد وسع كل شيء .

وقدم الرحمة ، لأنهم بها يستمطرون أحسانه ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة .

ولما حكى تعالى عنهم كيفية ثنائهم عليه ، وأخبر باستغفارهم ، وهو قولهم : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } .

وطلب المغفرة نتيجة الرحمة ، وللذين تابوا يتضمن أنك علمت توبتهم ، فهما راجعان إلى قوله : { رحمة وعلماً } ، و { اتبعوا سبيلك } ، وهي سبيل الحق التي نهجتها لعبادك ، { إنك العزيز } : الذي لا تغالب ، { الحكيم } : الذي يضع الأشياء مواضعها التي تليق بها .

ولما طلب الغفران يتضمن إسقاط العذاب ، أرادفوه بالتضرع بوقايتهم العذاب على سبيل المبالغة والتأكيد ، فقالوا : { وقهم عذاب الجحيم } ، وطلب المغفرة ، ووقاية العذاب للتائب الصالح ، وقد وعد بذلك الوعد الصادق بمنزلة الشفاعة في زيادة الثواب والكرامة .