السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (7)

ولما بين تعالى أن الكفار بالغوا في إظهار العداوة للمؤمنين بقوله : { ما يجادل في آيات الله } وما بعده ، بين تعالى أن الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حوله يبالغون في إظهار المحبة والنصر للمؤمنين فقال تعالى : { الذين يحملون العرش } وهو مبتدأ وقوله : { ومن حوله } عطف عليه وقوله تعالى : { يسبحون } خبره { بحمد ربهم } أي : المحسن إليهم ، قال شهر بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال : وكأنهم يرون ذنوب بني آدم وقيل : إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى بأربعة أخر كما قال تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ( الحاقة : 17 ) وهم من أشراف الملائكة وأفضلهم لقربهم من محل رحمة ربهم قال ابن الخازن : وجاء في الحديث : أن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر ، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجه مخافة أن ينظر إلى العرش فيضعف وجناحان يهفو بهما في الهواء ، ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد ، ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء . وقال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرض والأرضون والسماوات إلى حجزتهم وهم يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وقال ميسرة بن عرفة : أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها . وقال مجاهد : بين الملائكة والعرش سبعون ألف حجاب من نور وسبعون ألف حجاب من ظلمة . وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » ، وأما صفة العرش فقيل : أنه من جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقاً . روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطائر المسرع ثلاثين ألف عام ، ويكسي العرش كل يوم سبعين ألف لون من نور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى كلها ، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة ، وقال مجاهد : بين السماء السابعة والعرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة . وقيل : إن العرش قبلة أهل السماء كما أن الكعبة قبلة أهل الأرض ، وأما من حول العرش فهم الكروبيون وهم سادات الملائكة . قال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم على أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأحلمك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر ، الخلق كلهم لك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلثمائة عام ، وما بين شحمتي أذنيه إلى عاتقه أربعمائة عام ، وقد احتجب الله عز وجل عن الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من در أبيض وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من برد ، وما لا يعلم علمه إلا الله تعالى ، فسبحان من له هذا الملك العظيم .

ولما كان تعالى لا يحيط به علماً أحد من خلقه أشار إلى أنهم مع قربهم كغيرهم لا فرق في ذلك بينهم وبين من في الأرض السفلى بقوله تعالى : { ويؤمنون به } لأن الإيمان إنما يكون بالغيب فهم يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له ، فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : { ويؤمنون به } ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون ؟ أجيب : بأن فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في غير موضع من كتابه بالصلاح ، لذلك وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } فأبان بذلك فضل الإيمان ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف وكان أقرب ما يتقرب به إلى الملك لتقربه إلى أهل وده نبه سبحانه بقوله تعالى : { ويستغفرون } أي : يطلبون محو الذنوب عيناً وأثراً { للذين آمنوا } أي : أوقعوا هذه الحقيقة فهم يستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم ، وفي ذلك تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعث على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن ، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ولا بين سماوي وأرضي قط ، ولكن لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض قال تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } ( الشورى : 5 )

واستغفارهم بأن يقولوا { ربنا } أي : أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره فهو معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل يستغفرون أو خبر بعد خبر { وسعت كل شيء رحمة وعلماً } أي : وسعت رحمتك كل شيء وعلمك كل شيء ، فأزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم كأنَّ ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء ، وأكثر ما يكون الدعاء بذكر الرب لأن الملائكة قالوا في هذه الآية وقال آدم عليه السلام : { ربنا ظلمنا أنفسنا } ( الأعراف : 23 ) وقال نوح عليه السلام : { رب إن قومي كذّبون } ( الشعراء : 117 ) وقال : { رب اغفر لي ولوالدي } ( إبراهيم : 41 ) وقال إبراهيم عليه السلام : { رب أرني كيف تحيي الموتى } ( البقرة : 260 ) وقال : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } ( البقرة : 128 ) وقال يوسف عليه السلام : { رب قد آتيتني من الملك } ( يوسف : 101 ) وقال موسى عليه السلام : { ربّ أرني أنظر إليك } ( الأعراف : 143 ) وقال : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } ( القصص : 16 ) وقال سليمان عليه السلام : { رب اغفر لي وهب لي ملكاً } ( ص : 35 ) وقال عيسى عليه السلام : { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } ( المائدة : 114 ) وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } ( المؤمنون : 97 ) .

فإن قيل : لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ رب بالدعاء ؟ أجيب : بأن العبد يقول : كنت في العدم المحض والنفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك وإحسانك سبباً لإجابة دعائي { فاغفر للذين تابوا } أي : رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوها عيناً وأثراً فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها { واتبعوا } أي : كلفوا أنفسهم على مالها من العوج أن لزموا { سبيلك } المستقيم الذي لا لبس فيه . ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب وكان سبحانه وتعالى له أن يعذب من لا ذنب له وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا : { وقهم عذاب الجحيم } أي : اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ولا يبدل القول لديك وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء وإن الخلق عبيدك .